الساداتيون الجدد : (3-6)
مفهوم القضيه المركزية : ماذا يعني؟
صلاح المختار
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9258
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أن الساداتية الفلسطينية تحرف الموقف المبدأي الصحيح، الذي تبنته حركات التحرر الفلسطينية وقوى الرفض العربية والقائم على فكرة مبدأية راسخة وهي ان قضية فلسطين هي القضية المركزية في حياة العرب، فهي ومن منطلق (الانا وحدية)، او منطق القطرية المتحجرة، تفسره على انه يعني، اول مايعني، ان الموقف من كافة القوى يتقرر في ضوء موقفها من القضية الفلسطينية بغض النظر عن تطور الصراعات العربية ونوعيتها وطبيعة كل منها، وبتجاهل، او ربما جهل حقيقي، بحدوث تحولات ستراتيجية عميقة تجعل الصراع الرئيسي خارج فلسطين، ومن ثم فان المعيار الفلسطيني يكف عن وحدانيته وتضاف معايير اخرى لتقويم القوى والشخصيات والدول! ويفسر الساداتيون هذا الموقف كالآتي :
1- بما ان قضية فلسطين هي القضية المركزية فأن كافة القضايا العربية ملحقة وثانوية.
2- بما ان الموقف من القضية الفلسطينية هو معيار الصواب والخطأ فأن الاطراف المؤيدة لقضية فلسطين يجب ان تدعم، وبغض النظر عن طبيعة مواقفها من القضايا العربية الاخرى لانها ثانوية وملحقة بالقضية المركزية! هل هذا خطأ؟ ام انه صواب؟ ان هذا المنطق صحيح وخاطئ بنفس الوقت، صحيح قومياً، من زاوية مبادئنا الراسخة مادامت قضية فلسطين هي القضية المركزية ويجري في ساحتها الصراع الرئيسي، من خلال وجود مقاومة مسلحة تشكل اهم القوى العربية التي تخوض المعركة الرئيسية مع العدو الرئيسي، ولكنه خاطئ تماماً اذا برز تحد وجودي لقطر عربي آخر لايقل خطراً عن التهديد الصهيوني لفلسطين ونشأت مقاومة اكبر واهم من المقاومة الفلسطينية في ساحة عربية اخرى. هنا يجب التمييز بين الواقع الستراتيجي، وهو واقع صراع، وبين الموقف القومي، وهو التزام ثابت وملزم لكل عربي، فحتى وقوع الحرب التي فرضتها ايران على العراق واستمرت ثمانية اعوام، ايضاً نتيجة اصرار ايران على مواصلتها وتغذية الغرب واسرائيل لاستمراريتها، كان الصراع الرئيسي هو الصراع العربي - الصهيوني بمحتواه الفلسطيني، أي ان الصراع كان متحركاً ومتغذياً اساساً من منبع القضية الفلسطينية، لكن الواقع الميداني العربي والضرورات الستراتيجية العالمية فرض حصول تغييرات ادت الى انتقال الصراع الى جبهة الخليج العربي بعد حرب اكتوبر (1973) وتوقيع اتفاقيتي كامب ديفيد بين السادات واسرائيل، والتي شكلت ضربة موجعة للنضال القومي العربي من اجل تحرير فلسطين.
ان هذه الحقيقة موثقة ومعروفة، فبعد حرب اكتوبر عام 1973 ولد (مبدأ كارتر) والذي ينص على ان امريكا ستتدخل بكافة الطرق، لمنع عرقلة تدفق النفط العربي اليها والى حلفاءها الاوربيين واليابانيين، ومنها الحرب. وهذا المبدأ ثبت حقائق ستراتيجية جديدة :
1- ان منطقة الصراع الرئيسي الجديدة هي الخليج العربي وليست ساحة فلسطين او ماحولها.
2- وسعت امريكا نطاق (حدودها) ليشمل (اقليم النفط)، مادام النفط احد اهم مكونات الامن القومي الامريكي، كما اكد (مبدأ كارتر).
3- ان خروج مصر من حلبة الصراع مع اسرائيل حوله الى توترات حدودية وسياسية و(اعمال عنف)، كما وصفت مصادر غربية عمليات المقاومة الفلسطينية، وهي حالات يمكن ادارتها بنجاح، لان الاردن وسوريا ولبنان، وهي دول الخط الاول المحيط باسرائيل، لا تستطيع، بغض النظر عن النوايا والمواقف، خوض حرب مع اسرائيل من دون مصر.
4- شكلت الولايات المتحدة الامريكية قوات التدخل السريعR.D.F ودربتها على حروب الصحراء وحددت وظيفتها : التدخل في منطقة الخليج العربي.
5- طرح زبجنيو بريجنسكي، مسشار الرئيس كارتر للامن القومي، ستراتيجية استخدام الايديولوجية الدينية، او ما سمي في الغرب (الاصولية الدينية)، بعد ايقاظها ودعمها، لتصبح اداة رئيسية تقوم بدور الحادلة التي تصفي الاتحاد السوفيتي والشيوعية وحركات التحرر الوطني. وفي هذا الاطار دعمت المخابرات الامريكية من اطلقت عليهم تسمية (المجاهدين الافغان)، على المستوى السني، ودعمت وصول خميني للسلطة، على مستوى التشيع الصفوي، ودعمت الحزب القومي الهندوسي للوصول الى السلطة في الهند، على مستوى الهندوسية، لاشعال الصراع الاسلامي – الهندوسي مجددا في شبه القارة الهندية، ودعمت حزب الليكود ووصل للسلطه في اسرائيل لاول مرة لتعزيز التطرف الاسرائيلي واليهودي في العالم. واخيراً وليس آخراً دعمت البابا والكنيسة وحرضتهما على بدء حملة ضد اوربا الشرقية الشيوعية على اساس انها ملحدة، وكان منطلق التمرد على الشيوعية بدعم البابا والكنيسة هو بولونيا الوطن الام للبابا السابق. في اطار هذا التحول الستراتيجي الكوني، ونتيجة وخدمة له، اندلعت الحرب العراقية – الايرانية، كنتيجة مباشرة وحتمية لرفع خميني شعاراً، صهيونياً – امريكيا حتى نخاع العظم، وهو (نشر الثورة الاسلامية)، ويقصد بذلك كما ثبت لاحقا نشر الفتن الطائفية وتشجيع ايران على الاصطدام بالامة العربية، ولذلك بدء خميني بالعراق، ولم يبدأ باسرائيل او امريكا او النظم التابعة لامريكا، مع ان العراق كان قاعدة التحرر الوطني العربي الاساسية، بعد تغييب مصر، وكانت تمثل مركز وانموذج النهضة القومية العربية، والاهم ان قيادة العراق، وبالاخص القائد الشهيد صدام حسين، كانت متمسكة بالموقف العربي القومي الاصيل والذي تم تبنيه من قبل البعث وبقية القوى القومية منذ عام 1948، وهو ضرورة التمسك بتحرير فلسطين من البحر الى النهر وبلا مساومات على أي جزء منها!
ان مجرد بدء خميني بالعراق، وليس في بلدان اخرى كأسرائيل او امريكا، رغم ان شعاره الاساسي كان هو (الموت لامريكا واسرائيل)، كما انه لم يبدأ بنظم عربية تابعة رسمياً وفعلياً للغرب ومتواطئة مع الصهيونية، هو مؤشر لا يخطأ لهوية نظام خميني وتوجهاته الايديولوجية القومية واهدافه الحقيقية، التي تناقض الاهداف المعلنة، المتسترة بالدين. ونتيجة لاصرار خميني على مواصلة الحرب استمرت ثمانية اعوام، مع ان العراق قبل كل المبادرات والوساطات وقرار الامم المتحدة المطالب بايقافها، وذلك بعد اقل من اسبوع من اندلاع الحرب، حينما طرح ضياء الحق الرئيس الباكستاني وقتها مبادرة بأسم (منظمة المؤتمر الاسلامي) في احدى قاعات الامم المتحدة، وكنت انا شخصياً حاضراً ذلك المؤتمر الصحفي، ودعت الى وقف فوري لاطلاق النار وفتح حوار او مفاوضات لحل المشاكل بين البلدين.
وقد ادت تلك الحرب عمليا الى تنفيذ وتجسيد القرار الستراتيجي الامريكي بتحويل ساحة الصراع الرئيسي من ساحة فلسطين ومحيطها الى ساحة الخليج العربي. فالحرب التي فرضتها ايران، بالزمن الذي استغرقته وبحجم القوات التي اشتركت فيها وبالنفقات المالية، برزت كأكبر واخطر حرب في المنطقة في العصر الحديث دون ادنى شك. وللتذكير فقط، لتأكيد هذه الحقيقة، يجب ان نذكّر بأن حرب 1967 استخدمت فيها الدول العربية مجتمعة 200 الف مقاتل، فيما استخدمت اسرائيل 250 الف مقاتل ولم تدم سوى ستة ايام، اما حرب ايران على العراق فقد اشترك فيها حوالي مليوني مقاتل من الطرفين واستمرت ثمانية اعوام، وذهب ضحيتها اكثر من مليون شهيد عراقي وقتيل ايراني، وهذا الرقم مأساوي بكل المعايير ولم يصل عدد ضحايا كل حروب فلسطين اليه! لقد انتقل الصراع، اذن، الى ساحة الخليج العربي، طبقاً لضرورات الستراتيجية الامريكية، وابعاداً لاسرائيل عن مخاطر الصراع الرئيسي، من خلال الهاء واستنزاف العرب في صراعات مع دولة (اسلامية) هي ايران، وما كان لهذه الحرب ان تقع لولا الطموحات التوسعية لخميني، وهذه الحقيقة تفسر لم دعمت الاجهزة الامريكية فعليا اسقاط الشاه، ولم احتضنت فرنسا وليس دولة اسلامية خميني وامنت وصوله الى ايران.
وحينما انتهت الحرب بانتصار العراق، بعكس ما اراد الغرب والصهيونية وهو التدمير الشامل للعراق وتقسيمه على يد ايران، مقابل استنزاف الثورة الايرانية ضد الشاه وتسهيل احتواءها مباشرة فيما بعد، وتحويلها الى الصراع مع عدو مصطنع هو العراق والاقطار العربية وليس امريكا واسرائيل، حدث تغيير ستراتيجي آخر لدى امريكا، فالعراق الذي بطح ايران ومنع انتشارها الاقليمي، خرج من الحرب بصفته القوة الاقليمية العظمى التي تواجه القوة الاقليمية العظمى المتبقية وهي (اسرائيل)، بعد اخراج القوى العظمى الاقليمية الثالثة، وهي ايران، من ساحة الصراع نتيجة هزيمتها المرة امام العراق. وقوة العراق التي تجسدت بجيش المليون مقاتل مدرب ومتمرس على كافة انواع الحروب (حروب ليلية، حروب جبال، حرب مستنقعات، حروب سهول، حروب صحراء...الخ)، كانت اكبر بكثير من ان تهزمها قوة اقليمية وكيلة عند امريكا، كما كان حال اسرائيل وايران طبقا لستراتيجية الحرب بالنيابة (War By Proxy)، واللتان استخدمتا لقمع حركة التحرر العربية في مصر وسوريا وفلسطين والعراق بشكل خاص. لقد برز مارد عسكري وسياسي عراقي بايديولوجيا قومية عربية راسخة، وواعية لدورها القومي والاقليمي والعالمي، مع ان الغرب والصهيونية قررتا منذ وفاة المرحوم جمال عبد الناصر منع ظهور قادة قوميين كبار ومؤثرين بأي شكل، وكان هذا المارد يتبني ستراتيجية قومية اساسها تحرير فلسطين كلها ورفض سياسات الاستسلام العربية، وبناء القاعدة الصناعية والاجتماعية والعلمية لتحقيق الهدف القومي الاهم وهو الوحدة العربية. فماذا تفعل امريكا لمواجهة هذا المارد الجبار والذي اخذت كافة ادوات امريكا وحلفاؤها في المنطقة تخشى حتى استفزازه مع ان بقاءه سيقود حتما الى احداث انقلاب ستراتيجي جذري في المنطقة كلها، وبالاخص في الوطن العربي، لصالح حركات التحرر؟
الجواب الامريكي كان استبدال ستراتيجية الحرب بالنيابة بستراتيجية الحرب بالاصالة، وبموجب الاخيرة فأن امريكا لم تعد تكتفي بدعم الدول التابعة لها، لتخوض الحروب او تشعل الازمات، ولا تتدخل هي مباشرة في الحروب، بل شرعت بخوض الصراع مع العراق مباشرة ورسميا وباسمها وبقواتها وقدراتها، وكانت البدايه عام 1988، وتحديداً بعد الانتصار التاريخي العراقي على ايران، الذي اعلن عنه خميني يوم 8/8/1988 بعد اضطراره لايقاف اطلاق النار واطلاقه لمقولته الشهيرة (انني اقبل وقف اطلاق النار كما لو انني اتجرع سم زعاف). كانت امريكا تعد لحرب شاملة على العراق، واتخذ القرار الحاسم بأسقاط النظام الوطني في العراق، وهيأت لذلك بسلسلة حملات اعلامية ومقاطعات مالية واقتصادية وتكنولوجية، ووضع اسم العراق مجدداً في قائمة (الدول الراعية للارهاب)، وتوجت هذه الخطوة بخطة استخدام الكويت في تفجير ازمة مع العراق، ورفض امريكا حلها سلمياً فوقع العدوان الثلاثيني على العراق (1991)، وكانت حرباً عالمية بكل المقاييس، فقد اشتركت فيها ضد العراق جيوش 28 دولة وطاقات اكثر من ثلاثين دولة، واسلحة كانت الاحدث والاشد فتكاً من اسلحة الحرب العالمية الثانية. وتلك القدرات والدول التي حاربت العراق كانت اكبر بكثير من القدرات والدول التي حاربت المانيا النازية.
وكما فشل خميني في غزو العراق، رغم طاقات ايران الهائلة، وبالاخص الاستعداد للانتحار لدى الالاف نتيجة عمليات غسل الدماغ الجماعي على طريقة حسن الصباح، فان جورج بوش الاب فشل في تحقيق هدف اسقاط النظام الوطني في العراق، فاوقف الحرب بقرار امريكي منفرد يوم 28/2/1991 بعد ان ادرك، كما اعترف فيما بعد في مقابلة مع السي. ان. ان بعد تركه للرئاسة، بأن صدام حسين اعد فخاخاً قاتلة في مدن العراق وكان مستعداً لخوض حرب عصابات مهلكة (ضد اولادنا)! لقد تغيرت خطة غزو العراق واصبحت تقوم على استنزاف تدريجي قوي وفعال يمهد لغزو سهل نسبياً مقارنة بمقاومة العراق في عام 1991، فكان الحصار الشامل الذي استمر 13 عاماً حرم اثناءه العراق حتى من الدواء والغذاء، ولم يشتري رصاصة واحدة من الخارج. وعندما اكتملت مقومات الغزو، بعد اعداد طويل، تم الغزو في عام 2003، ولكن مرة اخرى، وكما فوجئ بوش الاب فأن بوش الابن فوجئ باندلاع مقاومة شعبية مسلحة فورية وعلى مستوى العراق، نتيجة الاعداد المسبق، فوقعت امريكا في فخ مميت نرى الان اثاره واهمها انكشاف القوة الحقيقية لامريكا والتاكد من انها نمر من ورق، حتى لو كانت له انياب ذرية. في ضوء هذا العرض الملخص للتحولات الستراتيجية في الاقليم المسمى (الشرق الاوسط)والذي يضم الوطن العربي وايران وتركيا، رأينا بوضوح تام ان المعركة الرئيسية والصراع الرئيسي قد انتقلا من الساحة الفلسطينية الى الساحة العراقية، واصبحت الساحات العربية الاخرى، بما في ذلك الساحة الفلسطينية، تشهد صراعات ثانوية، على المستوى الستراتيجي وليس على مستوى القيمة القومية، الامر الذي جعل امكانية القول بأن الموقف من القضية الفلسطينية هو المقرر الوحيد لطبيعة الدول والمنظمات خاطئة، بل ومضرة لانها تعبر عن خطأ وفشل تام في فهم الوضع الستراتيجي، اولاً، وسوء فهم لمعنى القضية المركزية ثانياً.