من قواعد النصر في القرآن الكريم – 26 – واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم ونصركم
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4237
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
" يعد ترعرع الحضارة الإسلامية من أكثر الموضوعات استحقاقًا للتأمل والدراسة في التاريخ، ذلك أن السرعة المذهلة التي تم بها تشكل هذه الحضارة أمر يستحق التأمل العميق، وهي ظاهرة عجيبة جدًّا في تاريخ نشوء الحضارة ويمكن تسميتها بالحضارة المعجزة , لأنها تأسست وتشكلت وأخذت شكلها النهائي بشكل سريع جدًّا ووقت قصير جدًّا، بحيث يمكن القول إنها اكتملت وبلغت ذروتها حتى قبل أن تبدأ " ( الباحث اليهودى فرانز روزنتال )
*************
المحتويات :
* مع القاعدة السادسة والعشرون من قواعد النصر في القرآن الكريم :
* سياق الآية :
* وفي رحاب هذه القاعدة نشير إلى مجموعة من الملاحظات والفوائد على النحو
التالي :
1- غزوة بدر كانت نقطة فاصلة في حياة المسلمين :
2- أن قلة العدد لم تكن يوما سببا في هزيمة المسلمين أمام
عدوهم :
3- داؤنا الخطير اليوم هو الذلة والهزيمة النفسية، وليس القلة ولا
الضعف :
4- أن الايمان والأخذ بالأسباب سبيل النصر والتأييد الإلهي :
----------------------------------------------------------------
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعــد :
* مع القاعدة السادسة والعشرون من قواعد النصر في القرآن الكريم :
ومؤداها : "أن تاريخ المسلمين يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الله وحده هو الذي نقل القلة المستضعفة من المسلمين الأوائل في صدر الإسلام من الحال الأدنى إلى الحال الأعلى، وبالتالي فهو وحده القادر على أن ينقلهم من الأعلى إلى الأدنى، ويسري ذلك على المسلمين في كل زمان ومكان، وبالتالي فعلى المسلمين ألا يخافوا أية قوة في الأرض مهما بلغت هذه القوة، ولكن عليهم أن يثقوا بالله تعالى، وأن يعدوا لكل قوة ما يناسبها من أسلوب المواجهة "، إنها قاعدة قرآنية نستقيها من قول الله تعالى في سورة الأنفال : ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ( الأنفال : 26 )، والمعنى : واذكروا أيها المؤمنون نِعَم الله تعالى عليكم إذ أنتم بـ"مكة" – في بدايات الدعوة الاسلامية - قليلو العدد مقهورون معذبون , تخافون أن يأخذكم الكفار بسرعة ( ويستأصلوا شأفتكم ويقضوا عليكم ) , فجعل لكم مأوى تأوون إليه وهو "المدينة ", وقوَّاكم بنصره عليهم يوم "بدر", وأطعمكم من الطيبات - التي من جملتها الغنائم -; لكي تشكروا له على ما رزقكم وأنعم به عليكم.( التفسير الميسر )،
وإذا ما أرجعنا البصر في مضمون تلك الآية المباركة، وتدبرنا فحواها فإننا سنجد أن الله تعالى يذكر المؤمنين بثلاث ظواهر تصف حالهم في بدايات الدعوة، وامتن عليهم بثلاث نعم إلهية نقلتهم من هذا الحال إلى حال آخر لم يكن يخطر لهم على بال :
أما الحال الاولى فكانوا فيها : قلة عددية أذلة مهانين، مستصعفين في الأرض أي يستضعفهم الكفار في أرض مكة، فيفتنونهم عن دينهم، وينالونهم بالأذى والمكروه،، يسيطر عليهم الخوف من أن يتخطفهم الناس المشركون، سواء بالقتل أو بالسلب أو بالخطف،
وأما النعم التي يمتن الله عليهم بها ويذكرهم بها : أنه آواهم إلى المدينة وجعل لهم مأوى يتحصنون به من عدوهم، وأيدهم بنصره، ورزقهم من الطيبات،
إنه رصد قرآني معجز يصور حالة العرب خاصة والعالم عامة، قبل مجيء هذا الدين الحنيف، فقد كانوا في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وكانت جزيرة العرب بالذات، مسرحاً للفتن والاضطرابات، والنهب والسلب والحروب، فلما جاء هذا الدين، ودخلوا فيه، وأقبلوا على منهج الله تعالى، تحولوا إلى مجتمع مثالي بكل معاني الكلمة، يسوده الأمن، ويحكمه الوحي، وتوجهه العقيدة السليمة، وتحولت فيه العداوة إلى محبة، والقطيعة إلى أخوة، والشح والأثرة إلى إيثار ومساواة، والخوف إلى أمن وطمأنينة، فلننظر إلى هذا الفضل الإلهي على أجدادنا المسلمين الأوائل، وكيف أيدهم الله بالحق على جميع طوائف الظالمين مع قلة عددهم وعتادهم، وضعفهم، وخوفهم، ومع حنق أعدائهم وتكالبهم عليهم، وتناصرهم على باطلهم حتى خرجوا بفضل الله منتصرين بالحق الذي أيدهم الله به وله تحت قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
* سياق الآية :
جاءت هذه الآية التي استنبطنا منها هذه القاعدة من قواعد النصر القرآنية في السياق التالي :
- إذ سبقها قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ( الأنفال : 24 - 25)، فهنا :
0 أمر من الله تعالى للمؤمنين بأن استجيبوا لله وللرسول بالطاعة إذا دعاهم لما يحييهم من الحق, ففي الاستجابة إصلاح حياتهم في الدنيا والآخرة ,
0 وإخبار بأن الله تعالى هو المتصرف في جميع الأشياء والأمور, والقادر على أن يحول بين الإنسان وما يشتهيه قلبه , فهو سبحانه الذي ينبغي أن يستجاب له إذا دعاهم; إذ بيده ملكوت كل شيء,
0 وإخبار بيوم المعاد الذي لا ريب فيه، فيجمعون فيه جميعا لعرض الأعمال على الله تعالى فيجازي كلا بما يستحق،
0 وتحذير للمؤمنين من الاختبارً والمحنة التي يُعَمُّ بها المسيء وغيره لا يُخَص بها أهل المعاصي ولا مَن باشر الذنب , بل تصيب الصالحين معهم إذا قدروا على إنكار الظلم ولم ينكروه ,
0 وإخبار بأن الله شديد العقاب لمن خالف أمره ونهيه.
ثم تأتي آية التذكير التي هي موضوعنا هنا،
- وجاء بعقبها قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ( الأنفال : 27 - 29)، ونجد هنا :
0 نهي جازم للمؤمنين عن خيانة الله ورسوله بترك ما أوجبه الله عليهم، وفِعْل ما نهاهم عنه , ونهاهم عن خيانة الأمانة والتفريط فيما ائتمنهم الله عليه, وهم تعلمون أنه أمانة يجب الوفاء بها.
0 وإخبار للمؤمنين بأن أموالهم التي استخلفهم الله فيها , وأولادهم الذين وهبهم الله لهم اختبار من الله وابتلاء لعباده ; ليعلم أيشكرونه عليها ويطيعونه فيها, أو ينشغلون بها عنه؟
0 وإخبار لهم بأن الله عنده خير وثواب عظيم لمن اتقاه وأطاعه.
0 وإخبار لهم أيضا بأنهم إن اتقوا الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، يجعل لهم فصلا بين الحق والباطل , ويَمحُ عنهم ما سلف من ذنوبهم ويسترها عليهم , فلا يؤاخذهم بها. فالله تعالى ذو الفضل العظيم.
وبين السياق السابق والسياق اللاحق وما تضمنه كل منهما من أوامر، ونواه، وأحبار، وكيف جمعت السوابق واللواحق بين الترغيب والترهيب، جاءت الآية التي نحن بصددها : ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
فبعد أن أمر الله تعالى المؤمنين بالاستجابة له، ونهاهم عن الوقوع فى المعاصى . . أخذ فى تذكيرهم بجانب من نعمه وفضله عليهم، وحثهم على التفكير فيما حدث لهم من تلك النقلة النوعية من حال إلى حال بفضل هذا الدين الذي هداهم الله تعالى لاتباعه، وأمرهم أن يتفكروا كيف كانوا وكيف أصبحوا، وكيف نقلهم الله تعالى من الشدة إلى الرخاء، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف،
كانوا قلة مستضعفة فى أرض مكة تحت أيدى كفار قريش، أو فى أرض الجزيرة العربية حيث كانت الدولة لغيرهم من الفرس والروم ، وكيف كانوا يخافون أن يأخذهم أعداؤهم أخذا سريعا، بسبب قوة الأعداء وضعف المؤمنين، فليتذكروا جليل نعم الله عليهم، وأن يداوموا على شكرها حتى يزيدهم سبحانه من فضله، حيث عنهم حال الذلة والقلة والضعف والهوان والخوف وأبدلهم خيرا منها، ثم شرع الحق تعالى في بيان ما من به عليهم من نعم بعد أن كانوا محرومين منها، وكيف أنه سبحانه آواهم إلى المدينة، وألف بين قلوبهم ( المهاجرين والأنصار )، وأيدهم بنصره فى غزوة بدر، وقذف فى قلوب أعدائهم الرعب منهم، وفوق هذا وذاك رزقهم من الغنائم التى أحلها لهم بعد أن كانت محرمة على الذين من قبلهم، كما رقزهم أيضا بالكثير من المطاعم والمشارب الطيبة التى لم تكن متوفرة لهم قبل ذلك، ومن تذكر نعم الله تعالى وتفكر فيها كان ذلك حريا أن يقوده إلى شكرها، ومداومة الطاعة لله المنعم،
- قال " ابن جرير " رحمه الله : قال قتادة فى قوله - تعالى - { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض . . . } " كان هذا الحى من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبيته ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردى فى النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منهم منزلا، حتى جاء الله بالإِسلام، فمكن به فى البلاد، ووسع به فى الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، فبالإِسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر " (1)،
* وفي رحاب هذه القاعدة نشير إلى مجموعة من الملاحظات والفوائد على النحو التالي :
1- غزوة بدر كانت نقطة فاصلة في حياة المسلمين :
إن ظاهر هذه الآية أنّها نزلت في معركة بدرٍ كما يرى عددٌ من المفسّرين، وذلك أنّ المسلمين كانوا على هذه الحالة من الضعف والخوف وقت بدرٍ، وبعد هذا النصر تغيّر حال المسلمين تماما من حال إلى حال، من الضعف إلى القوة، ومن الخوف إلى الأمن، وقويت شوكتهم وقلّ طمع المشركين فيهم، وذلك كله من فضل الله تعالى عليهم وعطائه غير المنقوص، قال تعالى في واقعة بدر الكبرى : {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }( آل عمران : 123 )،
2- أن قلة العدد لم تكن يوما سببا في هزيمة المسلمين أمام عدوهم :
فالله وحده هو ناصر المؤمنين حتى ولو كانوا قلة مستضعفة تواجه أعتى قوى الأرض قوة وجبروتا، فهو الذي يبدل خوفهم أمنا، وهو الذي يؤويهم ويمكن لهم في الأرض، وهو الذي يؤيدهم بنصره وتوفيقه على عدوهم مهما كانت قوته، وهو الذي يرزقهم من الطيبات، وما عليهم بعد ذلك إلا أن يشكروا نعم الله تعالى عليهم، وأن يعترفوا بجميل عطاء الخالق المتفضل،
فكأن الله تعالى يذكر المؤمنين – كما يقول "الشعراوي " رحمه الله - أن يجعلوا هذا الأمر على بالهم دائما وألا يخافوا أية قوة مهما بلغت، فهم حملة دعوة، ومن يحمل الدعوة قد يعاني من المصاعب والمتاعب والمشقات؛ لكن يجب ألاَّ يفت ذلك في عضدهم ... فلقد كان المسلمون الأوائل قلة تعاني من إذلال واضطهاد الكافرين الأقوياء، وكان المسلم من الأوائل لا يجد أحياناً من يحميه من اضطهاد المتجبرين، فيلجأ إلى كافر يتوسم فيه الرحمة ويقول له : أجرني من إخوانك الكفار، وحين بلغ الضعف بالمسلمين الأوائل أشده، ولم يجدوا حامياً لهم من ظلم وتعذيب الكفار، عرض عليهم صلى الله عليه وسلم أن يهاجروا إلى الحبشة ؛ لأنَّ فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وكانت الهجرة إلى الحبشة هرباً من قوة الخصوم، ولم يظل حال المسلمين كذلك، بل نصرهم الله لا بقوتهم، ولكنه سبحانه وتعالى شاء لهم أن يأخذوا بأسباب منهجه فانتصروا وعلت كلمة الله عز وجل..." (2)،
3- داؤنا الخطير اليوم هو الذلة والهزيمة النفسية، وليس القلة ولا الضعف :
إن داء أمتنا اليوم في المقام الأول إنما يتمثل في " الهزيمة النفسية " (3)، وهو داء وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا : " إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " ( صححه الألباني، أنظر صحيح الجامع الصغير )، وكذلك في حديث " التداعي " عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعا : " تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها "، قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : " لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله الرهبة من صدور عدوكم لكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قالوا: وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : "حب الدنيا وكراهية الموت " (4)
ويحدثنا القرآن الكريم أن الذل، والهزيمة النفسية مرض أقعد بني إسرائيل عن الجهاد مع أنهم موعودون بالنصر، ونبي الله بين أظهرهم، فلم ينفع ذلك في اقتلاع شجرة الذل الراسخة في أفئدتهم الهواء فقالوا لموسى عليه السلام : {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون }( المائدة : 24 )،
واليوم – وبكل أسف - يتبع بعضنا سنن من كان قبلنا فيحل بهم من الذل ما يمنعهم من الجهاد في سبيل الله معتذرين بالضعف والاستضعاف، فمهما أريته الآيات البينات في نصر الله لعباده المؤمنين سواء منها الآيات الشرعية المبثوثة في نصوص الشرع، أو الآيات الكونية المحسوسة على أرض الواقع فلن تجد منه إلا صدودا { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم }( محمد : 20 )، ومهما سردت له من نصوص الوعيد في حق المتخلفين عن الجهاد الواجب وما في ذلك من سلوك مسالك النفاق فلن يتحرك في قلبه شعور المحاسبة، ووازع المراقبة فــــ :
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
وبعضهم لا يكتفي بقعوده بل يتخذ من قاعدة " الهجوم خير وسيلة للدفاع " مطية له فيعادي المجاهدين ويخطؤهم حتى يسلم له جاهه ولا تنكسر كبرياؤه إذا وصف بأنه من الخوالف القاعدين !!
وينسى الكثيرون أو يتناسون أن لله في خلقه سنن ماضية لا تتغير ولا تتخلف، ومن تلك السنن أن للضعيف سبيلا إلى النصر والتمكين بالإعداد الجيد القائم على العلم والمعرفة وحشد الجهود والموارد والامكانات، واستفراغ الوسع في العمل الجاد ليحصل النصر، وتبرأ الذمة، أما القعود والاعتذار بالضعف فهو سبيل الفاسقين، وعلامة على درب المنافقين، إن المؤمن الضعيف يسير في الأرض، ويمشي في مناكبها يبحث عن أرض يستطيع فيها جهاد أعداء الله، ويقيم شرع الله، ولا شك أن الأخذ بأسباب القوة المادية والمعنوية بعد التوكل على الله كفيل بتحقيق النصر للمؤمنين الذين حققوا التوحيد والكفر بالطاغوت مهما طال الزمن ...
إن المجاهدين الذين يتوكلون على الله ويخلصون له ويلتزمون أمره هم القوم المنصورون حقيقة في الدنيا والآخرة..أولئك الذين يكفرون بطواغيت الأرض كلها : { ..فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ( البقرة : 256 )، .. أولئك مهما قل عددهم وضعفت قوتهم فلهم النصر بإذن الله إذا سلكوا طريق الجهاد وحققوا العلم بالعمل ولن تقف في وجوههم قوى الأرض كلها.
إننا أمام درس بليغ، ومنة عظيمة من الله تعالى أن ينصر أولياءه مع قلتهم، وهو ما ينبغي ألا يغيب عن ذهن مسلمي اليوم، ولذلك بين الله تعالى في مواضع عدة من كتابه الكريم أن العبرة ليست بالقوة، وإنما العبرة بالإيمان واليقين والطاعة والاستجابة والأخذ بالأسباب، وبين لنا ضعف تلك القوة الكبرى التي يكون عليها الأعداء في مواضع متعددة، وما يجري الآن من تكالب أعداء الله وما لديهم من أسلحة فتاكة فإنها سرعان ما تزول وتضمحل بإذن الله عز وجل : لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيحين : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله "، وأمر الله بُيِّن في رواية أخرى : " حتى تأتيهم الساعة " فهم منصورون، وصدق الله إذ يقول : {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } ( الروم : 47 )، وهذا وعد الله، { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ }، وقال تعالى عن قوة هؤلاء : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ }، وقال تعالى عن كفار قريش لما أتوا بقضهم وقضيضهم وعدتهم وعددهم : { وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } ( الأنفال : 19 )، وقال تعالى : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ } يعني : النبي عليه الصلاة والسلام { فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ }، اثنان : النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكروقريش بجميع أسلحتها وجيوشها وشبابها وقوتها وعتادها ومع ذلك فقد نصره الله تعالى : {فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا }
4- أن الايمان والأخذ بالأسباب سبيل النصر والتأييد الإلهي :
وتلك حقيقة أشرنا إليها ودللنا عليها في العديد من حلقات هذه السلسلة، وهي حقيقة ينبغي أن نربي عليها أجيال المسلمين، في وقت كادت فيه هذه القضية أن تغيب عن أذهان الكثيرين، ونود الإشارة أننا عندما نعطف الأخذ بالأسباب على الإيمان إنما يدفعنا إلى ذلك الرغبة في التحليل، ومزيد من التأكيد على أمر اعترته في العصور الأخيرة الكثير من سوء الفهم، وإلا فالإيمان الحق ذاته يتضمن في طياته قضية العمل والاجتهاد والاعداد والأخذ يالأسباب، في كل ما نأتي وكل ما ندع،
- ويؤكد " الشعراوي " (5) على أن الله تعالى نصر المسلمين الأوائل لا بقوتهم، ولكنه سبحانه وتعالى شاء لهم أن يأخذوا بأسباب منهجه فانتصروا وعلت كلمة الله عز وجل، ولذلك تقدم المسلمون في شؤون الحياة كلها، وسادوا الدنيا وكانوا روادا في العلم والمعرفة وإدارة شؤون الحياة قرونا ممتدة،
ويستطرد قائلا : " إننا نتخذ من هذه المسألة حجة ومثلاً نواجه به من يشككون في قدرة المسلمين على إدارة الحياة والارتقاء بها؛ لأن العالم كله قد شهد ألف عام كان المسلمون فيها هم قادة العلم والفكر والابتكار، وكانت غالبية الدول تخضع لحكم دولة الإسلام "، ..... وإذا كان الله تعالى – كما دلت الآية التي نحن بصددها – قد أسبغ نعمه على أجدادنا الأوائل، فانتقلوا من حال القلة والضعف والذلة والهوان والخوف والقلق، إلى حال القوة والعزة والسيادة والريادة والنصر والتمكين، فإن الله تعالى قادر على يغير حال المسلمين اليوم، شريطة أن ننتبه من غفلتنا ونستيقظ من نومنا، و" أن نعيد الأخذ بأسباب الله في الكون، ولنطور العلوم، ونخدم بها منهج الله، بدلاً من أن نظل متخلفين رغم أن منهج الله يحضنا على الأخذ بالأسباب الموجودة في الكون، وكلنا يعلم أن كون الله في يده، والنواميس في يده، يسخرها سبحانه وتعالى لمن يجد ويجتهد ويعمل ويأخذ بالأٍسباب "،
إن هذه الآية والقاعدة تذكر للمسلمين وهم يعيشون واقعا كئيبا في عالم اليوم، أن هذا الواقع بما فيه ليس بجديد عليهم، وإنما عاشه أجدادهم الأوائل حتى أيدهم الله بنصره، وانتشلهم من واقع كئيب كانوا فيه أذلة مهانين، إلى واقع آخر أصبحوا فيه أعزة مكرمين، فأصبحوا من بعد الضعف أقوياء باستقرار الإيمان في قلوبهم، وبمدد من الله عز وجل ؛ لذلك يجب أن يضع المسلمون في كل زمان ومكان ذلك نصب أعينهم، وليعلموا أن الفضل بيد الله وحده، وأن النصر من عند الله، وما على المسلمين إلا أن يستجيبوا لله والرسول، وأن يلتزموا منهج الله تعالى، ساعتها سييسر الله لهم أسباب النصر من غير مظانها، حتى يوصلهم إلى مكافحة عدوهم، وأن يتقيَ أعداؤُهم بأسَهم، كما حدث مع أجدادهم من قبل،
5- أن مضمون الآية صادق على المسلمين في كل زمان ومكان :
فهي ليست وقفا على المسلمين الأوائل، وإنما هي حقيقة تنسحب على المسلمين أينما وجدوا وحيثما كانوا، يقول " ابن عاشور " (6) رحمه الله في تفسيره : " ....ومضمون هذه الآية صادق أيضاً على المسلمين في كل عصر من عصور النبوة والخلافة الراشدة، فجماعتهم لم تزل في ازدياد عزة ومنعة، ولم تزل منصورة على الأمم العظيمة التي كانوا يخافونها من قبل أن يؤمنوا، فقد نصرهم الله على هوازن يوم حُنين، ونصرهم على الروم يوم تَبوك ونصرهم على الفرس يوم القادسية، وعلى الروم في مصر، وفي برقة، وفي إفريقية، وفي بلاد الجلالقة، وفي بلاد الفرنجة من أوروبا، فلما زاغ المسلمون وتفرقوا، أخذ أمرهم يقِف، ثم ينقبض ابتداء من ظهور الدعوة العباسية، وهي أعظم تفرق وقع في الدولة الإسلامية، وقد نبههم الله تعالى بقوله في هذه الآية : { لعلكم تشكرون }، فلما أعطوا حق الشكر دام أمرهم في تصاعد، وحين نَسوه أخذ أمرهم في تراجع ولله عاقبة الأمور، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم ينبه المسلمين بالموعظة أن لا يحيدوا عن أسباب بقاء عزهم، وفي الحديث، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : " قلت يا رسول الله إنّا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخَيْر من شَر ؟ قال : نعم، قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم وفيه دَخَن ...... الحديث (7)، وفي الحديث أيضا : إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غيبا كما بدأ فطوبى للغرباء . قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس ( صححه الألباني في السلسلة الصحيحة )،
- وختاما فإننا نؤكد على أن هذه القاعدة ترسم للأمة طريق النصر والتمكين، وتمهد لها سبيل الأمل، وإمكانية الخروج من هذا الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم والذي هو أقرب ما يكون من ذلك الواقع الذي وصفه القرآن الكريم والذي كان يعيشه الرعيل الأول من المسلمين في مكة، فهم كانوا قلة قليلة، ولكن المسلمين اليوم كثير –خمس سكان العالم أو يزيد – ولكنهم كما وصفهم الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : غثاء كغثاء السيل، والمسلمون اليوم مستضعفون، وهم أيضا يعيشون في حالة من الخوف على حاضرهم ومستقبلهم وسط موجة من العداء للإسلام والمسلمين لا تخفى على المراقب المنصف، ومن هنا تأتي هذه القاعدة لتفتح المجال أمام الأمة للعمل على استثمار الطاقة البشرية المتوفرة في شرق البلاد وغربها، وتطوير قدراتها، وبناء الإنسان المؤمن الفعال الإيجابي المسؤول، والاعتصام بحبل الله تعالى، والتوجه نحو تحقيق التغيير الذاتي، والإعداد الذاتي، لتحقيق النقلة النوعية التي تحتاجها الأمة، وما ذلك على الله بعزيز،
والله تعالى من وراء القصد،
*************
الهوامش والاحالات :
===========
(1) - محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ) : " جامع البيان في تأويل القرآن "، تحقيق : أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م، ج28، ص :، 63،
(1) - محمد متولي الشعراوي : " تفسير الشعراوي "، مطابع أخبار اليوم، القاهرة، ج 1، تفسير الآية،
(3) - الهزيمة النفسية هي انهزام القلب وانهيار الشخصية أمام الخصم أو العدو حتى قبل المعركة؛ أيِّ معركة، سواء كانت حربية، أو فكرية، أو حضارية، سببُها اليأس والقنوط، ونتيجتها الاستسلام والانسحاب من المواجهة، وقد وردت الإشارة إليها في القرآن الكريم والسنة النبوية في عدة مواضع تتعلق كلها بالموقف من العدو :
• قال تعالى : ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ ( البقرة : 249)، هذا الجيش من بني اسرائيل انهزم بمجرد إبصار العدو، وقبل أي منازلة معه ؛ لأنه كان يستصحب عوامل الهزيمة في نفوس أفراده،
• وقال تعالى : ﴿ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّه ﴾ ( الحشر : 2 )، فرغم أن الصحابة رضي الله عنهم أرباب تربية روحية قوية وتكوين نفسي صلب، إلا أن لجوء بني النضير إلى حصونهم المنيعة جعل الشكَّ يساورهم في إمكانية الانتصار عليهم ؛ لذلك تولَّى الله تعالى ذاته المعركة : ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ... فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾ ( الحشر : 2 )،
وهذه الهزيمة هي المعنى الذي حواه حديث " تداعي الأمم " الذي رواه أبو داود، والذي أرجع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم سببَ تكالب العدو الخارجي إلى انهيار البنيان الداخلي، والتكوين النفسي بالأساس، وسماه الوهن، وقرنه بالجبن أمام التحدي المحدق ؛ وإنما ينهزم الناس عندما تتمكن منهم الأوهام، وتتضخم في أعينهم قدرات العدو أو الخصم، وتضعف نفوسهم عن طلب الغايات الكبرى وبذل الثمن المناسب، ويرضون بالحياة التافهة المتسمة بالعجز والمسكنة.
أنظر : - عبدالعزيز كحيل : " حول الهزيمة النفسية "، بتاريخ : 25/12/2014م، المصدر : http://www.alukah.net/sharia/0/80296/#ixzz43BmaHG1E
(4) - ( حديث صحيح : رواه أبو داود (4297)، وأحمد (5 / 287)، من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه بطريقيه الألباني في الصحيحة (958)
(5) - محمد متولي الشعراوي : " مرجع سبق ذكره "،
(6) - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : " التحرير والتنوير "، الطبعة التونسية، دار سحنون للنشر والتوزيع - تونس - 1997 م، ج9، ص : 321،
(7) – تمام الحديث : عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني قال : قلت : يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : " نعم " قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : " نعم وفيه دخن " . قلت : وما دخنه ؟ قال : " قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر " . قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : " نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها " . قلت : يا رسول الله صفهم لنا . قال : " هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " . قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " . قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " . متفق عليه . وفي رواية لمسلم : قال : " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس " . قال حذيفة : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع " ( متفق عليه )
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: