د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3664
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعــد
يشغلني كثيرا في هذه الأيام ما وصلت إليه أحوال أمتنا العربية والإسلامية من أوضاع يعرفها ويعيشها الجميع، وعلى كثرة الأوصاف التي جادت بها قرائح الكتاب والعلماء والمثقفين والصحفيين الفيحاء، والتي يصفون بها واقع الأمة تحت عناوين شتى، إلا أنني دائما كنت أشعر أن هذا الواقع قد بلغ من المرارة حدا لا يمكن أن يستوعبه أو يعبر عنه هذا العنوان أو ذاك من تلك العناوين،
وتصادف يوما أن قرأت بيتا من الشعر لشاعر العرب " جرير " يقول فيه وهو يصف إحدى قبائل العرب وتدعى " تيم " :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم *** ولا يستأذنون وهم شهود
وقرأت لبعض الأدباء والنقاد القدامى أن هذا البيت هو أشعر بيت قالته العرب في الاحتقار، أو الاستحقار،
فجرير هنا يحتقر قبيلة " تيم " ولخص بمهارة شعرية فائقة النظير كل ما أراد أن يصم به تلك القبيلة في كلمات قليلة في مبناها لكنها غزيرة في معناها وفحواها ومدلولها،
فهو باختصار يصفها بأنها بلغت حدا من الذل والمهانة إلى الدرجة التي جعلت العرب والقبائل لا يأبهون بها وكأنها غير موجودة أصلا، فغيابها لا يمنع من البت في أخطر القضايا، واتخاذ أخطر القرارات المعنية بشؤونهم، تماما كما أن حضورها لا أثر له على الإطلاق في حسم تلك الأمور واتخاذ القرارات، وبكلمات موجزة فتلك القبيلة لا هي في العير ولا في النفير، حضورها كغيابها لا قيمة لها ولا وزن،
وأحسب أن هذا والله هو أصدق وصف ينطبق على ما تعيشه أمتنا اليوم، فهي بلغت من الضعف، والتخلف والتشرذم والذلة والمهانة حدا جعلتها في ذيل قائمة الأمم، وإن شئت الدقة فلا تستحيي أن تقول أخرجتها من القائمة ومن التاريخ معا،
وثمة بيت آخر قاله جرير في نفس القصيدة وعن نفس القبيلة التي يهجوها وهي قبيلة " تيم " فيقول :
فإنك لو رأيت عبيد تيم *** وتيماً قلت : أيهم العبيد؟
أي لا فرق في الذلة والمهانة بين كبار رجال القبيلة وقياداتها ورؤسائها، وبين عبيدهم حتى أنك تحتار كيف تفرق بين الفئتين !!!!!
إن أمتنا العربية - وإن شئت أن توسع الدائرة فتقول أمتنا الإسلامية فلا بأس وأنت محق - تعيش اليوم حالة من الذل والمهانة والتخلف والتراجع، أزعم أنها لـم تعش مثلها قط عبر تاريخها كله، فهي أمة مفككة الأجزاء، مقطعة الأوصال، وما كان لها إلا أن تنحدر إلى هذا الوضع المزري، فأصبح العرب والمسلمون اليوم خارج التاريخ تمامنا بعد أن كانوا هم صناع التاريخ قرونا متطاولة، وهو أمر لا يخفى على عاقل،
رأينا ما قاله شاعر العرب الشهير، وكيف أنه يكاد ينطبق على أوضاع أمتنا حذو القذة بالقذة، وفي النهاية هو قول بشر، تختلف حوله الآراء ووجهات النظر، ويخضع للمراجعة والنقد،
أما إذا جئنا إلى سيد البشر، وإمامهم، ورسول رب العالمين محمد ابن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين، الذي أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا، وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، والذي ليس هو بشاعر ولا كاهن، كما شهد له من أرسله، إذا جئنا إلى السنة النبوية المشرفة فإننا سنجد أنفسنا أمام حديث شريف يعتبر من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، حديث غفلنا عنه كثيرا يحمل نبوءة محمدية أطلقها سيد الخلق وحبيب الحق منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان، وأعلنها على أسماع الدنيا بأسرها، تنبأ فيها ونبأنا عما سيؤول إليه حال أمته، ووقعت النبوءة كما قال، وجاءت كفلق الصبح، ولا يملك المسلم حيال ما يرى بعدما يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يهتف من أعماق القلب : أشهد أنك رسول الله !!!
النبوءة النبوية بما آل إليه حال الأمة اليوم :
- إنه حديث يحذرنا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الغفلة والفرقة والإفراط والتفريــط الذي يوصلنـا إلى هذا الوضع الذي نعيشه هذه الأيام فقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه : " يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا " . فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُم يَوْمئِذٍ كثير وَلَكِن غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ» . قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ " ( رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ»، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح )،
والآن فلنعد البصر والسمع لهذا الحديث النبوي الشريف ولنتأمل هل نجد بينه وبين واقعنا المرير أي فرق ؟
فهو يحذرنا من تداعي الأمم وتكالبها على أمة الاسلام ومقدراته، وقد تداعت بقضها وقضيضها، وعدتها وعتادها، وجميع أسلحتها، وجمعت صفوفها وتحالفت كما لم تتحالف من قبل على أحد، بل وانضم إلى التحالفات من هم منا ومن أبناء جلدتنا، ولا تزال تتداعي، ومن آخر ما حدث من تداعي ما نراه اليوم في بلاد الشام !!!بعد أن تداعت الأمم على أفغانستان، وعلى العراق، و ما حدث ويحدث في فلسطين .....وهلمجرا،
حدث هذا ويحدث والأمة كالقصعة بين يدي الأكلة الذين بلغ منهم الجوع والمخمصة مبلغه،
حدث هذا والمسلمون يقترب عددهم من ثلث سكان المعمورة، فليس الأمر إذا من قله في عدد المسلمين، فهم بالضبط كما قال النبي الكريم كثير، ولكنهم غثاء كغثاء السيل الذي لا وزن له ولا قيمة تذكر، {....فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ...}( الرعد : 17 )،
حدث هذا والأمة قد انفرط عقدها، وتفرقت شيعا وأحزابا، يكاد يصدق عليهم قول الحق جل جلاله : {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }( المؤمنون : 53 )،
حدث هذا ونحن نرى ونلمس كيف أن الله تعالى نزع من صدور أعدائنا المهابة منا، بتفريطنا، وغفلتنا،
ونحن نرى كيف أن الله تعالى ألقى في قلوبنا الوهن الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحب الدنيا وكراهية الموت،
فمتى وكيف يتغير الحال، والسنة الإلهية الثابتة تقول : { ....إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }( الرعد : 11 )،
متى وكيف تتمرد الأمة على هذا الواقع المرير، متى تتخطى الامة حال القصعة، والغثائية، والوهن،
لقد رسم لنا قائدنا وقدوتنا معالم الطريق القويم فقال صلى الله عليه وسلم : «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض " ( صححه الألباني في صحيح الجامع )،
هذا وبالله التوفيق ..........................
--------
أ.د/ أحمد بشير – جامعة حلوان، القاهرة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: