رؤية تحليلية مختصرة حول الإطار النظري للخدمة الاجتماعية (6) A brief Analytical Vision on the Theoretical Framework of Social Service
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4431
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحلقة السادسة :
* النظم الاجتماعية ( الجانب المادي لعملية التنظيم الاجتماعي ) : Social Systems
لقد تكلمنا حتى الآن عن الجانب "غير المادي" من عملية التنظيم الاجتماعي، وهو الجانب المتصل "بالتفاعل الاجتماعي" الذي ينتهي إلى إفراز المعايير والقيم الاجتماعية، ( تفاعل – علاقات اجتماعية – قيم ومعايير اجتماعية )،
كما أوضحنا دور القيم الدينية الربانية في ترشيد وتصحيح مسار تلك المكونات التفاعلية البشرية، بحيث تصبح وظيفية بمعنى أنها تؤدي وظيفتها بفعالية أكثر في تحقيق أهداف التجمع الانساني وإشباع احتاجات الانسان وتطلعاته ...
* الموارد، والعمليات التحويلية لاشباع الاحتياجات، والمؤسساتية :
وننتقل الآن لمناقشة الجوانب " المادية " Physical aspects لعملية التنظيم الاجتماعي،
ونبدأ تلك المناقشة بأن نقرر أن الله تعالى خلق الإنسان واستخلفه في الأرض لإعمارها، وسخر له جميع ما في السماوات والأرض من عناصر ومكونات ( موارد وامكانات ) لاستخدامها وتفعيلها في تحقيق عهد الاستخلاف والإعمار، وإشباع احتياجاته، وتلبية مطالبه حتى يتمكن من الوفاء بأداء رسالته في الوجود، وهو ما أوجزه القرآن الكريم في قوله تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }( الجاثية : 13 )،
ونحن ندرك – ببساطة - أن تلك الموارد (1) Resources التي خلقها الله في الطبيعة في معظم الأحيان لا يمكن استخدامها مباشرة في إشباع الحاجات الإنسانية، بل غالباً ما تحتاج إلى عمليات تحويل أو تعديل أو "تصنيع"، وهو ما يعرف في علم الاقتصاد بعملية الانتاج، التي هي في حقيقتها – كما يقرر علماء الاقتصاد : عملية تحويل مختلف عناصر الانتاج ( أرض، العمل،رأس المال، التنظيم ) إلى سلع وخدمات يكون المستهلك على استعداد لدفع ثمن لها،
هذا وقد عكف الإنسان منذ فجر التاريخ على ابتكار بعض الآلات والأدوات المادية التي تعينه على إشباع تلك الحاجات، وقد ظل البشر يتقدمون في هذا السبيل حتى توصلوا إلى ابتكار آلات متطورة وترتيبات مادية تتيح إشباع تلك الحاجات عند مستوى أفضل، وقد ارتبط هذا بازدياد الاتجاه نحو التخصص وتقسيم العمل Specialization and Division of Labor في كل من تلك العمليات التحويلية، وترتب على هذا كله أن عمليات إشباع الحاجات اليوم تتم في إطار "مؤسسات مادية" تضم المباني، والأدوات، والمهمات اللازمة لإجراء عمليات التحويل المطلوبة سواء في النواحي المادية أو الإنسانية بما يؤدى إلى إشباع الحاجات، ومثال تلك المؤسسات : المصنع، والمتجر، والبنك، والمدرسة، والمستشفي .............وهكذا.
- وقد اتفق علماء الاجتماع على تصنيف ما تشابه من الحاجات الإنسانية وغيرها من متطلبات الوجود الاجتماعي المنظم في مجموعات من الوظائف والعمليات الاجتماعية مثل : التنشئة الاجتماعية (2) Socialization، والضبط الاجتماعي (3) Social Control، والإنتاج Production، والتوزيع Distribution، ......إلخ، وكذلك تصنيف تلك "المؤسسات" (4) Institutions وفقا للوظائف التي تقوم بها، ومن تلك المؤسسات نذكر على سبيل التمثيل ما يلي :
- المؤسسات الاقتصادية : Economic institutions كالمصنع والمتجر والبنك وشركة التأمين مثلا تسمى مؤسسات "اقتصادية" حيث تختص تلك المؤسسات بالقيام بوظائف الإنتاج والتوزيع بالنسبة للموارد النادرة، وكذلك الإدخار، والاستثمار وغيرها من الجوانب الاقتصادية،
- المؤسسات التعليمية : Educational institutions كدار الحضانة، والمدرسة، ومركز التدريب، والجامعة، فكلها مؤسسات "تعليمية" تقوم بوظائف تتصل بالتنشئة الاجتماعية، والتربية، والتعليم .....وهكذا. الى غير ذلك من المؤسسات،
وهناك المؤسسات السياسية، والمؤسسات الأمنية، والمؤسسات القضائية، والمؤسسات الصحية، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية .......إلخ
- وعلى ذلك يمكن القول أن الناس ( في المجتمع ) يتجمعون في نطاق تلك المؤسسات المادية لإشباع حاجاتهم، وتحدث بينهم تفاعلات، وعلاقات نمطية، تنظمها معايير وقيم وتستند جميعا إلى قوانين وتشريعات، ترتب جزاءات على مختلف ألوان السلوك الاجتماعي التي تتم في إطارها،
* النظام الاجتماعي : Social system – S. Institution
- وقد اصطلح على تسمية كل مجموعة من تلك المؤسسات، وما تؤديه من وظائف اجتماعية حيوية، وما يحيط بتفاعل الناس وعلاقاتهم داخلها من معايير وقيم وقوانين وتشريعات وعادات وتقاليد باسم "النظام الاجتماعي" Social Institution،
وحول ماهية النظم الاجتماعية وتعريفها فلقد اختلف علماء الاجتماع وتباينت آراؤهم، وتمايزت محاولاتهم حول وضع تعريف محدد للنظم الاجتماعية، ومن بين تلك المحاولات :
- يرى " جيلين Gillen " أن النظم الاجتماعية هي الأنساق المنظمة الدائمة نسبيا للتصرف والاتجاهات والأغراض والأشياء المادية والرموز والمثل التي توجه أغلب نواحي الحياة الاجتماعية .
- ويرى " بارنز Barnes " أن النظم الاجتماعية تمثل البناء الاجتماعي والآلة التي تنظم المجتمع الإنساني وتوجه وتنفذ وجوه النشاط المتعددة التي يتطلبها تحقيق الحاجات الإنسانية .
وهذا يعني : أي أن النظام الاجتماعي لا يخرج عن كونه نسقا يربط أجزاء المجتمع بعضها مع بعض ويربط تلك الأجزاء بالمجتمع بطريقة مقصودة تتمثل في الوظائف التي تؤديها الأجزاء المتعددة نفسها وللمجتمع الذي توجد فيه والمجتمع لا يخرج عن كونه تجمعا بشريا يجتمع الناس عن طريقة في تفاعل دائم، ثم يتبلور هذا التفاعل في طرق للعمل تهدف إلى بقاء واستمرار الجماعة، والوظائف الاجتماعية تتجه أساسا إلى إرضاء عدد من الدوافع الإنسانية نفسية كالحاجة إلى الأمن، وجسمية كالحاجة إلى الطعام والمأوى والنوم (5)
- ويعرفها " جينز برج Ginsburg" بأنها : " القواعد الموضوعية والمعترف بها والتي تحكم الصلات بين أفراد الجماعة " (6).
- ويصفها " وليام أوجبرن W. Ogbern " بأنها الطرق التي ينشئها وينظمها المجتمع لتحقيق حاجات إنسانية ضرورية .
- أما " وليام جراهام سمنر William Graham Sumner " فيري أن النظام الاجتماعي يتكون من فكرة وبناء، والفكرة قد تكون رأيا أو خاطرا أو مبدأ أو اهتماما معينا، أما البناء فهو الأساس أو الجهاز الذي يساند الفكرة ويزودها بالوسائل التي يمكن أن تتجه بها إلى عالم الحقائق والأفعال بطريقة تخدم مصالح الإنسانية عامة، (7) و " سنمر " يشير إذن إلى أن النظم تبدأ بطرق التصرف التي تصبح عادات ثم تتحول إلى قيم أخلاقية بعد أن تربط بالفلسفة التي تجعل منها ضرورة للصالح العام، وحيث تصبح بذلك محددة ومعينة من ناحية ارتباطها بالقواعد والأفعال الموضوعة . والأجهزة التي تستخدم، فإذا وصلت إلى هذه المرحلة يكون بناؤها قد اكتمل وأصبح النظام كاملا،
- ويعرفه " الجوهري " (8) بقوله : النظام الاجتماعي عبارة عن نمط متميز من النشاط الاجتماعي والقيم التي تدور حول إحدى الحاجات الانسانية الأساسية، والتي تصاحبها طرق متميزة للتفاعل الاجتماعي، والنظام الاجتماعي بهذا المعنى ظاهرة ثقافية وتنظيمية في نفس الوقت، فهو يتضمن " الوصفات " التي وضعها المجتمع، وتراكمت عبر الاجيال والخاصة بالتعامل مع إحدى الاحتياجات الأساسية كما يتضمن في الوقت ذاته الأفراد والتنظيمات القائمة بأداء هذا العمل،
ونظرا لتعدد الاحتياجات الأساسية للإنسان، كان من الطبيعي أن تتعدد النظم الاجتماعية في المجتمع فهناك :
- النظام الأسري، النظام القرابي، نظام القيم،
- النظام الاقتصادي،
- النظام التعليمي والتربوي،
- النظام الصحي،
- النظام الأمني، ونظام العدالة ( القضائي )،
- نظام الرعاية الاجتماعية،
- النظام الديني،
ومن خلال تلك التعريفات للنظام الاجتماعي، وغيرها كثير تذخر بها أدبيات علم الاجتماع والعام وفروعه - يمكننا أن نحدد مجموعة من الخصائص التي تميز النظام الاجتماعي لعل أهمها :
- لكل نظام مجموعة من الوظائف يؤديها داخل المجتمع.
- يرتبط النظام بفكرة المعايير أو القواعد الضابطة للسلوك الاجتماعي.
- التزام الناس بهذه القواعد يرتبط بفكرة الجزاءات الاجتماعيةSocial sanction إما إيجابية أو سلبية.
- النظام هو السلوك الاجتماعي الذي يعترف به أبناء المجتمع.
- لكل نظام مجموعة من العناصر (أهداف / نماذج سلوكية / جوانب رمزية / جوانب مادية/مجموعة من القوانين. )،
وتجدر الإشارة إلى أن النظم الاجتماعية جميعها مترابطة ببعضها البعض ولا يمكن أن تكون متفرقة أو منعزلة , وكمثال على هذا الترابط الوثيق : فإن " النظام الإقتصادي " – مثلا - يعتمد على النظام التربوي بتوفير العمالة المتخصصة للمجتمع، بينما نجد أن " النظام التربوي " في المقابل يعتمد على النظام الإقتصادي بتوفير الموارد المالية والإمكانيات البشرية للنظام التربوي،
وعن أهمية دراسة النظم الاجتماعية يمكننا القول أنها تتمثل – كما يشير رواد علم الاجتماع - ضمن ما تتمثل فيما يلي :
- تدخل النظم الأساسية في تكوين البناء الاجتماعي للمجتمع.
- تكشف النظم الاجتماعية للمجتمع عن أساليب لمواجهة حاجاته الجماعية، وحاجات أبنائه الجسمية والروحية والنفسية والاجتماعية، وبالتالي تعد مدخلاً للفهم العلمي للمجتمع.
- تعد الدراسة العلمية للنظم الاجتماعية هي الأساس الأول لمواجهة المشكلات الاجتماعية، فالمشكلات أو الأمراض الاجتماعية هي في جوهرها اختلال في أداء النظم لوظائفها، أو انحراف عن الفطرة السليمة، ولمواجهتها يفترض فهم ميكانزمات ثبات النظم وتغيرها وعلاقتها الوظيفية بعضها ببعض.
- وصفوة القول، وفي ضوء هذا الفهم الذي يمكن أن تسفر عنه المناقشة السابقة نستطيع أن نتحدث عن وجود عدد من "النظم الاجتماعية" الهامة في المجتمع، ناتجة عن عملية التنظيم الاجتماعي وتتحقق للمجتمع فوائد جمة ووظائف لا غنى عنها، مثل النظام الأسرى، والنظام التعليمي، والنظام الاقتصادي، والنظام السياسي، ونظام الرعاية الاجتماعية، .............وغير ذلك من النظم الاجتماعية.
- وعن دور التنظيم الاجتماعي في بناء المجتمع، انتهت بعض الدراسات إلى مجموعة من النتائج المتعلقة بالتنظيم الاجتماعي ودوره في البناء الاجتماعي نذكر منها : (9)
- كلما كان المجتمع منظما بقدر اكبر من الدقة والفعالية كلما كان أكثر قدرة على التقدم والتطور،
- إن لكل تنظيم اجتماعي ايديولوجية أو فلسفة معينة يؤمن بها
- ان المؤسسات الاجتماعية هي اجهزة حيوية للمجتمع يكمل بعضها البعض، ولا يمكن لاحدها العمل بدون الاخرى مهما امتلكت من قدرات وامكانات
- كلما كانت العلاقات متفاعلة وبناءة كلما كان التنظيم فعالا وقادرا على النهوض بمهامه وتحقيق اهدافه،
- التنظيم هو بناء ديناميكي متفاعل الاجزاء، وهو مجال سلوكي له علاقاته المتبادلة والتي تتساند وتتوازن وتتكامل بعضها مع البعض الآخر،
- ان المجتمع السليم في التنظيم السليم،
* المجتمع والنظم الاجتماعية : Society and Social Institutions
- وهكذا فإن بإمكاننا الآن – وانطلاقا من التحليل السابق - أن نتصور أن " المجتمع " يتمثل في : " جماعات من الناس يتفاعلون فيما بينهم، في إطار نظم اجتماعية تنظم عملية إشباعهم لحاجاتهم الإنسانية "،
- وبطبيعة الحال فكلما كانت عملية التنظيم الاجتماعي سليمة وناجحة، كلما كانت النظم الاجتماعية مهيأة بشكل أكثر إحكاما لإشباع حاجات المواطنين بالصورة المرجوة، وكلما كان التفاعل بين الناس أيسر وأكثر سلاسة، وكلما كان شعور أفراد المجتمع بالرضا أكبر، وكلما كان هناك قدر أكبر من التكامل والاستقرار الاجتماعي،
ولكن المجتمع الانساني، وما يشتمل عليه من نظم اجتماعية - تؤدي مجموعة من الوظائف الهامة تتعلق باشباع الاحتياجات الأساسية لأفراد المجتمع وفئاته وجماعاته على تنوعها - لا يبقى هكذا في حالة ثابتة ساكنة ( استاتيكية Static )، وإنما هو خاضع باستمرار لعملية اجتماعية هامة وهي عملية التغير الاجتماعي، وهي عملية طبيعية حتمية لا يخلو منها أي مجتمع انساني ،
* التغير الاجتماعي، والمشكلات الاجتماعية :
Social change and social problems
- ومن المعلوم أن التغير سنة الحياة، أو هو من السنن الكونية الماضية، وهو جزء لا يتجزأ من طبيعة الكون الذي نعيش فيه، ولهذا يقولون أن التغير هو الحقيقة الوحيدة الثابتة التي " لا تتغير"... والتغير يطرأ على كل أشكال الوجود الجامد والحي، الطبيعي (الفيزيقي) والإنساني، والمتأمل لتاريخ البشرية يدرك مدى التغير الكبير الذي طرأ على الإنسان وعلى النظم الاجتماعية التي ابتكرها لتيسير حياته،
فالتغير في ذاته ظاهرة طبيعية تخضع لها جميع مظاهر الكون ومكوناته وعناصره، وشتى شؤون الحياة المختلفة، وقديماً قال الفيلسوف اليوناني (هيرقليطس) (10) إن التغير قانون الوجود، والاستقرار والثبات موت وعدم، كما عبر عن التغير في قوله الشهير : " إنك لا تنزل البحر مرتين فإن مياه جديدة تجري من حولك أبداً "،
وظاهرة التغير أوضح ما تكون في كل مناحي الحياة الاجتماعية، وهذا ما أدى ببعض المفكرين إلى القول بأنه ليس هناك مجتمعات !!، ولكن الموجود تفاعلات وعمليات اجتماعية في تغير دائم وتفاعل مستمر.
مفهوم التغير الاجتماعي :
ونظرا للأهمية المحورية التي يحظى بها مصطلح التغير الاجتماعي " في الدراسات الاجتماعية بوجه عام، وبالنسبة لعملية التنظيم الاجتماعي بوجه خاص، يجدر بنا أن نقف وقفة اجمالية عند هذا المصطلح لنحاول أولا تحديد مدلوله اللغوي والاصطلاحي،
- أما عن المدلول اللغوي : فإن مادة (التغيّر) وردت في المعاجم العربية بمعنى التحول والتبدل، والانتقال من حالة إلى حالة أخرى، يقول ابن منظور : " تغيّرَ الشيء عن حاله : تحوّل، وغيّره : حوله وبدّله، كأنّه جعله غير ما كان، وفي التنزيل العزيز : ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الأنفال : 53 )، قال ثعلب : معناه حتى يبدلوا ما أمرهم الله، ....، وغِيَر الدهر : أحواله المتغيّرة " (11)،
ويقول الفيروزأبادي : " تغيّر عن حاله : تحوّل، وغيّره : جعله غير ما كان، وحوّله وبدّله " (12)،
فالتغيّر يشير إلى : " الاختلاف الكمي أو الكيفي ما بين الحالة الجديدة والحالة القديمة، أو اختلاف الشيء عما كان عليه، في خلال فترة محددة من الزمن " (13)
أما لفظة ( الاجتماعي ) فهي نسبة إلى ( الاجتماع )، أي الشيء المنتسب إلى المجتمع، ومن ثمّ فـــ (التغيّر الاجتماعي) هو التحول والتبدل المتصل بالمجتمع أو الحاصل فيه.
أما المدلول الاصطلاحي للمصطلح :
فشأنه شأن العديد من المصطلحات الشائعة في العلوم الاجتماعية عامة، وعلم الاجتماع بوجه خاص، تعددت تعريفات التغير الاجتماعي وتنوعت، وتباينت وجهات النظر حول ماهيته وطبيعة مفهومه، ودلالته ومضامينه، ونظريات تفسيره، حيث يعرف التغير الاجتماعي : " بأنه كل تحول يحدث في النظم والأنساق والأجهزة الاجتماعية، سواء كان ذلك في البناء أو الوظيفة خلال فترة زمنية محددة "، ويوجز هذا التعريف معالم ثلاث أساسية لمفهوم التغير الاجتماعي :
الأول : أنه ينصب على النظم والأنساق الاجتماعية، وكذلك على الأفراد والجماعات وشتى ميادين الحياة الانسانية ومجالاتها،
الثاني : أنه يلحق بالبناء الاجتماعي، أو الوظيفة الاجتماعية أو كليهما معا،
الثالث : معلم الزمن، حيث يتم الحكم على التغير الاجتماعي خلال فترة زمنية معينة ومحددة،
ولما كانت النظم في المجتمع مترابطة ومتداخلة ومتكاملة بنائياً ووظيفياً ( وهو ما أكدناه سابقا )، فإن أي تغير يحدث في ظاهرة من الظواهر، أو جانب من جوانب الحياة الانسانية، أو حتى في نظام اجتماعي معين، لابد وأن يؤدي إلى سلسلة من التغيرات الفرعية التي تصيب معظم جوانب الحياة، والنظم الاجتماعية الأخرى ولو بدرجات متفاوتة،
ولمزيد من الفهم والتحليل يمكن لنا نعرض لبعض المحاولات التي قدمت تعريفا للتغير الاجتماعي وذلك على النحو التالي :
- هو " التغيّر الذي يحدث داخل المجتمع أو التحول الذي يطرأ على أيّ من جوانب المجتمع خلال فترة زمنية محددة " (14)،
- " كلّ تحول يقع في التنظيم الاجتماعي، سواء في بنائه أو في وظائفه خلال فترة زمنية معيّنة، والتغيّر الاجتماعي على هذا النحو ينصبّ على كلّ تغيير يقع في التركيب السكاني للمجتمع، أو في بنائه الطبقي، أو نظمه الاجتماعية، أو في أنماط العلاقات الاجتماعية، أو في القيم والمعايير التي تؤثر في سلوك الأفراد والتي تحدد مكاناتهم وأدوارهم في مختلف التنظيمات الاجتماعية التي ينتمون إليها " (15)،
- " كلّ تحول يطرأ على البناء الاجتماعي خلال فترة من الزمن، فيحدُث تغيّر في الوظائف والأدوار والقيم والأعراف وأنماط العلاقات السائدة في المجتمع " (16)
- " كلّ ما يطرأ على المجتمع في سياق الزمن على الأدوار والمؤسسات والأنظمة التي تحتوي على البناء الاجتماعي من حيث النشأة والنمو والاندثار (17)
- " هو الانتقال من نظام اجتماعي إلى آخر " (18)،
وفي نفس السياق يسير كلا من " جيرث، وملز " حيث تعرضا إلى ماهية التغير الاجتماعي، ويعتبران أن التغير الاجتماعي : هو " التحول الذي يطرأ على الأدوار الاجتماعية التي يقوم بها الأفراد، وكل ما يطرأ على النظم الاجتماعية وقواعد الضبط الاجتماعي التي يتضمنها البناء الاجتماعي في مدة معينة من الزمن "(19)
ويركز " جنزبرج " على البعد الزمني للتغير الاجتماعي حيث ينظر إلى أن التغير الاجتماعي : هو كل تغير يطرأ على البناء الاجتماعي في الكل والجزء، وفي شكل النظام الاجتماعي، ولهذا فإن الأفراد يمارسون أدواراً اجتماعية مختلفة عن تلك التي كانوا يمارسونها خلال حقبة من الزمن، أي أننا إذا حاولنا تحليل مجتمع في ضوء بنائه القائم، وجب أن ننظر إليه من خلال لحظة معينة من الزمن، أي ملاحظة اختلاف التفاعل الاجتماعي الذي حدث له.
ويعرف " جنزبرج " التغير الاجتماعي بأنه "ذلك التغير الذي يحدث في طبيعة البناء الاجتماعي مثل الزيادة أو النقص في حجم المجتمع، أو في النظم والأجهزة الاجتماعية، كما يشمل التغيرات في المعتقدات والمواقف (20)
وثمة من يعرف التغير الاجتماعي : "كل تحول يحدث في البناء الاجتماعي والمراكز والأدوار الاجتماعية، وفي النظم والأنساق والأجهزة الاجتماعية خلال فترة معينة من الزمن".
ويعرفه " أرنولد " على أنه : نمط من العلاقات الاجتماعية والأشكال الثقافية في وضع معين، يطرأ عليها أو يظهر عليها التغير أو الاختلاف خلال فترة محددة من الزمن وأن التغير هذا يخضع لعوامل موضوعية بمعنى أنه لا يحدث بطريقة عشوائية ولا إرادية ولكن وفقاً لضوابط وقواعد معينة.
أما " جي روشي " فيعرف التغير الاجتماعي بأنه : كل تحول في البناء الاجتماعي يلاحظ في الزمن، ولا يكون مؤقتاً سريع الزوال لدى فئات واسعة من المجتمع ويغير مسار حياتها.(21)
إن المتتبع لديناميات التفاعل الاجتماعي The Dynamics of Social Interaction يستطيع أن يكشف ما طرأ من تغير كمي وكيفي في نمط التفاعل، وفي المعايير الاجتماعية، والقيم الأخلاقية، وان التغير الاجتماعي يتناول كل مقومات الحياة الاجتماعية، والنظم والعلاقات الإنسانية، ويجب أن يقوم التغير الاجتماعي المقصود والمرغوب فيه على فكر واضح، وعلى حشد قوي، وعلى تخطيط دقيق، لبناء الدولة العصرية التي تستند إلى العلم والتكنولوجيا، وهذا يقتضي المواجهة العلمية المستنيرة لما قد يتمخض عنه التغير الاجتماعي من مشكلات ومتناقضات ومطالب واحتياجات، وعصرنا الحالي يتسم بظهور العديد من المتغيرات في النواحي الاجتماعية والإنتاجية والتكنولوجية وبالتالي إتباع الأسلوب العلمي في التحكم في مسيرة التغير الاجتماعي بحيث يكون تغيرا متوازنا متكاملا يفضي إلى التطور والنمو والتقدم.
يتبــــــــع،،،،،،،،،،،،
الهوامش والاحالات :
===========
(1) - الموارد :هى كل ما يصلح لإشباع الحاجات البشرية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة،
(2) – عملية التنشئة الاجتماعية في أبسط تعريفاتها : عملية تعلم وتعليم وتربية تقوم على التفاعل الاجتماعي وتهدف الى اكتساب الفرد سلوكا ومعايير واتجاهات مناسبة لادوار اجتماعية تمكنة من مسايرة جماعته والتوافق الاجتماعي معها وهي عملية التشكيل الاجتماعي لخاصة الشخصية "، وبتعبير متكافئ : هي عملية تحويل الطفل من كائن عضوي حيواني السلوك إلى شخص آدمي بشري التصرف في محيط أفراد آخرين من البشر، أوهي عملية انتقال الطفل من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي، ويتم هذا عن طريق التفاعل الاجتماعي مع الآخرين “.
فالفرد خلال جميع مراحل عمره المختلفة يتعرض إلى مجموعة هائلة من المعايير الاجتماعية والأحكام الخلقية واكتساب المهارات واللغة والثقافة والمعلومات التي تجعل منه كائن اجتماعي يتفاعل مع الآخرين له ثقافة وأفكار واتجاهات وميول خاصة به اكتسبها خلال عملية هذه التنشئة طوال حياته.
تعتبر التنشئة الاجتماعية وما تؤديه في عملية الضبط الاجتماعي، العملية التي يتم من خلالها إعداد الشخصية الإنسانية السوية، التي تحمل قيم ومعايير السلوك الصحيحة، التي لها تأثيرها على تكوين الضبط الذاتي••فالإنسان يولد جامداً لا حركة فيه، إذ يعتمد على الآخرين في حفظ حياته، وبعدها تبدأ شخصيته في البناء بعد أن كان معتمداً على محاكاة الآخرين محاكاة لا رؤية فيها، حتى يقع في خضم التقليد الايحائي• ولقد أثبتت الدراسات أن الطفل يتأثر بوراثة والديه التي لا تنتهي بالمولد ولكن تحت بند التقليد والمحاكاة•
(3) - يمكن تعريف الضبط الاجتماعي : بأنه استخدام القوة البدنية أو الوسائل الرمزية لفرض أو إعمال القواعد أو الأفعال المقررة ويكون الفرض بالإجبار والقهر، أما إعمال القواعد والأفعال فيكون بالإيحاء والتشجيع والثناء وغير ذلك من الوسائل، والتعريف الاجرائي للضبط الاجتماعي يشير إلى : مجموعة الإجراءات والأساليب التي تقوم بها وسائل الضبط داخل المجتمع، بهدف فرض النظام الاجتماعي والقيمي على أفراد المجتمع، وحمايتهم من الاتجاه للانحراف•
(4) - المؤسسة هي كلمة معقدة تدل من جهة على عمل ( فعل أسس هو بهذا المعنى خلق و إيجاد شيء )، و من جهة أخرى على نتيجة هذا العمل بحيث يصبح معطى اجتماعي متميز. و تستعمل الكلمة عادة للدلالة على الشيء المؤسس، فيقال: مؤسسات سياسية و إدارية و دينية ..إلخ.
و الفكرة الأساسية التي تميز المؤسسة عن غيرها من أشكال التنظيم الاجتماعي هي استقلاليتها عن العناصر المتشكلة منها و تميزها عن هذا العناصر بحيث أنها تضيف إليها شيئا جديدا لم يكن موجودا لديها من قبل،و تتشكل المؤسسة غالبا تلبية لفكرة أو حاجة اجتماعية فتخلق لدى أفرادها شعورا بالاختلاف و التميز تجاه الآخرين و تضطرهم إلى الدفاع عنها لأنها نصبج نعبيرا عن وجودهم و دورهم الاجتماعي، و تجدر الإشارة إلى أن مفهوم المؤسسة يتعارض من حيث المبدأ مع مفهوم العقد أو التعاقد. إذ أن التعاقد لا يدوم إلا بدوام الشروط التي أنتجته في حين أن المؤسسة تستمد ديمومتها من الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها و من مصالح الجماعة المرتبطة بها. كما أن التعاقد هو تعبير عن اتفاق بين إرادتين بينما تعبر المؤسسة عن إرادات عدة متجسدة في إرادة واحدة و سلطة قرار واحدة، و يمكن تقسيم المؤسسات إلى مجموعتين :
- المجموعة الأولى هي المؤسسات المادية الملموسة و تخص فئة اجتماعية ذات صفة رسمية (المؤسسة المدرسية و المؤسسة الطبية) أو هيئات يتحدد وضعها و عملها من خلال القانون (المؤسسات السياسية)أو بعض المؤسسات المتخصصة في الأمم المتحدة التي تقوم بتقديم التوصيات أو تنظيم بعض ميادين النشاط الخاصة (كاليونسكو أو المجلس الاقتصادي الاجتماعي).
- المجموعة الأخرى من المؤسسات هي أنساق من املعايير المجردة التي تتدخل في تنظيم حياة الجماعة. فنأخذ على سبيل المثال المعايير المتعلقة بالزواج، و الطلاق و تحريم الزواج من الأقربين و غيرها من القواعد التي تشكل مؤسسات بحد ذاتها. أنظر :
http://vb.3dlat.net/showthread.php?t=242164
(5) – أنظر :
- أبو نصر الفارابي : " آراء أهل المدينة الفاضلة "، تحقيق : نصر عازر، دار الشروق، بيروت1959، لبنان، ط2، 2000م،
- عبد الحميد لطفي : " علم الاجتماع "، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1979م،
- عبدالله الرشدان : " علم الاجتماع التربوي "، دارعمان للنشر والتوزيع، عمان، الاردن، 2008م
(6) - حسين عبد الحميد : " التغير الاجتماعي والتنمية السياسية "، المكتب الجامعي، الإسكندرية، 1988، ص: 45.
(7) – أنظر :
- أبو نصر الفارابي : " مرجع سبق ذكره "، ص : 96
- William Graham Sumner, " folkways : a study of the sociological importance of usages customs " , mores and -
morals, ginn and company, Boston, 1940, P. 8-12.
(8) - محمد الجوهري : " المدخل الى علم الاجتماع الجوهري "، الدار الدولية للاستثمارات الثقافية، القاهرة، ط3، 2015م، ، ص ص : 33 – 34،
(9) - صبيح علي عيد الحسين : " دور التنظيم الاجتماعي في بناء المجتمع "، رسالة دكتوراة غير منشورة، كلية الاداب، قسم الاجتماع، جامعة بغداد، 1996م،
(10) - هيراقليطس الإفسوسي Heraclitus of Ephesus (535 ـ 475ق.م)، فيلسوف يوناني سابق لسقراط ، ولد في إفسوس اليونانية (في آسيا الصغرى) من أسرة ملكية أرستقراطية ومعادية للديمقراطية. كان يزدري عامة الناس ومعتقداتها الدينية، وهاجم الشعراء والعلماء وكان يزدري العلم الجزئي الذي لا يثق بالعقل، وله مؤلف وحيد «في الطبيعة» لم يبقَ منه إلا مئة وثلاثون شذرة، طرح فيه أفكاره بأسلوب غامض؛ لذا لُقب بالغامض، تقوم فلسفة هيراقليطس على نظرية التدفق أو الجريان، فكل ما في الوجود في تغير دائم وتدفق مستمر، فجوهر الوجود هو الحركة والتغير المتواصلان، وهذا التغير والجريان صراع بين الأضداد، وهو أساس الوجود والصيرورة، فكل شيء يحمل في داخله ضده، ويشبّه الأشياء بالنهر الجاري الذي تتغير مياهه باستمرار، فأنت لا تسبح في مياه النهر مرتين، ويتولد من هذا الصراع العالم بأسره، فيكون الصراع هو القانون الحتمي الذي يحكم كل وجود، وهو لا يأتي من خارج، بل ينبثق من الوجود نفسه، فالانسجام والصراع هما ماهية وحدة الأضداد.
أنظر :
ـ يوسف كرم : " تاريخ الفلسفة اليونانية " دار القلم، بيروت، لبنان، ( د.ت).
ـ ماجد فخري : " تاريخ الفلسفة اليونانية من طاليس إلى أفلوطين "، دار العلم للملايين , بيروت، لبنان، 1991 م،
ـ علي سامي النشار - محمد علي أبو ريان : " هيراقليطس فيلسوف التغير وأثره في الفكر الفلسفي " دار المعارف، الإسكندرية، 1969م
(11) - محمد بن مكرّم بن علي الأنصاري - ابن منظور (ت 711هـ/ 1311م) :" لسان العرب " تنسيق : علي شيري، ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان ، 1408هـ/ 1988م،ج 10، ص : 155، مادة (غير).
(12) - مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي (ت 817هـ/ 1415م) : " القاموس المحيط "، دار إحياء التراث العربي، ط1، بيروت، لبنان ، 1412هـ/ 1991م،ج 2، ص : 151، مادة (غير).
(13) - شائم بن لافي الهمزاني : " التغير الاجتماعي في منطقة حائل: دراسة علمية "، 1410هـ/1990م، الإنترنيت، موقع : (المعرفة) : (WWW.Marefa.Org).
(14) – " نفس المرجع السابق "،
(15) - أحمد زكي بدوي : " معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية "، مكتبة لبنان، بيروت، لبنان، ط 2، 1406هـ/ 1986م، ص : 382.
(16) - إبراهيم بن محمد آل عبد الله - عبد الله بن حمد الدليمي : " علم الاجتماع للصف الثالث الثانوي "، قسم العلوم الشرعية والعربية (بنين)، المملكة العربية السعودية، 1430ـ 1431هـ/ 2009م - 2010م، ص : 91.
(17) – الفاروق زكي يونس : " الخدمة الاجتماعية والتغيّر الاجتماعي "، عالم الكتب، القاهرة، 1978م، ص : 343.
(18) - أنظر : موقع: ويكيبيديا (الموسوعة الحرة).
(19) – أنظر :
- معن خليل العمر : " التغير الاجتماعي "، ط1، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2004م، ص : 192.
- خالد حماد : " المدخل إلى علم الاجتماع "، جسور للنشر و التوزيع ،الجزائر- ط 1، 2008م، ص ص : 147 - 151.
(20) - أحمد النكلاوي : " التغير والبناء الاجتماعي "، مكتبة القاهرة الحديثة، القاهرة، 1968م، ص : 813
(21) - أحمد النكلاوي : " نفس المرجع السابق "، ص : 813
-------
أ.د / احمد بشير – جامعة حلوان، القاهرة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: