نفحات ودروس قرآنية - 1 - من كان مع الله لم يضره ضعفه
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3809
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
" من كان الله معه فما فقد أحدا، ومن كان الله عليه فما بقي له أحد "
" السعيد الحق من كان مع الله، والأسعد منه من كان الله معه "
" يا رب ماذا وجد من فقدك؟ وماذا فقد من وجدك؟ "
***********
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أمــا بعـتد :
لقد ذكر القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام مع فرعون الطاغية في عدد من سور القرآن الكريم، بدءا من مولده، وانتهاء بأداء رسالته على الوجه الأكمل، وإنقاذ بني إسرائيل وهلاك فرعون الطاغية الجبار، وفي قصة موسى العديد من الدروس النافعات، والعظات البليغات، والعبر والفوائد التي لا غنى عنها للمؤمن في مسيرة حياته،
ومن تلك الدروس المهمة درس نود التأكيد عليه من مجمل تلك القصة القرآنية،
فعندما ولد موسى عليه السلام خافت عليه أمه أن يقتله فرعون، فأوحى الله تعالى إليها وألهمها أن تضعه في صندوق وتلقيه في النيل ففعلت، فماذا حدث ؟ التقطه آل فرعون، وأوصت إمرأة فرعون بعدم قتله لتتخذه ولدا،
قال تعالى : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } ( القصص : 7 )، أي : وألْهمنا أم موسى حين ولدته وخشيت عليه أن يذبحه فرعون كما يذبح أبناء بني إسرائيل: أن أرضعيه مطمئنة, فإذا خشيت أن يُعرف أمره فضعيه في صندوق وألقيه في النيل, دون خوف من فرعون وقومه أن يقتلوه, ودون حزن على فراقه, إنا رادُّو ولدك إليك وباعثوه رسولا. فوضعته في صندوق وألقته في النيل ( التفسير الميسر )،
{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ{8} وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ{9}، فعثر عليه أعوان فرعون وأخذوه , فكانت عاقبةُ ذلك أن جعله الله لهم عدوًّا وحزنًا, فكان إهلاكُهم على يده. إن فرعون وهامان وأعوانهما كانوا آثمين مشركين، وقالت امرأة فرعون لفرعون: هذا الطفل سيكون مصدر سرور لي ولك, لا تقتلوه; فقد نصيب منه خيرًا أو نتخذه ولدا, وفرعون وآله لا يدركون أن هلاكهم على يديه.
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{10} وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ{11} وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ{12} فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ{13}، أي : وبعد إلقائه في النيل أصبح فؤاد أم موسى خاليًا من كل شيء في الدنيا إلا من همِّ موسى وذكره, وقاربت أن تُظهِر أنه ابنها لولا أن ثبتناها, فصبرت ولم تُبْدِ به; لتكون من المؤمنين بوعد الله الموقنين به.
وقالت أم موسى لأخته حين ألقته في اليم: اتَّبِعي أثر موسى كيف يُصْنَع به؟ فتتبعت أثره فأبصرته عن بُعْد, وقوم فرعون لا يعرفون أنها أخته, وأنها تتبع خبره، وحرمنا على موسى المراضع أن يرتضع منهن مِن قبل أن نردَّه إلى أمه, فقالت أخته: هل أدلكم على أهل بيت يحسنون تربيته وإرضاعه, وهم مشفقون عليه؟ فأجابوها إلى ذلك، فرددنا موسى إلى أمه; كي تقرَّ عينها به, ووفينا إليها بالوعد; إذ رجع إليها سليمًا مِن قتل فرعون, ولا تحزنَ على فراقه, ولتعلم أن وعد الله حق فيما وعدها مِن ردِّه إليها وجعله من المرسلين. إن الله لا يخلف وعده, ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن وعد الله حق.
وتمضى القصة ووتوالى الأحداث، ويلقى موسى ما لقيه من فرعون وقومه، وينتهي الأمر في نهاية المطاف بنجاة موسى وبنو إسرائل، وهلاك فرعون وقومه غرقا،
قال تعالى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{90} آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ{91} فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ{92}( يونس )، والمعنى : وقطَعْنا ببني إسرائيل البحر حتى جاوزوه, فأتبعهم فرعون وجنوده ظلمًا وعدوانًا, فسلكوا البحر وراءهم, حتى إذا أحاط بفرعون الغرق قال: آمنتُ أنه لا إله إلا الذي آمنتْ به بنو إسرائيل, وأنا من الموحدين المستسلمين بالانقياد والطاعة، آلآن يا فرعون, وقد نزل بك الموت تقرُّ لله بالعبودية, وقد عصيته قبل نزول عذابه بك, وكنت من المفسدين الصادين عن سبيله!! فلا تنفعك التوبة ساعة الاحتضار ومشاهدة الموت والعذاب، فاليوم نجعلك على مرتفع من الأرض ببدنك, ينظر إليك من كذَّب بهلاكك; لتكون لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك. فإن كثيرًا من الناس عن حججنا وأدلتنا لَغافلون, لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون.
وهكذا نجا موسى ومن معه، وهلك فرعون ومن معه،
والدرس الذي ينبغي أن يقف أمامه المؤمن ويتدبره يقول :
" أنظر إلى النهر كيف أنه لم يغرق موسى الرضيع وهو في قمة ضعفه، ولا حول له ولا قوة، لأن الله كان معه يرعاه ويحفظه ويحميه، بينما أغرق النهر الملك الجبار الطاغية فرعون وهو في قمة جبروته وقوته وعنفوانه، ووسط قواته وجنده !!!لأن الله لم يكن معه، وإنما كان الله عليه، فكان الهلاك المحتوم، يا سبحان الله !!"
نعم الدرس العظيم هنا أن من كان مع الله فلن يضره ضعفه مهما بلغ من الضعف وقلة الحيلة، ومن لم يكن مع الله فلن تنفعه قوته مهما بلغت،
فالإنسان ضعيف بطبعه نعم، هكذا قرر القرآن، وهكذا وصفه خالقه، {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً }( النساء : 28 )، والله تعالى هو القوي المتين، وهو القوي العزيز،
وإذا تحقق الانسان بضعفه، وآمن بالله تعالى حق الإيمان، والتزم الاستقامة، أمده الله تعالى بقوة من قوته،
والخلاصة لكل مؤمن : كن مع الله ولاتبالي، فإن من كان الله معه لم يخف شيئا، ومن كان الله عليه فمن يرجوه بعده،
وحتى تنال معية الله تعالى فلابد أن تكون من المؤمنين، قال تعالى : { ....وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ }( الأنفال : 19 )، أي بتأييده ونصره وتوفيقه،
وحتى تكون في معية الله فكن من الصابرين، قال تعالى : { .....إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } ( البقرة : 153، الأنفال : 46)، وقال تعالى : وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ( البقرة : 249، الأنفال : 66 )، أي : بعونه وتوفيقه وتسديده،
حتى تكون في معية الله فاجتهد أن تكون من أهل التقوى والإحسان، قال تعالى : {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }( النحل : 128 )، وقال تعالى : { وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ( العنكبوت : 69 )،
وتجدر الإشارة إلى أن معية الله تعالى لعباده على قسمين :
المعية العامة : المقتضية للعلم والاحاطة : وتعني أن الله تعالى معنا بعلمه أينما كنا قال تعالى : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ( الحديد :4 )، رقيب علينا، شهيد على أعمالنا أينما كنا في بر، أو بحر، أو جو، أو ليل، أو نهار، أو حضر، أو سفر، أو بيت، أو قفر، { ....يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ ...}( الأنعام :3 )، { ...يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } ( غافر :19 )، { سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } ( الرعد :10 )، هذه معية الله العامة.
المعية الخاصة : المقتضية للتأييد والتسديد والتوفيق والنصر : وهي تعني أن الله مع المؤمنين بنصره وتأييده، كما قال لموسى وهارون على نبينا وعليهما الصلاة والسلام : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } ( طه :46 )، وهو مع المتقين، ومع المحسنين، ومع الصابرين، فمن يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، قال بعض السلف لأخيه : "إن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو؟"، وهذه هي المعية التي يدافع الله بها عن المؤمنين، وهي المعية التي كان الله بها مع نبيه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه في الغار : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما،، { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ } ( التوبة :40 )، وهي معية النصرة والتأييد، مؤنسة مطمئنة، مذهبة للخوف، والوجل، والرعب،
وهذا يعني أن المعية العامة هي لكل إنسان للبر والفاجر، والمؤمن والكافر، أما المعية الخاصة فلا تكون إلا للمؤمن التقي الملتزم بمنهج الله تعالى، ومن هنا فإن البطولة الحقيقية للإنسان أن ينال معية الله الخاصة،
فاللهم كن لنا ولا تكن علينا، وعلى طاعتك أعنا، وعلى غيرك لا تكلنا،
وإلى لقاء آخر إنشاء الله،،،،،،،،،،،،،،،،،،
************
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: