أ. د/ أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10047
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
{ ....إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ...} ( سورة الرعد : 11 )
**********
" إن السلوك الإنساني في حقيقته قصد وحركة ،
والقصد يتجسد في الفكر والإرادة ،
والحركة تتحدد في الممارسات العملية ،
وهذه المكونات السلوكية تنتظم في حلقات ثلاث يولد بعضها بعضا ، فتبدأ الحلقة الأولى في ميدان الفكر ، ثم تليها الحلقة الثانية في ميدان الإرادة ، إلى أن تنتهي الحلقة الثالثة في الممارسات العملية خارج الجسد البشري "
( ماجد عرسان الكيلاني )
من كتاب " هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس "
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير سيدنا محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،
أما بعـــد
نود أن نشير بداية إلى أنه وعلى الرغم من مرور ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمان على البداية الجادة للحركة العلمية المنظمة صوب التوجيه الإسلامي للعلوم الاجتماعية في عالمنا العربي والإسلامي ، تلك الحركة التي تعني في مفهومها العام والبسيط ( دون الدخول في متاهة الاختلاف حول التسميات والمصطلحات ) المحاولة العلمية الجادة لإعادة صياغة منظومة تلك العلوم - وما يرتبط بها ويدور في فلكها من مهن المساعدة الإنسانية – في ضوء المذهبية الإسلامية ، ( أو التصور الإسلامي ، أو المنظور الإسلامي أيا كان المصطلح المستخدم ، فلا مشاحة في الاصطلاح ) وما تستند إليه من تصور متميز وفريد لمكونات الوجود ( الإنسان ، والحياة ، والمجتمع ، والكون ) باعتبار أن تلك المكونات تشكل في ارتباطها الوثيق ، وتفاعلها المستمر ، وتكاملها المنشود ، جوهر موضوع ومادة تلك العلوم والمهن ، أقول على الرغم من مرور تلك الفترة الزمنية منذ بداية تلك الحركة ، إلا أن المتابعة الدقيقة والمتأنية لأطروحات تلك الحركة وأدبياتها ، وما أسفرت عنه حتى الآن من نتائج وثمرات ، توضح أن ما تم إنجازه في هذا الإطار يمكن وصفه على سبيل الإجمال – ودنما قدر كبير من التجاوز – بأنه بمثابة " إعلان نوايا " ، أو بتعبير متكافيء فإنه يمثل تعبيرا حقيقيا عن رغبة صادقة ، وأمل طموح في إنجاز عمل كبير وهام كيما يتحقق بالفعل ، ويصبح حقيقة واقعة ، وهذا بلا شك يعد أمرا مقبولا على أي حال – في نظر الباحث – على أننا لابد أن نستدرك فنقول أن هذا لا يقلل بحال من قيمة ما تم تقديمه وإنجازه في هذا الصدد ، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن تلك الجهود والإسهامات – على تنوعها وتباينها – لا زالت في طفولتها الباكرة ، ويعتريها ما يعتري البدايات الأولى في أي جهد بشري من النقص والقصور ، فنحن في هذا الاتجاه ما زلنا بعد في مرحلة مخاض عسير ،
وهذا لا يمنعنا من القول أن الحركة – بفضل الله تعالى - مستمرة ، والمحاولات تترى ، والحركة تكسب كل يوم أرضا جديدة تلبية لحاجة أضحت ماسة وملحة ، وينضم إليها أعضاء جدد من الباحثين والمتخصصين في العلوم الاجتماعية على تنوعها ، ولذلك فما زالت الجهود متتابعة في العديد من فروع تلك العلوم في محاولات دائبة للوصول إلى الغاية المنشودة ، سواء في مجال علم النفس وفروعه ، أو علم الاجتماع وميادينه ، أو علوم السياسة ، والاقتصاد ، والأنثروبولوجيا ، والتاريخ ، والتربية ، وغيرها ،
هذا عن حركة أسلمة العلوم الاجتماعية بوجه عام ، وإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن جهود التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية كمهنة إنسانية – باعتبارها تخصص الكاتب – سنجد أن البدايات الأولى للجهود والإسهامات الجادة في هذا المجال كانت في أوائل التسعينيات من القرن الماضي حيث عقدت الندوة الأولى في هذا الصدد بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي بالقاهرة تحت عنوان : " التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية " في الفترة من : 10-13 أغسطس عام 1991م ، ثم أعقبها العديد من المؤتمرات واللقاءات كان من أبرزها :
- المؤتمر العلمي الثاني للتأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية جامعة الأزهر ، مركز الشيخ صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، في الفترة من : ( 7 -10 ) أغسطس / 1993م ، بمقر مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي – جامعة الأزهر – مدينة نصر القاهرة ،
- المؤتمر العلمي الثالث للتوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية ، المعهد العالي للخدمة الاجتماعية بالإسكندرية بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، خلال الفترة من : ( 5-7 ) أغسطس /1995م ، بمقر المعهد بالإسكندرية ،
- المؤتمر العلمي الرابع للتوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية بالمعهد العالي للخدمة الاجتماعية بكفر الشيخ ، خلال الفترة من ( 18-19 ) أغسطس / 1997م ، بكفر الشيخ ،
- المؤتمر العلمي الخامس للتوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية بالمعهد العالي للخدمة الاجتماعية بسوهاج ، خلال الفترة من ( 4- 6 ) يوليو/2000م ،
وغير ذلك من اللقاءات وورش العمل التي أقيمت لذات الغرض في مصر والعديد من الدول العربية ،
ولقد أسفرت تلك الجهود عن العديد من الأفكار والإسهامات العلمية فيما يتعلق بالتوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية سعيا نحو تفعيل مهنة الخدمة الاجتماعية في واقعنا العربي والإسلامي على وجه الخصوص ، وتجدر الإشارة هنا إلى إسهامات الأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الرحمن رجب المتميزة والتي تعتبر بحق إسهامات رائدة في هذا الصدد ، وكذلك نشير إلى رسالة الدكتوراة التي قدمتها عفاف إبراهيم الدباغ حول المنظور الإسلامي في الخدمة الاجتماعية بكلية البنات بالرياض ، المملكة العربية السعودية ،
ولقد كان للكاتب – بفضل الله وتوفيقه - شرف مواكبة تلك الجهود والمشاركة فيها منذ المؤتمر الأول ، وإلى اليوم ،
ولقد طلب مني بعض الإخوة الفضلاء أن أجمع بعض تلك المساهمات المتناثرة في كتاب ، يمكن أن يكون متاحا للقراء والدارسين والمهتمين بالخدمة الاجتماعية أكاديميا وممارسة ، فوعدتهم بذلك ،
وها أنذا أفي بالوعد ، وأقدم للقارئ هذا الكتاب الذي يجمع بين دفتيه بعضا مما أسهمت به أفكار ورؤى حول هذا الإتجاه الوليد على مدى سنوات ممتدة ، لعله يجد فيه ما قدرا من النفع مهما كان ضئيلا ، وعسى ألا يبخل القارئ على كاتبه بما يعن له من ملاحظات أو آراء ، فالكمال يأبى إلا أن يكون لله وحده ،
وأسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في هذا العمل وأن يجعله خالصا لوجهه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ،
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير
والحمد لله رب العالمين
أحمد يوسف بشير
القاهرة ، مدينة الشروق 2014م
بين يدي هذا الكتاب
بداية تجدر الإشارة إلى ملحوظة هامة مؤداها : أننا لا يمكننا الحديث عن الخدمة الاجتماعية في المنظور الإسلامي ( تنظيرا وتطبيقا وممارسة ) دون أن نلم بداية بماهية وطبيعة مهنة الخدمة الاجتماعية التقليدية Traditional Social Work ( نشأة وتطورا ووظيفة وأهدافا ونظرية وممارسة ) ، لذا يتوجب على الدارس ( أو القارئ ) قبل أن يحاول التعرف على ماهية وأبعاد الرؤية الإسلامية للخدمة الاجتماعية ، أن يتأكد أنه على دراية كاملة بكل ما أسلفنا ذكره ، أي بالاتجاه التقليدي للخدمة الاجتماعية وما يقوم عليه من افتراضات ومسلمات ،
ولذلك فمن الملائم أن نقدم فيما يلي تذكيرا للدارسين ببعض الخطوط العريضة حول مهنة الخدمة الاجتماعية التقليدية ، كما هي سائدة اليوم سواء في المجتمعات المتقدمة أو المجتمعات النامية ، وعلى المهتم بما نحن بصدده أن يوطن نفسه على كثرة القراءة والاطلاع حول ما سنورده هنا فهي مجرد إشارات ورؤوس أقلام آثرنا إيرادها باختصار شديد ، بحيث تكون محفزة للباحث أو الدارس على مزيد من الجد والاجتهاد في القراءة المتعمقة ، والفهم المستنير لكل عنوان من تلك العناوين التي سنوردها ،
- ماهية وطبيعة الخدمة الاجتماعية :
يعرف كل من له صلة بالخدمة الاجتماعية أن من الصعوبة بمكان التوصل إلى تعريف محدد ومتفق عليه للخدمة الاجتماعية ، وذلك لعوامل عدة ليس هنا مجال ذكرها ، ولذلك ما من كتاب أو مؤلف عن الخدمة الاجتماعية إلا ويذخر بالعديد من التعريفات والرؤى التي قدمها الكتاب والمؤلفون على مدى تاريخ المهنة ومنذ بداية نشأتها ، ولذا فلن نتعرض هنا إلى إشكالية التعريفات ، ولن نغرق أنفسنا في عرض تلك الرؤى والاتجاهات المتباينة حول تحديد مفهوم الخدمة الاجتماعية ، ونكتفي بالإشارة إلى مجموعة من النقاط التي تساعد الدارس على أن يكون ملما - مبدئيا – بماهية المهنة وطبيعتها ، فنقول وبالله التوفيق :
- الخدمة الاجتماعية في أساسها وجوهرها اختراع مجتمعي Societal Innovation نشأت لتلبية حاجات ملحة لدى الإنسان والمجتمع ( فالحاجة كما هو معلوم أم الاختراع ) ، ومطالب أساسية ، وتحقيق أهداف محددة أوكل إليها المجتمع الحديث مهمة تحقيقها ،
- وهي مهنة غربية النشأة والتكوين والنمو والتطور ، وهو الأمر الذي ترتب عليه :
* أنها نشأت وتكونت متأثرة في ذلك – وإلى حد بعيد - بالسياق التاريخي والحضاري للبيئة ، والوسط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي نشأت فيه ، وتأسست في إطاره ،
* أنها نشأت ونمت ( تنظيما وممارسة ) متأثرة بالتصور الغربي للوجود ومكوناته ، وهو تصور مادي علماني بالأساس ، لا يقيم وزنا سوى للمادة والماديات فقط كما هو معلوم ،
* أنها انتقلت من الغرب إلى العديد من الدول والمجتمعات النامية ومن بينها المجتمعات العربية والإسلامية ، ضمن عمليات الانتشار الثقافي " ، Cultural Diffusion (1) ، حيث نقلت نقلا حرفيا بقضها وقضيضها بناءا على افتراض ضمني مؤداه : أن الممارسة المهنية ذات طبيعة عالمية Universal ، ويمكن تطبيقها بنجاح دون أدنى تعديل في أي مكان في العالم (2) ،
- أنها تستند إلى مقومات العمل المهني المتمثلة في :
* الأساس المعرفي ، المتمثل في القاعدة المعرفية العلمية المستمدة من روافد ثلاث : حقائق ونظريات العلوم الأخرى ، ونتائج البحوث المتخصصة في الخدمة الاجتماعية ، والمباديء والتوجهات المستمدة من حكمة الممارسة ،
* والأساس المهاري ، والمتمثل في مجموعة من المهارات اللازمة للعمل المهني ، وهو ما يسميه البعض : " تكنولوجية الخدمة الاجتماعية ،
* والأساس القيمي ، والمتمثل في مجموعة من القيم والأخلاقيات التي توجه العمل المهني وتحكم مساره ،
* هذا فضلا عن الأهداف المحددة ، والتصديق المجتمعي ،
- أنها مهنة إنسانية في المقام الأول ، تتوخى العمل مع الإنسان في كافة صور تواجده في الحياة ( فردا كان ، أو عضوا في جماعة ، أو مواطنا في مجتمع محلي أو قومي ) ،
- أن محور عمل المهنة يتمثل في ثنائية ( الإنسان في بيئة ) ، فهي توجه تدخلها للإنسان ، وللوسط الذي يعيش فيه في الوقت ذاته ،
- يمارسها متخصصون مهنيون : أعدوا خصيصا لهذا الغرض إعدادا مهنيا ملائما ( نظريا وعمليا ) بما يجعلهم قادرين على ممارسة العمل المهني بالكفاءة المطلوبة ،
- أنها مهنة تطبيقية بالأساس : تقوم على التدخل المهني في المواقف المختلفة ، والقيام بمهام عملية تطبيقية لتحقيق أهداف محددة سلفا ، وعلى أساس اعتماد المنهج العلمي في التفكير والممارسة ،
- أنها مهنة مؤسسية : بمعنى أنها تمارس في إطار مؤسسي تنظيمي توجهه فلسفة محددة ، ومحكوم بلوائح ونظم تحدد اتجاهات العمل وطريقته ، والفئات المستفيدة ، والقيم والأخلاقيات الحاكمة ،
- أنها مهنة تتسم بالمرونة الفائقة : بحيث يمكنها :
* العمل في مجالات متعددة تغطي مختلف جوانب الحياة الإنسانية ،
* وقادرة على التطور والتغير لمواكبة التغيرات والتحولات التي تطرأ على الإنسان والمجتمع ،
- أنها تسعى إلى تحقيق أهداف محددة : حيث :
* يتمثل هدفها العام في العمل على تحسين نوعية حياة الإنسان بوجه عام وبكافة جوانبها وأبعادها ،
* وهي تسعى لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي العام من خلال مجموعة من الأغراض التكتيكية ( الفرعية ) المتمثلة أساسا في : مساعدة الإنسان على إشباع احتياجاته الإنسانية بالشكل الذي يليق بكرامة الإنسان ، ( الحاجات المادية والاجتماعية والنفسية ) ، ومواجهة مشكلاته وصعوبات الحياة التي يتعرض لها هو أو بيئته التي يعيش فيها ، ( المشكلات الفردية والمشكلات الاجتماعية ) ، وتنمية طاقاته وقدراته وإمكاناته ( البدنية ، والعقلية ، والنفسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ) ، بالشكل الذي يكفل له الحياة المستقرة التي يتطلع إليها ،
- أن المفهوم المحوري الذي يشكل نقطة الارتكاز في الخدمة الاجتماعية هو " الأداء الاجتماعي " Social Functioning ، والذي يعني قدرة الإنسان على أداء أدواره ووظائفه الاجتماعية على الوجه المطلوب ، وبكفاءة عالية ،
- أنها تعتمد في ممارستها على " العمل ألفريقي " : Team Work فنظرا لطبيعة الإنسان والمجتمع والحياة ، وتعدد جوانب كل منها وما تتسم به من تعقيد ، فلابد من العمل من خلال فريق عمل متخصص في شتى تلك الجوانب والأبعاد ، ومن هنا تأتي الصلة الوثيقة بين الخدمة الاجتماعية والعديد من المهن والتخصصات الأخرى كالطبيب ، والطبيب النفسي ، وأخصائي التربية ، والمتخصصين في علم النفس ، والتغذية ، والقانون ، والعلوم الدينية .....وغيرهم ،
الخدمة الاجتماعية في المنظور الإسلامي :
ثمة مجموعة من التساؤلات التي يمكن أن تثار لدى الدارسين عند مطالعتهم لهذا العنوان ، وذلك من نوعية :
- ما المقصود بالمنظور الإسلامي ؟
- ولماذا المنظور الإسلامي تحديدا ؟
- وما البواعث والمبررات التي تدفعنا إلى التفكير في هذه القضية الآن ؟
- وهل هناك ثمة فروق جوهرية بين الخدمة الاجتماعية كما نعرفها ( التقليدية ) ، والخدمة الاجتماعية من المنظور الإسلامي ؟
- ما الذي يمكن أن يضيفه التصور الإسلامي إلى الخدمة الاجتماعية بوضعها الحالي ؟
ويهمنا بادئ ذي بدء أن نحاول تقديم إجابات مختصرة ( تلغرافية ) حول تلك التساؤلات - دون الدخول في التفاصيل التي يمكن للدارس أن يطلع عليها ويستوفيها من مصادرها ومظانها - قبل الولوج في تفاصيل الموضوع الذي نحن بصدده ،
- أما عن المقصود بالمنظور الإسلامي ، فنود الإشارة بإيجاز إلى أن " المنظور الإسلامي " يقصد به هنا رؤية الإسلام وتصوره الكلي للوجود ومكوناته ( الإنسان ، والمجتمع ، والحياة ، والكون ) ، باعتبار أن تلك المكونات وثيقة الصلة بنشأة مهنة الخدمة الاجتماعية وطبيعة عملها والأهداف التي نشأت من أجل تحقيقها :
* فالإنسان : هو محور اهتمام وعمل الخدمة الاجتماعية ، فهي كمهنة – وكما هو معلوم – تستهدف مساعدة " الإنسان " كفرد ، أو كعضو في جماعة أو مجتمع ، على مواجهة مشكلاته ، ولإشباع احتياجاته ، مع تنمية قدراته إلى أقصى حد ممكن ،
* والمجتمع : ملازم للإنسان ، فكلاهما لا وجود له إلا بوجود الأخر ، فالإنسان أساس المجتمع ونواته ، والمجتمع حتمي وضروري للإنسان ، حيث أنه اجتماعي بطبعه كما هو مقرر ومعروف ، بمعنى أنه لا يستطيع أن يعيش بمفرده وبمعزل عن الآخرين ،
* والحياة : وطبيعتها وكيفية تصورها تلعب دورا هاما ومحوريا في وضعية الإنسان والمجتمع على السواء ،
* والكون : يشكل البيئة التي تقوم فيها الحياة ، ويعيش فيها الإنسان والمجتمع ، ويستمد منها مقومات الوجود والاستمرار ،
- والمنظور الإسلامي لتلك المكونات إنما يقوم على / ومستمد من المصادر الرئيسة للإسلام القرآن والسنة النبوية الصحيحة ، بالإضافة إلى إسهامات العلماء المسلمين – عبر التاريخ الإسلامي - الفكرية والعلمية من الإسهامات التي نشأت وتكونت في رحاب القرآن والسنة وعلى أساسهما ،
- أما لماذا المنظور الإسلامي تحديدا ؟ فإن الإجابة تتمثل فيما أظهرته العديد من الكتابات والدراسات التي تدور حول وضعية مهنة الخدمة الاجتماعية في عالمنا المعاصر ، حيث أوضحت تلك الكتابات حقيقتين بينهما صلة وثيقة وارتباط عضوي:
* أما الحقيقة الأولى : فتتجلى في عدم فعالية ممارسة الخدمة الاجتماعية في تحقيق الأهداف التي أوكلها المجتمع مهمة تحقيقها ، والآمال المعقودة عليها ، سواء كان ذلك في المجتمعات العربية والإسلامية ، أو في المجتمعات النامية بوجه عام ، أو حتى في المجتمعات الغربية المتقدمة ،
* بينما تتجلى الحقيقة الثانية في أن عدم الفعالية هذا إنما يرجع – في المقام الأول - إلى إغفال المهنة للجوانب الروحية المتعلقة بصلة الإنسان بالله عز وجل خالقه ومليكه ، سواء كان ذلك في النظرية أو في التطبيق ، حيث جاء ذلك نتيجة عملية " علمنة " المهنة في الدول التي تقدمت فيها ، وفصلها الدين والجوانب الروحية للإنسان عن العلم وعن الممارسة المهنية ، حيث اعتمدت الخدمة الاجتماعية في أساسها المعرفي على العلوم الاجتماعية التي أخذت بالمنهج العلمي التقليدي الذي لا يعترف سوى بالتجريب والحواس والعقل كمصادر وحيدة للمعرفة ، ولفهم الإنسان والظواهر الاجتماعية ، وتفسير السلوك الإنساني ، وتفسير المشكلات الفردية منها والاجتماعية ،
ولقد انتهت ( عفاف الدباغ ) في رسالتها للدكتوراة (3) إلى أن تحقيق أي تقدم في العلوم الاجتماعية ، ومهن المساعدة الإنسانية مرهون بإعادة النظر في المنهج العلمي التقليدي ، وتصحيح اتجاهه بحيث يعتمد على الوحي كمصدر يفيني للمعرفة بالإضافة إلى اعتماده الحواس والعقل ،
- ولكن لماذا المنظور الإسلامي تحديدا ؟
إننا عندما نتحدث عن " الوحي " كمصدر آخر للمعرفة حول الإنسان ، والمجتمع ، والحياة ، والكون ، فإننا نتحدث عن الإسلام باعتباره الدين الخاتم للأديان ، الذي بعث به الرسول الخاتم للرسل والأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، ونزل عليه الكتاب الخاتم " القرآن الكريم " باعتباره مصدقا لما بين يديه من الكتب السماوية ومهيمنا عليها ، قال تعالى : {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } ( البقرة : 97 ) ، أي : مصدِّقًا لما سبقه من كتب الله, وهاديًا إلى الحق, ومبشرًا للمصدِّقين به بكل خير في الدنيا والآخرة ، وقال تعالى أيضا : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً .....} ( المائدة : 48 ) ، والمعنى : وأنزلنا إليك - أيها الرسول - القرآن, وكل ما فيه حقّ يشهد على صدق الكتب قبله, وأنها من عند الله , مصدقًا لما فيها من صحة ، ومبيِّنًا لما فيها من تحريف ، ناسخًا لبعض شرائعها (4) ،
ومن هنا كان للتأكيد على المنظور الإسلامي ما يبرره ، فلا مناص من اعتماده ما دمنا قد سلمنا بأهمية وضرورة الرجوع إلى الوحي الإلهي كمصدر للمعرفة حول مكونات الوجود ، إضافة إلى المصدر الحالي والمتمثل في الحواس والعقل ،
- وفيما يتعلق ببواعث التفكير في قضية التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية في عصرنا الحاضر بالذات ، فبالإضافة إلى كل ما سبق ، فلقد لخص ( رجب ) تلك البواعث ، في مجموعة من الوقائع والأحداث التي كانت وراء التوجه صوب التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية مهن المساعدة الإنسانية بعامة ، والخدمة الاجتماعية – موضوع النقاش – بوجه خاص ، تلك الوقائع التي يمكن لنا أن نوجزها فيما يلي : (5)
1- الثورة التي تحققت في محيط علم الفيزياء الحديثة في النصف الأول من القرن العشرين فيما يتعلق بفهم طبيعة الذرة ، وما دونها من جسيمات في إطار نظرية النسبية ونظرية الكم ، ومبدأ عدم التيقن على أيدي أينشتاين ، وهيزنبرج ، وبور ، وغيرهم ، تلك التطورات التي أدت إلى انهيار النظرة " المادية " الميكانيكية القديمة التي ترى الكون نسقا ميكانيكيا مكونا " من ذرات مادية صلبة " ، مما فتح الباب على مصراعيه أمام التوافق التام مع الأهداف الروحية والمعتقدات الدينية ،
2- ذلك التقدم الكبير الذي تحقق من جهة أخرى في علوم الأعصاب ، وذلك فيما يتعلق بفهم طبيعة المخ والجهاز العصبي وعلاقتهما بالسلوك الإنساني ، حيث كانت كل الوظائف العقلية ووظائف المخ تفسر في الماضي بتفسيرات مادية بحتة ، على أساس أنها محكومة بنشاط الخلايا العصبية ، وأن هذا النشاط بدوره تحكمه قوانين الطبيعة والكيمياء الحيوية ، ويترتب على هذا أن سلوك الإنسان محكوم بالتفاعلات الطبيعية التي تحدث داخل مكونات الذرات التي يتكون منها المخ ، إلى أن جاء التوجه " المعرفي – العقلي " ليكشف عن أن الإنسان كوحدة حية ذات مستوى وجودي أرقى من مجرد مستوى الذرات والخلايا ، مما أدى في نهاية المطاف إلى تقبل الحقائق العقلية والروحية كحقائق سببية فاعلة ،
3- ترتب على تلك الاكتشافات المشار إليها في مجال علم الفيزياء الحديثة ، وفي مجال العلوم البيولوجية وخصوصا علم الأعصاب ، أن بدأت ثورة علمية موازية في عالم المنهج تطالب بإعادة النظر في مسلمات المنهج العلمي التقليدي ، وفتح الباب أمام ألوان أخرى من الاستبصار مصدرها الوحي الصحيح ،
4- زوال الانبهار بالتقدم المادي والتكنولوجي المعاصر بعد انكشاف الآثار المدمرة على البيئة والإنسان التي نجمت عنه مباشرة من جهة ، وتلك التي نجمت – من جهة أخرى – عن انسياق المجتمعات المعاصرة وراء قيم الحضارة الغربية الموجهة لتلك التطبيقات التكنولوجية ، مما قوى حجة من ينظرون للإنسان على أنه مستخلف في الأرض التي سخرت لأجله ، وأنه مسؤول عن رعايتها والمحافظة عليها وحمايتها ، بل وإعمارها ،
- وأما عن الفروق الجوهرية بين الخدمة الاجتماعية كما نعرفها ( التقليدية ) ، والخدمة الاجتماعية من المنظور الإسلامي ، فلقد أكدت دراسة ( عفاف الدباغ ) أن نظريات ممارسة الخدمة الاجتماعية في المنظور الإسلامي لابد أن تقوم على دعامتين (6):
الأولى : أساس معرفي يأخذ بنظريات اجتماعية ونفسية مؤصلة إسلاميا لتفسير السلوك الإنساني ، والظواهر الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي ، وتفسير المشكلات الفردية والاجتماعية ،
الثانية : قيم عامة مطلقة تقوم على دعامة أساسية من توحيد الله عز وجل ، وقيم أدائية أو مبادئ مهنية تقوم على فهم صحيح للطبيعة الإنسانية ، وطبيعة التنظيم الاجتماعي ،
ولقد تبين لنا من مما سبق بعض الإشارات الضمنية لبعض تلك الفروق وأوجه الاختلاف ، ونبرز أهمها فيما يلي بشيء من التركيز والإيجاز : (7) ،
أ - أن الخدمة الاجتماعية التقليدية وهي تستند إلى قاعدة معرفية مستمدة من في الأساس من نظريات العلوم الاجتماعية والسلوكية ، فإنها تقوم على تصور مادي مختزل للطبيعة الإنسانية ، يقتصر على الجوانب البيولوجية ، والنفسية والعقلية ، والاجتماعية ، وتستبعد الجانب الروحي كمكون هام من مكونات الإنسان ، وكمؤثر فعال على السلوك الإنساني ، بينما يمدنا التصور الإسلامي بمفهوم شامل ومتكامل للطبيعة الإنسانية ، ومكونات الإنسان ، وعلى رأسها البعد الروحي الغائب في الممارسات التقليدية ، والذي – ولا شك – له آثاره الهامة على حياة الإنسان وسلوكه وتصرفاته ، ويتمثل " البعد الروحي " في صلة الإنسان بربه وخالقه ، وموطنها " القلب " ، ولذلك جاء في الحديث الصحيح : ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " ، ( رواه البخاري ومسلم والترمذي ، وصححه الألباني ) ،
ب - أنها – وتأسيسا على النقطة السابقة – تنحو نحوا ماديا متطرفا في نظرتها للحاجات الإنسانية ، حيث يتم اختزال تلك الحاجات في الحاجات المادية والنفسية والاجتماعية ، في حين أن النظرة في التصور الإسلامي للحاجات الإنسانية تقوم على أساس أن هناك حاجة أولية مهيمنة على جميع الحاجات – لكونها ضامنة لإشباعها جميعا – ألا وهي " الإفتقار إلى الله عز وجل " ، والمتضمنة في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }فاطر15 ) ،
ج – أن المفهوم المحوري الذي تدور حوله الممارسة التقليدية هو مفهوم " الأداء الاجتماعي " Social Functioning للأفراد والأسر والجماعات والمجتمعات ، والذي يعني قدرة تلك الوحدات على أداء وظائفها الاجتماعية بكفاءة واقتدار ، وهو بهذا المعنى ينصب على العلاقات والتفاعلات المستمرة بين هذه الوحدات بعضها والبعض الآخر ، وبين كل وحدة منها وبين الوسط أو البيئة المحيطة بها ، وهو ما يعبر عن الثنائية التقليدية للخدمة الاجتماعية منذ نشأتها والمتمثلة في ( الإنسان – الشخص – في بيئة ) ، والعلاقة بينهما ، والسؤال الذي يفرض نفسه ألا توجد علاقات أخرى خارج نطاق هذه الثنائية ، يكون الإنسان طرفا فيها ، وتستوجب من المهنة وضعها في الاعتبار ، هنا تأتي الإجابة المنطلقة من التصور الإسلامي للوجود لتقول نعم ، بل إن العلاقة الغائبة في التصور التقليدي هي في المنظور الإسلامي العلاقة المحورية التي تدور في فلكها كافة العلاقات الأخرى ، وهي العلاقة بعالم الغيب ( بالله الخالق سبحانه وهو غيب ، وبالملائكة وهم من الغيب ، وبالجن وهو من عالم الغيب ، وبالدار اللآخرة وهي من الغيب أيضا ) ، ذلك الإنسان في التصور الإسلامي هو طرف أصيل في منظومة من العلاقات التي تتضمن :
- علاقة الإنسان وصلته بربه وخالقه ، وتقوم على : المعرفة بالله تعالى وأسمائه الحسنى ، وصفاته العلا – والإيمان به وتوحيده – العبادة بمفهومها الشامل – الطاعة والالتزام بالمنهج الإلهي – المراقبة ، الخوف والرجاء والمحبة والتوكل والاستعانة والاستمداد منه – الثقة – الاستقامة ، والإخلاص ، والتقوى ، والتوبة والإنابة ، والدعاء ، والخضوع ، والذلة ، .... إلى غير ذلك ، وكذلك الإيمان بالرسل والأنبياء ، واتباع خاتم المرسلين ، ومحبته وطاعته ، واتخاذه قدوة طيبة وأسوة حسنة ،
- علاقة الإنسان بنفسه وذاته ، وهي تقوم على : الإدراك لحقيقة نفسه ومعرفتها وفهمها ( الوعي بالذات ) ، المحاسبة ، الرياضة والتزكية ، ، والمجاهدة ، كبح جماح الشهوات ، واتقاء الشبهات ، ونهيها عن الهوى ، ..الخ ،
- علاقة الإنسان بالآخرين من بني جنسه ، وتقوم على التعارف ، العدل والإنصاف ، والرحمة ، والإحسان ، وكف الأذى ، وغيرها ،
- علاقة الإنسان بالكون الذي يعيش فيه ومكوناته الحية وغير الحية ( الجمادات ، والنباتات ، والحيوانات ) ، وهي قائمة العلم والمعرفة لحقائق الكون ومكوناته واكتشاف القوانين والسنن التي تحكم الكون والظواهر الطبيعة ، والعمل على إعمال تلك القونين والسنن في تسخير مكونات الكون لما هو نافع ومفيد للإنسان على المدى القريب والبعيد معا ، والاستثمار والإصلاح والإعمار ، ومنع الفساد ، وحماية البيئة والحفاظ عليها ورعاية مكوناتها الحية وغير الحية ، والتصرف في كل ذلك بمسؤلية وفق منهج الله تعالى ،
- علاقة الإنسان بالحياة الدنيا ، إدراك حقيقة الدنيا وماهيتها ، والمعرفة الكاملة بطبيعتها ، وأن متاعها قليل ، وخطرها عظيم ، وأنها دار اختبار وابتلاء ، وتعب ومعاناة ومكابدة ، وأنها دار ممر ، والحذر من الاغترار والانخداع بزخرفها ومتاعها ومباهجها ، والتزود منها للدار الآخرة ،
- علاقة الإنسان بعالم الملائكة وعالم الجن ، وهي تقوم على الإيمان بوجود الملائكة والجن ، ومعرفة عداوة الشيطان لني آدم ، وتوطين النفس على اتخاذه عدوا ، ومعرفة ألاعيبه وحيله ، ومداخله التي يدخل بها على الإنسان ليغويه ، والتحصن منه بالأذكار والاستعاذة ،
- علاقة الإنسان بالدار الآخرة ، وتقوم على الإيمان باليوم الآخر ، والاستعداد للموت ، والإيمان بعذاب القبر ونعيمه ، والإيمان بالبعث والنشور والصراط والميزان والحساب والجزاء ، والجنة والنار ، وأن الإنسان مسؤول وحده عما يأتي وما يدع في الحياة الدنيا ،
وتجدر الإشارة إلى أن تلك العلاقات بينها ارتباط وثيق ، ولا تنفصل إحداها عن الأخرى ، وإن كانت تحكمها وتهيمن عليها جميعا علاقة الإنسان ونوعية صلته بربه وخالقه ومولاه جل جلاله ،
وإذا كان الأمر كما رأينا فإن اختزال تلك المنظومة في العلاقة بين الإنسان والبيئة ، هو في حقيقته اختزال للطبيعة الإنسانية ، ومن هنا فإن المفهوم المحوري للخدمة الاجتماعية لن يقتصر على " الأداء الاجتماعي " ، وإنما سيكون المفهوم المحوري طبقا للمنظور الإسلامي هو – كما تقترح عفاف الدباغ – " الأداء الكلي " Total Functioning أي أداء الإنسان لكافة الأدوار والوظائف والتكليفات التي تمليها عليه منظومة العلاقات الشاملة والمترابطة كما رأينا ها في التصور الإسلامي ، ووفقا لمنهج الإسلام وشريعته التي تحكم كل تلك العلاقات ،
د – أن الهدف النهائي ، والغاية الكبرى التي تسعي إليها الخدمة الاجتماعية في عملها مع الإنسان بكافة صور تواجه في الحياة ( كفرد ، وكعضو في جماعة أو مجتمع ) يتمثل في تيسير العلاقات الاجتماعية المرضية وتحسين نوعية الحياة من خلال العمل الموجه نحو الإنسان والبيئة ، أي أن هذا الهدف يقتصر على الحياة الدنيا فقط ، بينما يصبح الهدف النهائي للخدمة الاجتماعية في المنظور الإسلامي هو تهيئة الظروف المواتية ، والمناخ الملائم لتحقيق الغاية من الوجود الإنساني في الحياة والمتمثلة في تحقيق العبودية المطلقة والكاملة لله عز وجل ، وأداء كافة الوظائف والمهام التي تميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات والتي تتمثل في : النهوض بأعباء الاستخلاف ، وعمارة الأرض ، وأداء الأمانة ( التكليفات ) ، واجتياز مواقف الابتلاء والأزمات وفقا لمقتضيات المنهج الإلهي ،
وبتعبير متكافئ تصبح الممارسة المهنية في منظور الإسلام تقوم على محورين :
الأول : مساعدة الناس على القيام بأداء وظائفهم الكلية على الوجه المطلوب ،
والثاني : مساعدة المجتمع أو البيئة المحلية على تحقيق مقاصد الشريعة المتمثلة في الضرورات الخمس وهي : حفظ الدين ، والنفس ، والمال ، والنسل ، والعقل ،
هـ - أن أغلب أدبيات الخدمة الاجتماعية التقليدية تنظر إلى أسباب المشكلات النفسية – الاجتماعية على أنها تتمثل فيما يلي :
1- النقص أو القصور في إشباع الحاجات الإنسانية ( بالمفهوم الضيق الذي سبق الإشارة إليه ) وما يترتب على ذلك القصور من إحباط وعدوان ،
2- ما يترتب على استمرار القصور في إشباع الحاجات – أو ما يسببه – من مشكلات في العلاقات مع الآخرين وفي التوافق الاجتماعي ، وهو ما يعبر عنه : بالمشكلات المتصلة بعملية : أداء الوظائف الاجتماعية " أو " الأداء الاجتماعي " ،
3- العمليات الاجتماعية الأشمل التي تحيط بهذا كله كالتغير الاجتماعي وما يؤدي إليه من تفكك اجتماعي يتصل بقصور النظم الاجتماعية عن القيام بوظائفها بكفاءة ،
أما عن التصور الإسلامي لتفسير المشكلات الفردية والاجتماعية ، فهو لا ينظر إلى تلك المشكلات على أنها ناجمة عن تفاعل الإنسان بالبيئة المحيطة فحسب ، بل تدرك البعد العميق لتلك المشكلات والمتمثل في نوعية صلة كل من الإنسان ، والمجتمع ( البيئة أو الوسط ) بالله عز وجل ، هذا ويقترح رجب إطارا تصوريا لتفسير المشكلات الفردية والاجتماعية من منظور الإسلام ، يقوم على ثلاثة مسلمات أساسية يمكن صياغتها في شكل قضايا تتمثل في :
المسلمة الأولى : مع ثبات جميع العوامل الأخرى – فإن انقطاع أو ضعف صلة الإنسان بالله عز وجل يعتبر في ذاته سببا " أساسيا وكافيا وحده " لوقوع الفرد في المشكلات الشخصية والمشكلات المتصلة بالعلاقات الاجتماعية في هذه الحياة الدنيا ، كما يكون فوق ذلك سببا للخسران والهلاك في الآخرة ، ويصدق ذلك عند كل مستويات إشباع الفرد للحاجات الدنيوية المذكورة ،
المسلمة الثانية : مع ثبات جميع العوامل الأخرى – فإن القصور في إشباع الحاجات الدنيوية ( المادية والنفسية والاجتماعية ) سبب أساسي – ولكنه ليس كافيا وحده – لوقوع الفرد في المشكلات الشخصية والمشكلات المتصلى بالعلاقات الاجتماعية ،
المسلمة الثالثة : إن التغير الاجتماعي السريع ، وما يؤدي إليه من تفكك اجتماعي لهو سبب أساسي في حدوث المشكلات الاجتماعية في كل المجتمعات ، ولكن درجة حدة تلك المشكلات ، ودرجة انتشارها تكون أقل كثيرا من المجتمعات التي تهيمن فيها القيم المستمدة من الإسلام ، والتي تعكس مؤسساتها ونظمها الاجتماعية تلك القيم الإلهية التوجه ، والتي – نتيجة لذلك – يحتفظ فيها الناس بسلامة فطرتهم ،
المتطلبات الضرورية للتوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية :
لابد من التأكيد على أن عملية إعادة بناء الخدمة الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي الفريد والمتميز للإنسان والكون والحياة ، ليست مهمة سهلة ، بل هي عملية في غاية الصعوبة والتعقيد غير أنها ليست مستحيلة ، ولا يتسنى لفرد أو مجموعة من الأفراد أن يتولى إنجازها ، بل هي مهمة تتطلب تضافر الجهود الفردية والمؤسسية في إطار عمل جماعي منظم ومخطط تشترك فيه كافة التخصصات العلمية ذات العلاقة ، والجامعات ومراكز البحث العلمي ومؤسسات الممارسة المهنية ، وأن هذه المهمة تتسم بالاستمرارية ، وتحتاج إلى وقت ممتد ، وطول نفس ، واستراتيجية طويلة المدى ،
يقول ( رجب ) : " أن التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية " عملية " مستمرة تتطلب القيام بإجراءات منهجية منظمة للوصول إلى نتائج معينة ، حيث تتراكم تلك النتائج باضطراد بشكل يقربنا من الهدف المتمثل في إعادة صياغة معارف ومبادئ المهنة وطرقها في التدخل بشكل لا يجوز القول فقط بأنه " يتمشى " مع التصور الإسلامي ، ولكن نقول أنه " ينطلق " من هذا التصور ويهتدي بهداه بشكل أساسي (8) ،
وما دمنا نسلم أن التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة والمجتمع يشكل نقطة الانطلاق الجوهرية لأي جهود تبذل في سبيل التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية ومهن المساعدة الإنسانية ، ومنها مهنة الخدمة الاجتماعي ، فالسؤال الذي يفرض نفسه هل تم التوصل بالفعل إلى بلورة دقيقة لهذا التصور حتى تنطلق منه وترتكز عليه تلك الجهود ؟ الإجابة - بطبيعة الحال - ستأتي بالنفي ، رغم أن هناك العديد من الجهود الفردية المتناثرة التي قدمت بعض الأفكار الجادة أحيانا ، والسطحية في أغلب الأحوال حول جانب أو أكثر من جوانب ذلك التصور ،
ومن هنا فإن الأمر سينطلب في البداية بذل جهود نشطة ومكثفة وواسعة النطاق نتمكن من خلالها من بلورة ذلك التصور الإسلامي واستكشاف أبعاده ، والتعرف على حدوده ، لكي نقوم في ضوء ذلك من إسقاط هذا التصور على نظرية الممارسة الحالية ، واستبعاد ما لا يتوافق معه ، ثم البناء على قواعد هذا التصور ، وعلى ما يصمد من الأطر التصورية التفصيلية المستمدة من المشاهدات المحققة ومن خبرات الممارسة ، حتى يبلغ الأمر غايته بظهور نظرية الممارسة المنطلقة من التصور الاسلامي ( المواكب لمستوى المعرفة العلمية المتاحة عند تلك النقطة من الزمن ) (9) ،
وتأسيسا على ذلك فثمة مجموعة من المتطلبات الضرورية والهامة ، والمهام العلمية التي يتعين إنجازها في هذا الإطار ، والتي أسفرت عنها العديد من المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش التي تمت حول التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية ، وهناك قدر كبير من الاتفاق حولها ، وهي – كما جاءت عند ( رجب ) ، و ( عفاف الدباغ ) تتمثل في : (10) ،
1- بلورة التصور الإسلامي للطبيعة البشرية ، سواء من حيث طبيعة الإنسان ومكوناته التي ركب منها ، أو من حيث ديناميات التفاعل بين تلك المكونات ،
2- بلورة وتحديد السنن النفسية والاجتماعية من زاوية الرؤية الإسلامية ، تلك السنن والقوانين التي تحكم سلوك هذا الإنسان كفرد ، وتلك التي تحكم علاقاته مع غيره ، إضافة إلى تلك التي تحكم البناء الاجتماعي والثقافي الذي تتم تلك العلاقات في إطاره ،
3- بلورة المنظور الإسلامي فيما يتعلق بتفسير المشكلات الفردية والاجتماعية ، إذ أن فهم الأسباب والعوامل المؤدية إلى حدوث المشكلات الفردية ، والمشكلات الاجتماعية يمثل أساسا لاوما لتصميم برامج التدخل المهني في جوانبها العلاجية والوقائية على أساس واقعي ،
4- بلورة التصور الإسلامي للأسس التي تقوم عليها سياسات وبرامج الرعاية الاجتماعية والتنمية الاجتماعية ، على اعتبار أنها تمثل الوعاء الذي تتم في إطاره الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية ،
5- وضع الأسس العامة " لنظرية الممارسة " في الخدمة الاجتماعية ، والتي تشمل المواقف والأعراض التي تتطلب التدخل ، كما تشمل الأهداف التي يوجه نحوها العمل المهني في كل نوع من تلك المواقف ، إضافة إلى استراتيجيات وأدوات التدخل الملائمة لكل منها ،
وأخيرا ، وتأسيسا على كل ما سبق ، يأتي هذا الكتاب الذي يقدم مجموعة من الدراسات والبحوث التي تناولت مجموعة من الموضوعات والقضايا التي نحسب أنها تنتمي إلى المنظر الإسلامي للخدمة الاجتماعية ، وتشكل جانبا – ولو ضئيلا – من الجهود والمحاولات التي تبذل في هذا الصدد ، تلك الدراسات والأفكار التي حاولت – بقدر الإمكان – أن تأتي ملتزمة بالرؤية العامة التي أوضحناها في السطور السابقة ، وكانت تلك الدراسات على النحو التالي :
- الدراسة الأولى : بعنوان "إشكالية المفاهيم والمصطلحات في إطار المذهبية الإسلامية ، طبيعة الأزمة ، وكيفية المعالجة – دراسة في الخدمة الاجتماعية " ، إذ أن قضية استخدام المفاهيم والمصطلحات العلمية وكيفية تحديدها ، لا زالت تشكل تحديا حقيقيا للباحثين والدارسين في هذا الاتجاه ، حيث تكشف القراءة المتعمقة للكتابات والبحوث التي تم إنجازها في إطار عملية التأصيل الإسلامي للخدمة الاجتماعية بوجه خاص ، وللعلوم الاجتماعية بوجه عام عما تشكله " إشكالية المفاهيم " من أهمية تجعلها من القضايا ذات الأولوية في هذا المجال ، ولذا جاءت تلك الدراسة كمحاولة من جانب الباحث لإلقاء الضوء على محورية تلك القضية ، وجوانب الأزمة وأبعادها من المنظور الإسلامي ، وما يتبغي اتخاذه من إجراءات للمواجهة ، استنادا إلى آراء المهتمين بالقضية ،
- الدراسة الثانية : وهي بعنوان : " نحو سياسة اجتماعية لرعاية البيئة من منظور إسلامي " ، حيث انصبت الدراسة على موضوع البيئة وقضاياها وهو من الموضوعات التي أضحت محط اهتمام كافة التخصصات العلمية ، والمخططين والمفكرين والسياسيين على مستوى العالم كله ، حتى أصبحت تعقد بشأنها المؤتمرات الدولية على أعلى المستويات ، لما تشكله قضايا البيئة ومشكلاتها من خطر محق يكاد يهدد الحياة الإنسانية برمتها على كوكب الأرض ، وجاءت الدراسة في إطار مهنة الخدمة الاجتماعية كمحاولة من قبل الباحث للتوصل إلى بعض المؤشرات والخطوط العريضة التي يمكن أن تصلح كأساس لوضع سياسة اجتماعية لرعاية البيئة وتنميتها – لا مجرد حمايتها وصيانتها فقط – وذلك في ضوء التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والحياة والكون ،
- الدراسة الثالثة : وجاءت بعنوان : إسهامات الوقف الإسلامي في برامج الرعاية الاجتماعية في المجتمع المصري( نظرة تقويمية ) ، وذلك بالتطبيق على هيئة الأوقاف ، ووزارة الأوقاف المصرية ، وهي أقرب إلى الدراسات التقويمية وإن لم تستوف الشروط والقواعد المنهجية للتقويم للصعوبات التي واجهت الباحث وظروف السرية على الوثائق والسجلات الخاصة بهيئة الأوقاف المصرية ، مما اضطر الباحث إلى الاكتفاء بالتطبيق على بعض برامج ومشروعات وارة الأوقاف ،
- الدراسة الرابعة : وهي بعنوان : التأصيل الإسلامي ومستقبل تعليم الخدمة الاجتماعية في المجتمع السعودي ، حيث انصبت الدراسة على أحد المحاور والمكونات الرئيسة لمنظومة الخدمة الاجتماعية ، والمتمثل في محور التعليم والإعداد المهني للأخصائيين الاجتماعيين ،
- الدراسة الخامسة : بعنوان : بحوث التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية الاتجاهات العامة ومؤشرات مستقبلية - ( قراءة تحليلية لبحوث مؤتمرات التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية من الأول إلى الرابع ) ، وهي دراسة تحليلية نقدية لتلك البحوث ، بغرض الكشف عن جوانب القوة والضعف التي اعترتها وبصفة خاصة فيما يتعلق بمفهوم التوجيه الإسلامي الذي تبناه الباحثون في بحوثهم ، وكذلك مدى التزام البحوث بمنهجية التوجيه الإسلامي للخدمة الاجتماعية ،
- الدراسة السادسة : وهي بعنوان : سياسات الرعاية الاجتماعية للمسنين بين الفكر الوضعي والتصور الإسلامي ، واستهدفت الدراسة قيام الباحث بنوع من المراجعة النقدية التحليلية للسياسات الاجتماعية إزاء المسنين والتي تمخض عنها الفكر الوضعي في عالمنا المعاصر سواء في المجتمعات الغربية ( المنتجة لتلك السياسات ) أو في المجتمعات العربية والإسلامية والتي يسير معظمها – إن لم يكن جميعها – في إطار النموذج الغربي ، وكيف أن تلك السياسات إنما جاءت – في حقيقة الأمر – ترجمة للسياق الاجتماعي والثقافي والحضاري للمجتمع الغربي ، وتصوره للإنسان والكون والحياة والمجتمع بشكل عام ، ونظرته للمسن بوجه خاص ،
يتبــــــــــــــــــــع
********************
الهوامش والإحالات :
============
(1) – نعني بمصطلح الانتشار الثقافي هما : " عملية انتقال الثقافة من المجتمعات الأكثر رقيا إلى المجتمعات الأدنى أو الأقل تطورا " ، وتحت هذا المعنى برزت مفاهيم مثل: مسألة الرجل الأبيض ، والثورات الثقافية ،
(2) - عفاف بنت إبراهيم الدباغ : " المنظور الاسلامي لممارسة الخدمة الاجتماعية " مكتبة المؤيد ، الرياض ، ( د.ت) ، ص : 10 ،
(3) – " نفس المصدر السابق " ، ص : 406 ،
(4) – " نفس المصدر السابق " ، ص : 406 – 407 ،
(5) - عبد الله بن عبد المحسن التركي (إشراف ) : " التفسير الميسر " ، إعداد : مجموعة من العلماء ، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ، ص : 401 ، المصدر : موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف http://www.qurancomplex.com
(6) - إبراهيم عبد الرحمن رجب : " الإسلام والخدمة الاجتماعية " ، الثقافة المصرية للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة ، 2000م ، ص ص : 44 - 55
(7) – راجع كلا من :
- عفاف بنت إبراهيم الدباغ : " مرجع سبق ذكره " ،
- إبراهيم عبد الرحمن رجب : " مرجع سبق ذكره " ، ص ص : 119-121
(8) – إبراهيم عبد الرحمن رجب : " مرجع سبق ذكره " ، ص : 62 ،
(9) – " نفس المرجع السابق " ، ص ص : 62 – 63
(10) – راجع :
- إبراهيم عبد الرحمن رجب : " نفس المرجع السابق " ،
- عفاف بنت إبراهيم الدباغ : " نفس المرجع السابق " ،
--------------
أ. د/ أحمد بشير ، جامعة حلوان ،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: