رؤية تحليلية مختصرة حول الإطار النظري للخدمة الاجتماعية (3)
A brief Analytical Vision on the theoretical framework of Social Service
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4146
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
" الخدمة الاجتماعية لا تتقيد بعلم معين تنهل منه في بناء وتاسيس قاعدتها المعرفية النظرية، ولا تتمسك بمجموعة جامدة من المعارف، ذلك لان الخدمة الاجتماعية تنتقي وتختار من تلك العلوم ما يلائمها ونتيجة لذلك اصبحت الخدمة الاجتماعية قادرة على تنويع اسلوبها التقني ليتلاءم مع الاحتياجات المتغيرة ومع التعامل مع مختلف المشكلات على كافة المستويات " ( بول أبيلز Paul Abels )
******
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعبى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا،
وبعـــد :
تناولنا في الحلقة السابقة بواعث ومبررات الاهتمام بالكتابة حول الاطار النظري للخدمة الاجتماعية، الذي تنطلق منه المهنة في تعاملها المهني مع المواقف الإنسانية المختلفة، والذي يوجه تصميم برامج التدخل المهني لاحداث التغيرات المنشودة في الانساق المستهدفة، وكيف أن اهتمام الباحث ينصب هنا على معالجة مجموعة من المصطلحات والمفاهيم الهامة للممارسة المهنية، والحقائق المتعارف عليها في العلوم الاجتماعية، وبصفة خاصة علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاقتصاد، والعلوم السياسية، وفي هذا الاطار تناول الباحث مفاهيم الانسان والطبيعة الانسانية، والاحتياجات الانسانية، والمجتمع الانساني، وتوقفما في الحلقة السابقة عند حقيقة أن الانسان كائن اجتماعي بطبعه، حيث تعتبر الحياة الاجتماعية ضرورة حتمية بالنسبة للانسان،
* تابع الانسان مدني بطبعه :
هذا الانسان الذي هو بطبيعة خلقته وفطرته التي فطره الله عليها ميال للاجتماع بغيره من بني جنسه، فهو مدني بطبعه لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن الاخرين، لسبب في غاية البساطة وهو انه لن يستطيع اسباع احتياجاته الأساسية بمفرده، وانما يتم ذلك من خلال الحياة الاجتماعية، وتلك حقيقة أجمعت عليها آراء العلماء والمفكرين المعنيين بدراسة الانسان والاجتماع الإنساني، وشهد بها واقع التاريخ الإنساني، فالحياة الاجتماعية ضرورة حتمية لا غنى عنها بالنسبة للإنسان،
والباحث في القرآن الكريم يجد سندا قويا لهذه الحقيقة، في العديد من الإشارات التي تؤكدها، بل وتذهب أبعد من هذا حين تقرر أن المجتمع والاجتماع الإنساني – في التصور الإسلامي – انما هو مخلوق شأنه شأن الانسان نفسه ،
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } ( النساء : 1 )، أي : الذي خلقكم من نفس واحدة هي آدم عليه السلام, وخلق منها زوجها وهي حواء, ونشر منهما في أنحاء الأرض رجالا كثيرًا ونساء كثيرات, وراقبوا الله الذي يَسْأل به بعضكم بعضًا, واحذروا أن تقطعوا أرحامكم. إن الله مراقب لجميع أحوالكم، وقال تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ............} ( الأعراف : 189 )، وقال تعالى : {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ...........} ( الزمر : 6 )،
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }( الحجرات : 13 )، أي : يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من أب واحد هو آدم, وأُم واحدة هي حواء، فلا تفاضل بينكم في النسب, وجعلناكم بالتناسل شعوبًا وقبائل متعددة؛ ليعرف بعضكم بعضًا, إن أكرمكم عند الله أشدكم اتقاءً له، إن الله عليم بالمتقين، خبير بهم،
- ولأن الانسان اجتماعي بطبعه، كانت الأسرة هي أولى تجليات ذلك الميل الفطري للاجتماع، ومن هنا كانت هي الخلية الأولى للمجتمع الإنساني، وهي بمثابة مرفأ الأمان الأول للإنسان، وهي أول منظمة اجتماعية في الوجود،
- وتأسيسا على ما سبق نقرر ان وجود الفرد لا معنى له خارج السياق الإنساني ( الاجتماعي )، وبشكل محدد خارج جماعة في بيئة وزمان محددين، وفي هذا الصدد يقول " باكونين " - مثلا - ما معناه : " إنني لا أستطيع أن أكون حرا إلا إذا كان الآخرون أحرارا أيضا "، ليس فقط لأن الحرية كل لا يتجزأ، بل أيضا لأن الوجود الإنساني - ولو في بيئة محددة - كل لا يتجزأ أيضا (1)، ونجد أيضا أن " ميرلوبونتي " يولي أهمية خاصة لمسألة الآخر في حياة الانسان ( أي البعد الاجتماعي ) وهذا ما نلمسه في تحليله الفينومينولوجي للجسد حيث يقول : " فالآخر ضروري بالنسبة لي، لأنني لا أستطيع أن أكون حرا بمفردي، ولا اكون واعيا بمفردي، ولا أكون انسانا بمفردي " (2)،
ولعله من المفيد هنا أن نؤكد على وحدة أصلنا – آدم عليه السلام - لنفهم ذلك فهما واضحا ودقيقا، فالقرآن يخبرنا بوحدة الأصل الإنساني، قال تعالى : {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ....} ( الزمر : 6 )، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا...} ( الأعراف : 180 )، {وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ....} ( الأنعام : 98 )،
فالتعدد إذا لم يكن سوى للتعمير والإثراء والتنافس، والنهوض بأعباء الخلافة في الأرض، وبمعنى آخر فإن الصراع Conflict ( أي التدافع بالمصطلح القرآني ) هو جوهر حركة التاريخ البشري كله (3)، لأنه الدافع الأساسي للتقدم نحو تحقيق الإنسان لإنسانيته، وبالمفهوم الإسلامي تحقيق الخلافة في الأرض (4)، تلك الخلافة التي هي إحدى غايات الوجود الإنساني في منظور الإسلام،
- إن اجتماعية الإنسان ليست مشروعا أو برنامجا، بل هي حاجة ضرورية لإستمرار الوجود البشري ذاته، ولتحقيق غاية هذا الوجود، بيد أنه في مراحل الوعي سوف يسعى لأن يجعل من التجمع والإنصهار ضمن الجماعة هدفا لتحقيق انسانيته وتقدمها إلى الأمام، وتحقيق التطور الذي يريد، ومن هنا فإن العمل الفردي ( إذا كان أنانيا خالصا ) محكوم عليه بالفشل، إذا لم يكن في خدمة الجماعة وأهدافها،
فالجماعة - والجماعة وحدها - هي القادرة ليس فقط على إعطاء الإنسان معنى لإنسانيته، بل تحقيق هذه الإنسانية تحقيقا ملموسا ومجسدا على أرض الواقع، وهو ما رأيناه ولمسناه في الثورات والنهضات والحضارات المختلفة عبر التاريخ الإنساني، وهي كلها نماذج من تحقيق الإنسان لإنسانيته، لكنها للأسف تصطدم دوما بعقبات متمثلة جماعات هدامة تعرقل مسيرتها، فتبدأ عملية التدافع، وتلك هي سنة الله الماضية في الحياة الانسانية،
- أن لفظ " الإنسان " في اللغة اشتق – كما قيل - من الإنس، وهو يقال لمن كثر أنسه، والأنس خلاف النفور، ومن ثم قيل إن الإنسان سمي إنسانا : " لأنه خلق خلقة لا قوام له إلا بإنس بعضهم ببعض " كما قال الراغب الأصفهاني (5)، وهذا يعني أن الانسان لا يمكن أن يقوم بجميع أسبابه، ولا يمكن أن ينفرد في حياته فهو دوما يحتاج إلى الآخرين، ومن هنا جاء التعبير المعروف : الإنسان مدني بالطبع، أو اجتماعي بالطبع.
- أن هذا البعد الاجتماعي The social dimension لـ " الإنسان " هو في الحقيقة ما يميزه عن " البشر"، الذي يغلب عليه الجانب المادي الظاهر، فـ " البشرية " تعني – لدى الكثيرين - الوجود الفيزولوجي لبني آدم، بينما " الانسانية " تعني ما أكثر من ذلك، إنها تعني امتلاكهم للمشاعر الراقية، والعواطف السامية، وتسيير عقولهم إياهم، كما أن هذا البعد الاجتماعي للإنسان هو ما يكسبه أيضا صفاتا ونعوتا نفسية وخلقية غلب عليها في الاستعمال القرآني الجانب القدحي، مثل ( ظلوما جهولا، أكثر شيء جدلا، عجولا، هلوعا، جزوعا، منوعا ......وهكذا ) ؛ ويمكن أن نميز فيها بين ما هو طبعي وما هو مكتسب،
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإنسان في التصور الإسلامي هو كائن فريد متميز بكل المقاييس، خلقه الله سبحانه وتعالى خلقًا عجيبًا، وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً.. ولعل من أول ما يتميز به الإنسان عن غيره من المخلوقات من جماد ونبات وحيوان خاصية " الوعي " بذاته ووجوده، ومن ثم " الوعي " بتمايزه عن البيئة المحيطة به، سواء بتمايزه عن البيئة الطبيعية Natural Environment التى سخرها الله له وأودعها من الموارد ما يشبع حاجاته المادية، ويضمن له كافة مقومات حياته واستمراره، أو تمايزه عن البيئة الاجتماعية Social Environment التى تتمثل في غيره من بني الإنسان ممن يعتمد عليهم ويعتمدون عليه حال تعاونهم على تحويل تلك الموارد الطبيعية وتشكيلها وتصنيعها، لتصبح مهيأة لإشباع تلك الحاجات الإنسانية بشكل مباشر،
تلك إذن هي ثنائية " الفرد " الواعي بذاته، المتعدد الحاجات من جانب، و " البيئة " المادية / الاجتماعية التى يستطيع فيها استثمار طاقاته فيما يشبع حاجاته من جانب آخر... ولا حياة للإنسان الفرد ولا بقاء له على ظهر الأرض إلا بالتفاعل مع بيئته بنوعيها، ولا يمكن للإنسان الفرد أن يتفاعل مع البيئة إلا بأن " يتعرف " أولاً على طبيعتها ومكوناتها، ليستطيع في ضوء تلك المعرفة التعامل معها بكفاءة تحفظ عليه حياته... ونستطيع القول إذن إن " معرفة " النفس (معرفة الانسان لنفسه )، ومعرفة البيئة بمكوناتها المادية والاجتماعية إنما هي حجر الزاوية لإمكان بقاء الإنسان حيًّا، وإمكان استمراره على ظهر الأرض، ومن ثم ازدهار العمران ونمو الحضارات.. ومن هنا نستطيع أن نتبين مكان " المعرفة " من حياة الإنسان، وموقعها المحوري من تقدم الإنسانية وبناء الحضارة (6)،
* مفهوم المجتمع : Society
وبعد ان تحدثنا عن الانسان باعتباره نقطة البدء في أي حديث عن أي قضايا او موضوعات تتعلق بالعلوم الإنسانية والسلوكية والاجتماعية، حيث أن الإنسان يمثل موضوعها الأساس، ومحور اهتمامها على مختلف صور تواجده في الحياة فردا كان، او عضوا في اسرة نووية او ممتدة، او عضوا في جماعة، او عاملا او متعاملا مع منظمة اجتماعية، او مواطنا في مجتمع محلي او قومي او إقليمي او دولي، وبعد أن توقفنا أمام احدى السمات الهامة والمركزية للإنسان والمتمثلة في ميله الفطري إلى التجمع والاجتماع ( العمران بمصطلح ابن خلدون )، والحياة الاجتماعية، يأتي حديثنا عن اصطلاح المجتمع، باعتباره الوجه الآخر للعملة في مقابل الوجه الأول لها ( الإنسان )،
- فثمة من يرى أن اصطلاح "المجتمع" Society يعد من أكثر المصطلحات شيوعا واستخداما في الخطاب العام، وفي الخطاب المتخصص في العلوم الاجتماعية والانسانية بوجه خاص، ولكن الكثيرين يستخدمونه ليشيروا به إلى معنى عام يشوبه الغموض ويعوزه التحديد الدقيق، مما يؤدي إلى صعوبات في الفهم والتواصل (7)،
فما المجتمع إذن ؟، وما مفهومه وماهيته ومكوناته، وما عملياته الأساسية ؟ وكيف ينبغي ان يدركه الاخصائي الاجتماعي على حقيقته كي ينجح في عمله المهني ؟
- لا يختلف أحد على أن المكون الأساسي فيما يسمى بالمجتمع هو الناس أو البشر الذين يتجمعون معا في نوع من التقارب المكاني في منطقة جغرافية صغيرة كانت او كبيرة، أي أننا عندما نتطرق لمصطلح المجتمع نستدعي إلى الذهن على الفور : الانسان ( الناس )، والمنطقة الجغرافية ( المكان )، والعيش المشترك ( الاجتماع )،
وبتعبير متكافيء يعرف المجتمع بأنه : " هو إطار عام يحدد العلاقات التي تنشأ بين جمع من الأفراد يستقرون في بيئة معينة تنشأ بينهم مجموعة من الأهداف والرغبات والمنافع المشتركة المتبادلة، وتحكمهم مجموعة من القواعد والأساليب المنظمة لسلوكهم وتفاعلاتهم (8)
- وكما سبق أن أشرنا عند حديثنا عن الانسان فإن السبب الذي يدفع الناس الى التجمع معا على هذا الوجه إنما يكمن في الرغبة في اشباع احتياجاتهم الإنسانية، ولقد رأينا كيف أن الانسان – أي انسان – لا يستطيع أن يعيش منفردا، وذلك لسبب معروف وهو أنه سيعجز بالضرورة عن اشباع احتياجاته بنفسه، فما مفهوم الحاجة، وما سماتها ؟
* تعريف الحاجة : Need
والحاجة : هي شعور بالحرمان يلح علي الفرد مع معرفة الوسيلة المناسبة القادرة على القضاء علي هذا الشعور لإشباع حاجته،
ويعرفها البعض بأنها : المتطلبات البدنية ( الحيوية ) والنفسية، والاقتصادية، والاجتماعية، اللازمة للبقاء والرفاهة وتحقيق الذات،
اما بالنسبة للحاجة فيما يتعلق بالسياسة الاجتماعية، والتخطيط الاجتماعي فهي : حالة عدم توازن يشعر بها فرد او جماعة او مجتمع، نتيجة الإحساس بالرغبة في تحقيق هدف معين يحتاج تحقيقه بجانب توافر إمكانيات وموارد معينة، زيادة كفاءة التنظيم الاجتماعي بالمجتمع، ويقصد بالتنظيم الاجتماعي توافق السكان والارتباط والتعاون المتبادل مع بعضهم البعض لمواجهة احتياجات مشتركة ضرورية، اذ انه لابد من وجود درجة معينة من الاطراد والاتساق في الحياة الإنسانية، وتوفر نوع من التنسيق في المجتمع والا استحال على أعضائه العيش معا (9)،
ومن أشهر النظريات فيما يتعلق بالاحتياجات الانسانية " نظرية الدوافع " وهي تلك النظرية النفسية التي وضعها العالم الشهير " أبراهام ماسلو " (10) Abraham Maslow، وتناقش هذه النظرية ترتيب حاجات الإنسان ؛ حيث قدم " ماسلو " نظريته في الدافعية الإنسانية Human motivation حاول فيها أن يصيغ نسقاً مترابطاً يفسر من خلاله طبيعة الدوافع أو الحاجات التي تحرك السلوك الإنساني وتشكّله، في هذه النظرية يفترض " ماسلو " أن الحاجات أو الدوافع الإنسانية تنتظم في تدرج أو نظام متصاعد Hierarchy من حيث الأولوية أو شدة التأثير Prepotency، فعندما تشبع الحاجات الأكثر أولوية أو الأعظم حاجة وإلحاحاً، فإن الحاجات التالية في التدرج الهرمي تبرز وتطلب الإشباع هي الأخرى، وعندما تشبع نكون قد صعدنا درجة أعلى على سلم الدوافع، وهكذا حتى نصل إلى قمته، هذه الحاجات والدوافع وفقاً لأولوياتها في النظام المتصاعد كما وصفه ماسلو يلخصها الشكل التالي :
شكل يوضح هرم " ماسلو " للاحتياجات الإنسانية
وهكذا قامت نظرية الدوافع الكلاسيكية عند ماسلو المنشورة عام 1954م - والتى حققت قبولا واسع النطاق لدى معظم الباحثين في الموضوع - على فكرة وجود هرم متدرج من الحاجات البيولوجية والنفسية والاجتماعية تعتبر بمثابة دوافع للسلوك البشري، وأن إشباع المستوى الأعلى من تلك الحاجات رهين بإشباع الحاجات على المستوى الأدنى منه، وأن إشباع هذه الحاجات جميعًا يؤدى إلى ما سماه ماسلو بتحقيق الذات Self - Actualization، ومن هنا فالشخص الذي حقق ذاته إذن هو الشخص الذي توفر له إشباع حاجاته البيولوجية، وتحقق له الشعور بالانتماء، وهو محب للآخرين ومحبوب منهم، وله مكانته في الحياة واحترامه في وسط الناس .
خصائص وسمات الحاجات الإنسانية :
ويقرر العلماء أن الحاجات الانسانية تتسم بعدد من الخصائص أهمها أنها :
- أنها قابلـة للإشباع : وذلك باستخدام الوسيلة المناسبة لزوال الشعور بالحرمان والوصول الى حالة الإشباع،
- التعدد : فحاجات الإنسان تتميز "بالتعدد "... حيث أن له ألوانا متعددة من الحاجات الجسمية (البيولوجية) والنفسية والاجتماعية،
ويعرف قاموس المعاني " تعدُّد الحاجات " بأنه : مبدأ ( إقتصادي ) مؤدّاه أنّ المدنيَّة تؤدّي إلى تنوّع الرَّغبات وازديادها، فبمجرد إشباع حاجة تنشأ حاجة أخرى جديدة (11)،
- التجدد : حاجات الإنسان تتميز "بالتجدد" بمعنى أن إشباع أي من تلك الحاجات مرة واحدة لا يكفي لإشباعها للأبد، إذ سرعان ما يتجدد الشعور بالحاجة بعد فترة من الزمن طالت أو قصرت ... فالإنسان قد يشبع حاجته للطعام الآن ولكنه سرعان ما يشعر بالحاجة إلى الطعام تتجدد بعد بضعة ساعات وهكذا، ومن هنا فإن حاجته إلى الآخرين متجددة،
- النسبية : وثمة سمة أخرى لها أهمية خاصة، وهي أن الحاجات الإنسانية "نسبية" ... بمعنى أنه ليست هناك أي وسيلة لتحقيق الإشباع المطلق للحاجات الإنسانية، فالحاجة إلى الطعام التي قد تشبعها كسرة من الخبز سرعان ما تتحول إلى طلب ألوان من الأطعمة التي تبدأ النفس تشتهيها إذا اعتادت أو اطمأنت إلى توافر الخبز وهكذا، حتى يصل الأمر إلى أن يدخل في شرط إشباع الحاجة إلى الطعام ضرورة توافر أمور لا تتصل مباشرة بالطعام في ذاته مثل الحاجة إلى مائدة "نظيفة" تزينها الزهور وهكذا. وهذا مصداق لقول الرسول الكريم الذي أورده البخاري "لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ (وفي رواية لمسلم : من ذهب) لابْتَغَى ثَالِثًا، وَلا يَمْلأ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ ... أي أن حاجات الإنسان لا تقف عند حد حتى يتوفاه الموت (12)،
في ضوء تلك السمات التي تتميز بها الحاجات الإنسانية لا يمكن إذن أن نتصور وجود الإنسان إلا في وسط غيره من بني الإنسان، وذلك بهدف أساسي هو إشباع حاجاته الإنسانية، ونضيف هنا أن طفولة الإنسان الطويلة (التي تصل في المجتمع الحضري الحديث إلى ما يزيد عن العشرين عاما ) تجعل الإنسان معتمدا في بقائه حيا على وجوده في وسط إنساني، فهو يولد ككتلة مدهشة من الحاجات والإمكانات الكامنة، ولكن نمو تلك الإمكانات أو تحولها إلى قدرات يستطيع استخدامها للوفاء بحاجاته بدرجة ما من الاستقلال النسبي لا يتم إلا "باستثارة" تلك الإمكانات وبالتدريب المستمر الذي ينتهي باكتساب الإنسان لخصائصه الإنسانية، ولكن تجمع الناس معاً لإشباع حاجاتهم على هذا الوجه يكون مستحيلاً بغير " تنظيم "، ومن هنا تأتى أهمية عملية التنظيم الاجتماعي Process of Social Organization التي تحدث دائما كعملية " تلقائية " في كل تجمع إنساني (13)،
************
الهوامش والاحالات :
============
(1) – أنظر : www.wata.cc/forums/archive/index.php/t-41976.html
(2) – عبد النور شرقي : " الآخر بين سارتر وميرلوبونتي "، مجلة الحوار المتمدن، العدد :(3691 )، 7/4/ 2012 م، المصدر :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=302357
(3) – قال تعالى : { ......وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }( البقرة : 251 )، والمعنى : ولولا أن يدفع الله ببعض الناس -وهم أهل الطاعة له والإيمان به- بعضًا, وهم أهل المعصية لله والشرك به, لفسدت الأرض بغلبة الكفر, وتمكُّن الطغيان, وأهل المعاصي, ولكن الله ذو فضل على المخلوقين جميعًا، وفي موضع آخر قال تعالى : { ......وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }( الحج : 40 )، أي : ولولا ما شرعه الله من دَفْع الظلم والباطل بالقتال لَهُزِم الحقُّ في كل أمة ولخربت الأرض، وهُدِّمت فيها أماكن العبادة من صوامع الرهبان، وكنائس النصارى، ومعابد اليهود، ومساجد المسلمين التي يصلُّون فيها، ويذكرون اسم الله فيها كثيرًا. ومن اجتهد في نصرة دين الله، فإن الله ناصره على عدوه. إن الله لَقوي لا يغالَب، عزيز لا يرام، قد قهر الخلائق وأخذ بنواصيهم،
(4) – قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ....} ( البقرة : 30 )،
(5) - الرَّاغِب الأصفهاني : " مفردات ألفاظ القرآن "، تحقيق : صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، الطبعة الثانية 1418هـ - 1997م، مادَّةُ " أنس "،
(6) - إبراهيم عبد الرحمن رجب : " تشخيص المشكلات النفسية/الاجتماعية وعلاجها - محــاولة جـزئية لتطبـيق منهجية التكامل بين العلوم الاجتماعية و العلوم الشرعية "، بحث قدم إلى الحلقة الدراسية الثانية التي نظمتها كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية وموضوعها "نحو برنامج تكاملي لمناهج البحث العلمي بين معارف الوحي والعلوم الإنسانية"، سبتمبر 1997،
(7) – إبراهيم عبد الرحمن رجب : " مفهوم المجتمع والمشكلات الاجتماعية "، المصدر : www.ibrahimragab.com/ebooks-22
(8) - جودت أحمد سعادة، عبدالله محمد إبراهيم : " المنهج المدرسي الفعال "، دار عمار للنشر و التوزيع، عَمان، الأردن، ط1، 1991م، ص : 132
(9) - احمد شفيق السكري : " قاموس الخدمة الاجتماعية والخدمات الاجتماعية "، دار المعرفة الجماعية، الإسكندرية، 2000م، ص : 335،
(10) - ابراهام ماسلو Abraham Maslow : (1 ابريل 1908 م / 8 يونيو 1970م ) عالم نفس أمريكي شهير، ولد في بروكلين، نيويورك، أبواه مهاجران يهوديان من روسيا، اشتهر بنظريته تدرج الحاجات، من أبرز مؤلفاته : نحو سيكولوجية كينونة 1968م، الدافعية والشخصية 1954م، أبعد ما تستطيعه الطبيعة البشرية 1972م، أنظر : ويكيبيديا – الموسوعة الحرة،
(11) – أنظر : قاموس المعاني، المصدر : www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/تعدد/
(12) - إبراهيم عبد الرحمن رجب وآخرون : " تنظيم المجتمع – أسس نظرية وتطبيقات عملية "، دار عالم الكتب للنشر والتوزيع، القاهرة، 1986م، ص : 4،
(13) - إبراهيم عبد الرحمن رجب : " نفس المرجع السابق "، ص : 5
*************
أ.د / احمد بشير – جامعة حلوان، القاهرة،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: