صلاح المختار - العراق
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3529 almukhtar44@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ثمة تساؤلات كثيرة تثار في العالم كله خصوصا في اوساط المثقفين العرب، ومن بينهما : لم هزم المعسكر الشيوعي وضمرت الشيوعية الاوربية وانحدر اليسار الاوربي التروتسكي والفوضوي وغيرهما وتحول الى كتل صغيرة متناثرة هامشية رغم ان الايديولوجية الماركسية اللينينية كانت لها جاذبية هائلة في الغرب الاوربي والعالم الثالث؟ ولم هزمت الرأسمالية الغربية في عقر دارها – امريكا – وانتقلت من النعومة الليبرالية الى الخشونة التوتاليتارية؟ واخيرا وهو الاهم: لماذا بقي البعث ممثلا لحركة بعثية اتسعت وصارت اكبر من تنظيمه الحزبي الخاص وتعاظمت بعد اسقاط نظامه الوطني في العراق رغم استشهاد الاف البعثيين وسارت في مسار مناقض لتوقعات الاغلبية من غير البعثيين افترضت زوال البعث خصوصا مع تبني اقسى نظام وحشي اسمه (اجتثاث البعث) لم يطبق حتى على الشيوعية رغم انها كانت رسميا على الاقل اخطر على الرأسمالية من البعث؟
لابد اولا من تحديد قواعد الديمومة والانهيار، فانهيار الشيوعية نتج عن مجموعة عوامل متداخلة ومتفاعلة يأتي على رأسها الخلل في بنية الايديولوجية الماركسية اللينينية كما طبقت في الاتحاد السوفيتي ودول اوربا الشرقية وبطريقة اخرى في الصين. ولعل من اهم اشكال الخلل البنيوي ما يلي:
1- الايمان والالحاد: ربما تكون النظرية المسماة ب(المادية الجدلية) اهم ثغرة ادت في عزلة الشيوعية عن الملايين التي كان يجب ان تكون قاعدتها الثابتة وهي الناس العاديين خصوصا الفقراء والمستغلين، فالمادية الجدلية - او الديالكتيكية - تناولت قضايا كان بامكان الشيوعيين تركها وعدم التورط فيها مثل فلسفة الوجود ومن خلقه وكيف خلق...الخ، فالناس الجوعى والمضطهدين يهمهم اولا وقبل كل شيء انهاء جوعهم واضطهادهم وهو ما وعدتهم به الشيوعية وليس الخوض في ترف مناظرات حول الوجود وطبيعته والتي تعد اساسا من مهام الفلاسفة والمفكرين والعلماء وليس الجماهير الفقيرة ونصف الامية او الامية. لقد ربط ماركس وانجلز - بطريقة قسرية ومفتعلة - وبعدهما لينين بين المادية الجدلية والمادية التاريخية وهما مكونا الماركسية اللينينية الاساسيين، وبذلك وجهوا ضربة قاسية لكل البناء الفكري للشيوعية لان المادية التاريخة كانت تقوم على اعتبار الصراع الطبقي محرك التاريخ والمجتمعات وان تحقيق العدالة الاجتماعية رهن بتدمير النظام الرأسمالي واقامة ديكتاتورية (البروليتاريا الرثة) اي الاكثر فقرا من العمال، ثم اضاف لينين الفلاحين. وهذه الايديولوجية امتلكت جاذبية هددت الرأسمالية بالزوال كما اعترف زبجنيو بريجنسكي في كتاباته خصوصا في كاتبه (بين عصرين) لانها استقطبت الملايين حولها لكن ربطها بالمادية الجدلية احدث ثغرة قاتلة في البناء الايديولوجي للشيوعية.
كانت اوربا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تعيش نشوة الانقلاب الصناعي وانجازاته الباهرة ولهذا اعتقد ماركس ورفيقه انجلز ب(ان الكون لم يخلقة اله) انسياقا مع التقدم السريع والهائل للثورة الصناعية ونجاحات الانسان في تحقيق قفزات كبيرة في انماط الحياة، فوقعا في فخ اغواء الذات متجليا في انكار وجود الله من جهة وفي اهمال حالة الجماهير الفقيرة التي تتطلع للخبز والكرامة وليس الانغماس في جدل لا يشبع البطن ولا يحقق الكرامة الانسانية حول الكون والخلق او التطور من جهة ثانية. ولهذا فان اول حاجز تشكل بين الشيوعية والجماهير المفترضة لها كان حاجز الالحاد الذي تضمنته المادية الجدلية،
مقابل ذلك فان البعث اكتشف مبكرا الخلل البنيوي في الشيوعية وتناقض هدف اعتبار العمال والفلاحين عماد وقاعدة الشيوعية مع ضرب اهم معتقدات هؤلاء وهو الايمان بالله وبصورة فطرية غالبا، فبنى اشتراكيته على الايمان بالله عازلا اياها عن المادية الجدلية معتبرا الايمان احد اهم مكونات الانسان السوي، فضمن دعما جماهيريا كبيرا له خصوصا من الفقراء الذين وعدتهم الاشتراكية بازالة الظلم والتمييز الطبقي والاستغلال واقامة مجتمع العدالة الاجتماعية والقانونية. لقد تجنب البعث وضع تناقض جوهري بين اشتراكيته وبين معتقدات الناس وكان ذلك وعيا متقدما نتج عن القناعة بان الانسان ومهما تقدم فهو من خلق الله وما يحققه فهو من بركات الله وفضله وليس من جهد الانسان وحده فقط. لم يكن غرور الثورة الصناعية الذي شوه تفكير ماركس وانجلز موجودا لدينا في الوطن العربي لاننا اصلا مهد اليهودية والمسيحية ثم الاسلام وكنا ومازلنا نؤمن بوجود اله واحد خلق العالم ويتحكم به ويقرر مساراته الكونية كلها.
