الفهم القاصر للحق الباصر (بين البيروني وابن خلدون)
د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 474
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
وقف بعض الباحثين على ألفاظ لابن خلدون تشبه ما للبيروني من ألفاظ في الموضوع نفسه فعدّها منقولة منه وأغفل الإشارة إلى صاحبها الأصلي ليتحقق له السبق في ابتكار علم الاجتماع الذي هو في الحقيقة للبيروني ويستطرد ليتكرم بعد عجيج من الكلام ليقول لنا هو شركة بينهما.
هذا كل ما يقوم عليه كتاب «أبو الريحان البيروني المفكر الأكبر» الذي خصصناه بمقالين سابقين. وفي هذا المقال نريد أن ننصف ابن خلدون من دعوى مؤلفه الذي يفخر بأنه الأول يقول بذلك. لوجه من؟ بالطبع يقول لوجه العلم والحقيقة. وسنعرف مصداق ذلك من خلافه.
أولا من خلال ألفاظ ابن خلدون في حديثه عن نفسه في هذا العلم الجديد الذي سماه دون أن يغفل سابقيه من حكماء وفلاسفة وفقهاء وكتاب ومؤرخين، ولم يبخل عن ذكرهم عموما لا تفصيلا حديث العالم المحقق الصادق الأمين وصاحب المعرفة الواسعة بتراث الأمم والشعوب والحضارات والمتحري للدقة في الحكم والتقدير.
ثم ثانيا من خلال خبر المرأة السمرقندية الذي استند إليه صاحبنا مؤلف هذا الكتاب في دعواه.
أقوال ابن خلدون:
«إذا كانت كل حقيقة متعقّلة طبيعية ، يصلح أن يبحث عمّا يعرض لها من العوارض لذاتها وجب أن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه. «وأما الأخبار عن الواقعات فلا بدّ في صدقها وصحّتها من اعتبار المطابقة فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعها وصار فيها ذلك أهمّ من التّعديل ومقدّما عليه إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشريّ الّذي هو العمران ونميّز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتدّ به وما لا يمكن أن يعرض له وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار والصّدق من الكذب بوجه برهانيّ لا مدخل للشّكّ فيه وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله ممّا نحكم بتزييفه وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرّى به المؤرّخون طريق الصّدق والصّواب فيما ينقلونه وهذا هو غرض هذا الكتاب الأوّل من تأليفنا وكأنّ هذا علم مستقلّ بنفسه فإنّه ذو موضوع وهو العمران البشريّ والاجتماع الإنسانيّ وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى وهذا شأن كلّ علم من العلوم وضعيّا كان أو عقليّا.
«واعلم أنّ الكلام في هذا الغرض مستحدث الصّنعة غريب النّزعة عزيز الفائدة أعثر عليه البحث وأدّى إليه الغوص وليس من علم الخطابة إنّما هو الأقوال المقنعة ولا هو أيضا من علم السّياسة المدنية إذ السياسة المدنيّة هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النّوع وبقاؤه فقد خالف موضوعة موضوع هذين الفنّين اللّذين ربّما يشبهانه وكأنّه علم مستنبط النّشأة ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة ما أدري ألغفلتهم عن ذلك وليس الظّنّ بهم أو لعلّهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا من فالعلوم كثيرة ممّا وصل فأين علوم الفرس الّتي أمر عمر رضي الله عنه بمحوها عند الفتح وأين علوم الكلدانيّين والسّريانيّين وأهل بابل وما ظهر عليهم من آثارها ونتائجها وأين علوم القبط ومن قبلهم وإنّما وصل إلينا علوم أمّة واحدة وهم يونان خاصّة لكلف المأمون بإخراجها من لغتهم واقتداره على ذلك بكثرة المترجمين وبذل الأموال فيها ولم نقف على شيء من علوم غيرهم وإذا كانت كلّ حقيقة متعلّقة طبيعيّة يصلح أن يبحث عمّا يعرض لها من العوارض لذاتها وجب أن يكون باعتبار كلّ مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصّه لكنّ الحكماء لعلّهم إنّما لاحظوا في ذلك العناية بالثّمرات وهذا إنّما ثمرته في الأخبار فقط كما رأيت وإن كانت مسائله في ذاتها وفي اختصاصها شريفة لكن ثمرته تصحيح الأخبار وهي ضعيفة فلهذا هجروه والله أعلم ﴿وَما أُوتِيتُمْ من الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
«وهذا الفن الذي لاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم وهي من جنس مسائله بالموضوع والطلب مثل ما يذكره الحكماء والعلماء في إثبات النّبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع ومثل ما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللّغات أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع وتبيان العبارات أخفّ ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعيّة بالمقاصد في أن الزّنا مخلط للأنساب مفسد للنوع وأنّ القتل أيضا مفسد للنوع وأنّ الظّلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النّوع وغير ذلك من سائر المقاصد الشّرعيّة في الأحكام فإنّها كلّها مبنيّة على المحافظة على العمران فكان لها النّظر فيما يعرض له وهو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثّلة وكذلك أيضا يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرّقة لحكماء الخليقة لكنّهم لم يستوفوه فمن كلام الموبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم التي نقلها المسعوديّ. «أيّها الملك إنّ الملك لا يتمّ عزّه إلّا بالشّريعة والقيام للَّه بطاعته والتّصرّف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشّريعة إلّا بالملك ولا عزّ للملك إلّا بالرّجال ولا قوام للرّجال إلّا بالمال ولا سبيل للمال إلّا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرّبّ وجعل له قيّما وهو الملك» . ومن كلام أنوشروان في هذا المعنى بعينه «الملك بالجند والجند بالمال والمال بالخراج والخراج بالعمارة والعمارة بالعدل والعدل بإصلاح العمّال وإصلاح العمّال باستقامة الوزراء ورأس الكلّ بافتقاد الملك حال رعيّته بنفسه واقتداره على تأديبها حتّى يملكها ولا تملكه. وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في السّياسة المتداول بين الناس جزء صالح منه إلّا أنه غير مستوف ولا معطي حقّه من البراهين ومختلط بغيره وقد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات الّتي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان وجعلها في الدائرة القريبة التي أعظمَ القول فيها هو قوله: «العالم بستان سياجه الدولة الدّولة سلطان تحيا به السّنّة السّنّة سياسة يسوسها الملك الملك نظام يعضده الجند الجند أعوان يكفلهم المال المال رزق تجمعه الرّعيّة الرّعيّة عبيد يكنفهم العدل العدل مألوف وبه قوام العالم العالم بستان» ثمّ ترجع إلى أوّل الكلام. فهذه ثمان كلمات حكميّة سياسيّة ارتبط بعضها ببعض وارتدّت أعجازها إلى صدورها واتّصلت في دائرة لا يتعيّن طرفها فخر بعثوره عليها وعظّم من فوائدها. «وأنت إذا تأمّلت كلامنا في فصل الدّول والملك وأعطيته حقّه من التّصفّح والتّفهّم عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات وتفصيل إجمالها مستوفى بيّنا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان وكذلك تجد في كلام ابن المقفّع وما يستطرد في رسائله من ذكر السّياسات الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهنّاه إنّما يجليها في الذّكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسّل وبلاغة الكلام وكذلك حوّم القاضي أبو بكر الطّرطوشيّ في كتاب سراج الملوك وبوّبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله لكنّه لم يصادف فيه الرّمية ولا أصاب الشّاكلة ولا استوفى المسائل ولا أوضح الأدلّة إنّما يبوّب الباب للمسألة ثمّ يستكثر من الأحاديث والآثار وينقل كلمات متفرّقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر والموبذان وحكماء الهند والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة ولا يكشف عن التّحقيق قناعا ولا يرفع البراهين الطّبيعيّة حجابا إنّما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ وكأنّه حوّم على الغرض ولم يصادفه ولا تحقّق قصده ولا استوفى مسائله ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما وأعثرنا على علم جعلنا بين نكرة وجهينة خبره فإن كنت قد استوفيت مسائله وميّزت عن سائر الصّنائع أنظاره وأنحاءه فتوفيق من الله وهداية وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره فللناظر المحقق إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطّريق والله يهدي بنوره من يشاء». (انتهى من المقدمة)
هل كنت تراه سيحرم نفسه للظن باحتمال أن يكون لم يعرف به فيما اطلع عليه من تراث الأولين؟
أفما كفاك من حقّه أنه ذكر فيمن ذكر من السابقين ابن سينا الذي بدوره نوّه بالبيروني في علومه بالرياضيات والفلك من اختصاصاته حتى تطعن على صاحب المقدمة بأنه أغفله وأهمله وأغضى عنه تقديما لنفسه عليه في علم لم ير أن ينسبه لغير نفسه تحسباً لمن يشكّك في حقّه أن يمنّ على الله الذي هداه إلى علم بصورته تلك لا بما تلمّسه مَن ذكرهم قبله من مسائله وقوانينه في السياسة والأخلاق والحكمة وفقه الشريعة، لا للتاريخ ولفهم الوقائع والأحداث ولسيرورة الكون.
ولتكذيبه تقرّر لنا كالتلاميذ نسمعك أن لا يتبادر لنا أن البيروني كان رائجَ الصّيت في المشرق وأن ذكره لم يصل عبر قرون إلى الغرب الإسلامي، لذلك لم نجد له ذكرا عند ابن خلدون في المقدمة وفي التاريخ! وتُمعن في اللجاج فتقول بأن هذا الاحتمال سرعان ما ينتفي حين نعرف أن البيروني سرى ذكره بين المغاربة (...) وحتى نصدّقك تأتينا بالعجاب فتقول: «وحسبي هنا أن أورد مثلا يوضح ما أشرت إليه أن امرأة من العامة في سمرقند (في أوزبكستان الحالية) سمعت عن زاهد عابد مجاب الدعوة في إفريقية هو البهلول ابن راشد(١٩٨هـ ) فرأت بعد الإقلاع عن مجونها أن ترسل إليه رسالة تلتمس فيها منه أن يدعو لها بمزيد التقوى وسلمت هذه الرسالة إلى أحد الحجاج من موطنها وهو بدوره قد سلمها إلى أحد الحجاج القرويين [القيروانيين] بالمدينة كي يوصلها إلى البهلول وهو ما تم فعلا ونص هذه الرسالة في طبقات علماء إفريقية وتونس: إني من امرأة من أهل سمرقند خراسان: إني امرأة مجنت مجونا لم تمجنه إلا هي قالت : ثم إني تبت إلى الله عز وجل وسألت عن العباد من أقطار الأرض فوصف لي أربعة بهلول إفريقية رابع الثلاثة فسالتك بالله يا بهلول إلا سألت الله عز وجل أن يديم ما فتح لي فيه قال(دحيون ) فسقط الكتاب من يده وخر على وجهه فما زال يبكي حتى لصق الكتاب بطين دموعه ثم قال يا بهلول ذكرت بخراسان الويل لك يا بهلول من الله إن لم يستر عليك يوم القيامة !
وتمضي الى القول «وإذن ما هو سبب وراء عدم ذكر ابن خلدون البيروني؟ إن إغضاء ابن خلدون عن ذكر البيروني إنما هو إغضاء قصدي وذلك من أجل أن يتحقق له السبق في ابتكار علم الاجتماع الذي هو في الحقيقة شركة بينهما». أي يتكرّم عليه بالشركة في تأسيس علم الاجتماع. ويأتينا في كتاب ينشره بعد 60 عاما في التربية والتعليم بالمدارس الابتدائية والثانوية والجامعة لتنزع عنا الهالة التي اكتسبناها بابن خلدون شرقا وغربا، ويقرر لنا خلافا لجميع الدارسين أمراً لا يقبله إلا عقل مبتدئ على مقاعد الدراسة، وهو أن ابن خلدون كان المسترق من البيروني علم الاجتماع.
ولإقناعنا بدعواك تأتينا بخبر المرأة السمرقندية الذي انتسختْ معانيه في ذهنك من بقايا تحقيق كتاب طبقات لأبي العرب القيرواني، بمعية زميلك السوري نعيم اليافي المنكب آنذاك على رسلة الدكتوراه في شعر أبي تمام، والذي لم يشارك في الحقيقة في مخطوط أبي العرب إلا عن طريق شغال لديه كما وصفته لي، يسعى بين بيته في الدقي ودار الكتب الوطنية في باب الخلق لغاية تحقيق هذا الكتاب على بعض المخطوطات هناك والمصادر المتوفرة، وكان من زملائكما في الدراسة بكلية الآداب بمقابل زهيد واسمه فيما أذكر زينهم، والذي أصبح فيما بعد بسبب هذه الشُّغلانة - كما يقول المصريون - محققا لكثير من المخطوطات في تاريخ إفريقية والمغرب بعد هذا الكتاب اليتيم الذي نشرته أنت فيما بعد في تونس دون تنويه بما قدمه لكما الغلْبان زينهم من خدمة جليلة (والمتسمي الآن بالدكتور محمد زينهم أبو عزب)، ليقال عنك عند الرجوع إلى تونس إنه كانت له عناية بتاريخ القيروان زيادة على تخصصه في اللغة الفارسية كإحدى اللغات الشرقية.
هل هذا الخبر على علاته يصح نقله من كرامات هذا الزاهد دون تمحيص، فقط لأنه يصادف غرضك منه لبيان أن ابن خلدون لم يكن ليجهل البيروني أو يدعي أنه لم يبلغه سبقه إلى علم الاجتماع قبله؟ فكيف ننسى هنا تطبيق شروط تمييز الأخبار صحيحها من موضوعها لدواع ذكَرها البيروني نفسه وغيره قبله حتى لا نقول كما يريد من يريدنا أن نقول: نقلها ابن خلدون عنه؟ أم نترفع في بعض المقامات من نقلها بألفاظها، من باب (الحديث) وإذا عصيتم فاستتروا أو نقيم عليكم حدود الله! . فهذه المرأة بعد التوبة، وتجرأ على النقل على لسانها أنها اقترفت تلك الفعال ونجد في عصرنا من ينوّه بذكرها على أنها من كرامات هذا الزاهد الذي أمسك، حسب الرواية، عن الدعاء لها حين أسبل دموعه على كتابها لمجرد سماع بَوحها بالفاجرة، لعله حتى يمحو كلامها أمام عينيه استعظاما لجرأتها على دين الله وفقهائه وزهاده.