2- الملكية الفردية: والخلل الثاني في الشيوعية والذي ادى الى تراجعها اولا ثم انهيارها هو الموقف من الملكية الفردية فالشيوعية نشأت وهي تلتزم بالغاء الملكية الفردية وجعل الملكية العامة هي القاعدة، فحولت الناس الى ادوات حوافزها للعمل والابداع محدودة واحيانا ضعيفة جدا مادام الانسان يبحث بالفطرة عن التميز في كل شيء بما في ذلك في الدخل والمستوى الاجتماعي. وبهذا المعنى فالشيوعية عطلت او اضعفت الحوافز الفردية وهي اصل الابداع والتطور الابداعي في كافة المجالات وحولت الانسان الى متلق ليس عليه الا ان يقوم بعمل روتيني كي يعيش بلا جوع او فقر.
هنا نلاحظ الخلل البنيوي فعدم التمييز بين ملكية وسائل الانتاج، وهو مطلب جوهري وصحيح، وبين ملكية بقية الاشياء المادية كالسكن ووسائط النقل ادى الى تراجع المبادرة والابداع، فالانسان اصبح لا يملك شيئا لان بيته من الحكومة وملكا لها وليس له والنقل عام وليس لديه سيارة – وان حصل عليها فهي متخلفة وغالية الثمن - والسلع الاستهلاكية محدودة بالاشياء المهمة فقط، وعندما يبدع في العمل يتلقى تشجيعا رمزيا. الا يقتل ذلك الحافز الفردي للابداع؟ لماذا تميزت الرأسمالية بتحقيق تقدم تكنولوجي وعلمي اكثر من الشيوعية؟ لان الفرد فيها يكافأ حسب عمله وانجازاته فوفرت حافزا فرديا للعمل والابتكار. هنا مكمن الرتابة في العمل في النظام الشيوعي وقيامه على بيروقراطية كابحة للابداع الانساني.
البعث ايضا وكما رفض الربط بين المادية الجدلية والاشتراكية رفض مفهوم التاميم الشامل لكل انواع الملكية فميز بين ملكية خاصة وملكية عامة واجاز الاولى بجعل الانسان قادرا على التملك للدار والسيارة وحتى المشروع التجاري. ولهذا يوجد في النظام الاشتراكي البعثي نوعان من الملكية: ملكية اشتراكية وهي تشمل ادوات الانتاج الكبيرة والمشاريع العملاقة والتي لا يستطيع الفرد القيام بها وملكية فردية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة يمكن لاي فرد القيام بها وتطويرها برعاية الدولة الاشتراكية، بالاضافة للملكية الخاصة اي الاستعمالية.
وبفضل هذا فان الاشتراكية البعثية ضمنت تحقيق هدفين جوهريين الهدف الاول منع الاستغلال الطبقي وتأمين العدالة الاجتماعية بجعل الانسان متحررا من الفقر والجوع والمرض وقادرا على الدراسة في مختلف المراحل مجانا اضافة لضمانات اجتماعية اخرى، الهدف الثاني وفرت الفرص الواسعة للانسان كي يبدع تجاريا وتكنولوجيا وصناعيا وزراعيا وفكريا بلا قيود كابحة للابداع الانساني، وهكذا جمعت اشتراكية البعث بين افضل ما في الرأسمالية وهو تشجيع الحوافز الفردية وافضل ما في الشيوعية وهو ضمان حياة انسانية كريمة تحرر الانسان من الفقر والعوز والمرض وتوفر له فرص كسب المعرفة مجانا بالاضافة لاتاحة المجال له كي يبدع في اي مجال يعتقد انه قادر على النجاح فيه.
3- الاممية الشوهاء: المقتل الثالث في الشيوعية والذي شكل تناقضا بين ادعاءها وواقعها هو الاممية، فالاممية الشيوعية قامت على اعتبار ان الشعوب مـتأخية ولا يجوز ان تفرقها القوميات والشركات الاحتكارية وعماد وحدة العالم الطبقة العاملة ونظامها الشيوعي. لكن اول تناقض برز بين الاممية المفترضة والشيوعية هو هيمنة الدولة السوفيتية على بقية الحركات الشيوعية في العالم وفرض التبعية لموسكو عليها والغاء دورها وخصوصيتها وتساويها مع المركز الشيوعي انطلاقا من نظرية ستالين المعروفة (الاشتراكية في بلد واحد).
فالاممية هنا اصبحت مجرد شعار ينقضه واقع الممارسات السوفيتية النابع من تغليف المصلحة القومية الروسية بغطاء الشيوعية وامميتها، ولهذا فان الاحزاب الشيوعية تململت ثم انفصلت استجابة لمصالحها القومية وخصوصيتها الثقافية وكان اول المنشقين هو ماو تسي تونغ زعيم الصين الشيوعية ثم لحقه تيتو زعيم يوغسلافيا الشيوعية ثم شاوشيسكو زعيم رومانيا الشيوعية، وبين هؤلاء وقف كاسترو وجيفارا في كوبا يدعوان لشيوعية حقيقية كانت اقرب للشيوعية الاصلية برفضهما الانموذجين الروسي والصيني للشيوعية منطلقين من خصوصيات كوبا وامريكا اللاتينية. وانتقلت عدوى رفض الاممية بمفهومها الستاليني الى الاحزاب الشيوعية في اوربا الغربية فظهرت في ايطاليا ثم في فرنسا الشيوعية الاوربية – يوروكوميونسم - والتي هزت بطروحاتها الشيوعية التقليدية هزا قويا لانها سلكت طريق البعث الاصيل الذي ارساه القائد احمد ميشيل عفلق بفتح باب الايمان الديني للشيوعيين ورفضها الالحاد كموقف عام للشيوعية من جهة وتبنيها امكانية السماح للملكية الفردية كوسيلة لاطلاق المبادرات الانسانية المبدعة في كافة المجالات من جهة ثانية.
بماذا يذكركم كل ذلك؟ اليس انهيار الشيوعية في اوربا الشرقية وتراجعها في الصين، بتبني مفهوم غريب وهو (اقتصاد السوق لاشتراكي) والتراجعات الجذرية في المنطلقات النظرية للشيوعية الاوربية عن الالحاد ورفض الملكية الفردية والخاصة تأكيد لصواب منطلقات البعث الاساسية والتي قام عليها منذ اسسه عفلق؟ ان التراجعات في الفكر والممارسة الشيوعية والتي سبقت الاشارة اليها ليست سوى اعتراف بصواب ايديولوجيا البعث ليس على المستوى القومي العربي فقط بل عالميا ايضا فالتراجع الشيوعي عن الالحاد دعم لايديولوجيا البعث والتراجع عن احتكار الملكية العامة لكل الاقتصاد دعم لايديولوجيا البعث والاعتراف بوجود تميزات قومية لا يمكن ازالتها باممية شكلية دعم لايديولوجيا البعث القومية.
وكي تكتمل الدائرة النظرية لاحاطة البعث بالعالم ايديولوجيا فان الرأسمالية التي اسقطت ورقة التوت عنها ظهرت وباعتراف رموزها بانها رأسمالية وحشية لاتعرف الانسانية ولا العدالة واثبتت انها سرطان العالم ومصدر كوارثه الكبرى، وهذا اكد ان ايديولوجيا البعث القائمة على التعاون الانساني بين الامم واستئصال النزعات العنصرية والطائفية وبناء اشتراكيات قومية في العالم كله اهم شروط الوجود الانساني السلمي، فكلنا بشر متساوون في القيمة الانسانية وما يميزنا عن بعض هو عملنا وليس اي اعتبار اخر. البعث لهذا السبب من الممكن ان يصبح حركة عالمية وليس حركة العرب وحدهم لانه جمع بين افضل القوى الدايناميكية في الرأسمالية والشيوعية ورفض الجوانب السلبية فيهما، خصوصا وان عالمنا يشهد فراغا افكريا الذي نشأ عن انهيار الشيوعية وانكشاف كافة عيوب الراسمالية القاتلة مع انهما كانتا تغذيان ملايين البشر بمفاهيمهما، وهذا الفراغ يمكن لايديولوجيا البعث ان تملأه، وما نحتاجه هو ايصال صوت البعث للعالم كي يعرف جوهره وليس الصور النمطية التي روجت عنه.
وهذه المهمة تتطلب منا نحن البعثيون وفي كافة المواقع الحزبية ان نزداد فخرا بحزبنا وان نمارس اقصى درجات التنكر للذات والتبرء من الانانية والانغماس الكامل في مصلحة الحزب لانها مصلحة الامة وكل البشرية المعذبة. واضيف ما يجب ابرازه دائما لانه اما موضع عدم اكتشاف او انه مخفي تحت تعتيم غربي صهيوني وهو ان الانتصار الايديولوجي البعثي هذا، مدعوما بنهوض البعث غير المسبوق في العراق والوطن العربي، وصلاحيته لتحرير العالم من الاستغلال والعنصرية احد اهم اسرار الاصرار الغربي الصهيوني على اجتثاث البعث – بطرق جديدة مموهة- فهو يشكل تحديا للرأسمالية المحتضرة اشد من الشيوعية التي حملت في احشاءها بذور فناءها بينما البعث يحمل في احشاءه بذور نهوضه وديمومته مهما تعرض للاجتثاث والابادة.
----------
23-3-2016
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: