الأخصائي الاجتماعي والتنمية المهنية : عزيزي الأخصائي الاجتماعي، كيف يمكن أن تنمي ذاتك مهنيا (1)
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6145
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قال تعالى : {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } ( القيامة : 14 )
" إذا كنت تدرِّس الفرد ماذا يتعلم فإنك تُعِده للماضي، أما إذا كنت تدرِّسه كيف يتعلم فإنك تعده للمستقبل " ( روبرت تيلور )
" الإنسان لا يخاف من التغيير (Change)، ولكنه في حقيقة الأمر يخشى التحول أو الانتقال الذاتي (Transition) "( نوفل عبد الهادي المصارع )
"انتبه لأفكارك؛ لأنها سوف تصبح كلمات، وانتبه لكلماتك فسوف تصبح تصرفاتك، وانتبه لتصرفاتك فسوف تصبح عاداتك، وانتبه لعاداتك فسوف تصبح شخصيتك، وانتبه لشخصيتك فسوف تصبح واقعك". ( فورد أوتلو Ford Outlaw )
************
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد :
- لا شك أن طلاب الخدمة الاجتماعية ودارسيها، وممارسيها في الميدان، في أمس الحاجة إلى ما يحفز هممهم، ويقوي عزائمهم على بذل الجهد، واستفراغ الوسع، في التقويم المستمر لذواتهم المهنية، والتعرف على السبل التي ينبغي أن يسلكوها، والأدوات التي يمكن أن يستخدموها، من أجل تنمية أنفسهم مهنيا، وتطوير ذواتهم، مما يجعلهم أكثر فعالية في تأدية مهامهم وأدوارهم، وتحقيق أهدافهم المهنية على الوجه المطلوب،
- إن من الأساسيات المعلومة بالنسبة لطبيعة مهنة الخدمة الاجتماعية ووظائفها وأغراضها هي أنها تلعب دورا حيويا وهاما في تسهيل العلاقة بين الانسان ( الفرد ) والمجتمع الذي يعيش فيه ( البيئة )، وهو ما أطلق عليه العلماء الوظيفة " ثنائية القطب " للخدمة الاجتماعية حيث تتحرك بين قطبين هما الناس والبيئة People & Environment، فالناس – بطبيعة الحال وفي أي مجتمع – في حالة تفاعل مستمر مع البيئة التي يوجدون بها ( بالمفهوم الشامل للبيئة ) (1)،
ويتم ذلك التفاعل من خلال قيام الناس بأدوارهم الاجتماعية Social Roles، وممارستهم للعلاقات فيما بينهم، ذلك حتى يتم تبادل متوازن بين هذه العلاقات الاجتماعية وبين متطلبات البيئة (2)،
وهذا يعني – بتعبير متكافئ – أن الخدمة الاجتماعية تقع في منطقة التماس بين الفرد والأنظمة الاجتماعية Social Systems ، إذ تعمل المهنة مستخدمة قاعدتها المعرفية Knowledge Base، ومهاراتها الفنية Skill Base، بجانب قيمها الإنسانية Value Base ، لمساعدة الأفراد على التوافق مع الأنظمة الاجتماعية، ليس هذا فحسب وانما - وفي نفس الوقت – تحاول أن تعدل ( وتغير ) من تلك النظم الاجتماعية لتصبح أكثر قدرة على إشباع الاحتياجات الإنسانية (3)، وبتعبير آخر تقوم الخدمة الاجتماعية بمساعدة الانسان على التوافق مع الأنظمة الاجتماعية ليس كما هي، بل كما يجب أن تتغير هي الأخرى لتصبح أكثر استجابة لمطالب واحتياجات المواطنين،
- ولأهمية دور مهنة الخدمة الاجتماعية في تغيير الانسان والبيئة والوسط الاجتماعي Social Context الذي يعيش فيه، أطلقت أدبيات المهنة على الأخصائي الاجتماعي وصف " وكيل التغيير : Change Agent ، أي هو المسئول الأول عن إحداث التغيير المرغوب والمقصود والمخطط في الناس، ونظمهم الاجتماعية في ذات الوقت،
ولكي يؤدي وكيل التغيير دوره بالفعالية المطلوبة فهو في حاجة مستمرة إلى اكتشاف ذاته المهنية وتقويمها وتنميتها، ومواكبة كل جديد ومستحدث في مجال تخصصه الدقيق وفي منظومة العلوم الاجتماعية والإنسانية، ومهن المساعدة الإنسانية، وكذلك فهم التغيرات التي تطرأ على العالم من حوله وانعكاساتها على الانسان والمجتمع والحياة الإنسانية،
- وإذا كانت التنمية الذاتية Self Development تعني في أبسط مفهوم لها : تلك الطريقة المبتكرة لمعرفة النفس البشرية، والتعامل معها بأساليب معينة كتطوير المهارات، والسلوك، والاداء الجيد والفعال، مما يساهم في رفع وتحسين قدرات الشخص الذاتية، وخاصة مهارة فن التواصل مع الآخرين، وبناء العلاقات الإيجابية التي تسمح له باكتشاف عقلية الآخرين والتأثير فيهم، فهي تتضمن تنمية المهارات الحياتية والنفسية والسلوكية، وتنمية الشخصية، والقدرة على التغلب على المشكلات النفسية والسلوكية، وتطوير الذات الانسانية، وكذلك تنمية المهارات العقلية من حيث تنمية الذكاء، والبديهة، والقدرات العقلية في التحليل، واعتماد الطريقة المنهجية في التفكير بالاعتماد على قواعد العلم والمعارف التطبيقية،
لذا فإن التنمية الذاتية ( وتطوير الذات ) تعد من الأهمية بمكان لكل إنسان في كل زمان ومكان، إلا أنها تزداد أهمية بالنسبة للعصر الذي نعيشه، من ناحية، وبالنسبة لأولئك المتخصصين في مهن المساعدة الإنسانية من ناحية أخرى، ومن بين هؤلاء الأخصائي الاجتماعي الذي يمارس أدواره المهنية مع مختلف الأنساق، وفي شتى مجالات الممارسة المهنية، لتحقيق أهداف محددة وهامة بالنسبة للإنسان والمجتمع على السواء،
أما " التنمية المهنية " Professional Development للأخصائيين الاجتماعيين، ووفقاً للاتجاهات الحديثة في هذا الصدد فإن الأهداف والاستراتيجيات وسبل التنمية المهنية تحولت نحو تبنى مفهوم " التعلم مدى الحياة " أو التعلم المستمر، وقد أدى التقدم فى مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) Information & Communication Technology الى فتح قنوات جديدة لتحقيق الأهداف الشخصية والمؤسسية المرتبطة بالنمو المهني،
- وتعنى " التنمية المهنية " في محيط الخدمة الاجتماعية التركيز على و / الاهتمام بتحسين أداء الأخصائيين الاجتماعيين وهيئات الإشراف التوجيه، مما يجعلهم أكثر قدرة واستعدادا للقيام بأدوارهم المهنية ومتطلبات عملهم بكفاءة وفعالية،
- ان التنمية المهنية أثناء الخدمة تعمل على إحداث تكامل بين عمليات الإعداد المهني قبل الخدمة، وتوافر فرص التزويد بالاتجاهات الحديثة في الخدمة الاجتماعية، بما يؤدى إلى تحقيق دور فعال للأخصائيين الاجتماعيين العاملين في مختلف مجالات الممارسة المهنية، وثمة مجموعة من العوامل التي جعلت من التنمية المهنية خيار أساسيا في عصرنا الحاضر لعل من أهمها ذلك التطور الهائل الذي حدث في المجتمعات المعاصرة، مثل تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والأقمار الصناعية، وسرعه انتشار شبكه الانترنت والبريد الالكتروني، وما صاحب ذلك من الإنفجار المعرفي، وتضاعف المعرفة الإنسانية، وفى مقدمتها المعرفة العلمية والتكنولوجية،
وتهدف التنمية المهنية إلى تحسين الأداء المهني أو الوظيفي، وتطوير قدرات الإفراد وتغيير سلوكهم، وذلك من خلال انجاز الأهداف المحددة سلفاٌ بالقدر الكافي من الفعالية والكفاءة، فهي عملية تحسين مستوى الأداء للأخصائيين الاجتماعيين من خلال التزود بالجديد من المعارف، وتنميه الخبرات وصقل المهارات وتعديل الاتجاهات، والتنمية بهذا المفهوم عمليه مستمرة ومطلوبة حتى نطور من ممارستنا، وحتى تتمكن المهنة من تدعيم وضعها واثبات وجودها وفعاليتها في المجتمع، ومن ثم تحظى بالمكانة اللائقة بين المهن الأخرى،
من أجل ذلك رأينا أن نعرض هنا لمجموعة من الرمزيات ( المواقف الرمزية ) التي نحسب أن لها دلالتها بالنسبة للأخصائي الاجتماعي في تطوير ذاته المهنية، وتفعيل دوره في إحداث التغيير المطلوب فيمن يتعامل معهم،
* الرمزية الأولى : " نعـل الملك ...." !!
" يحكى أن ملكاً من الملوك كان يحكم دولة كبرى، واسعة المساحة جداً، ومترامية الأطراف ..أراد هذا الملك يوما القيام برحلة برية طويلة، وخلال عودته وجد أن أقدامه تورمت بسبب المشي في الطرق الوعرة، فأصدر مرسوماً يقضي بتغطية كل شوارع مدينته بالجلد، ولكن احد مستشاريه أشار عليه برأي أفضل وهو عمل قطعة جلد صغيرة تحت قدمي الملك فقط، فكانت هذه بداية نعل الأحذية "
إنها مجرد حكاية تروى لا ندري في الحقيقة مدى صحة وقوعها من عدمه، إلا أنها – وعند التأمل فيها – تحمل من الدلالات ما يمكن أن يفيد منها الانسان العادي في حياته العامة، كما يمكن أن يفيد منها العاملون في ميادين العمل العام، والعمل الاجتماعي، والدعوة والتربية، وغيرهم ممن يتعاملون مع الناس والمجتمع،
وإذا ما أعدنا النظر وأرجعناه في هذا الموقف بعيون الأخصائي الاجتماعي فإننا نحسب أن فيه من الدروس والفوائد ما يمكن أن يعود بالنفع والفائدة على الشخصية المهنية للأخصائي الاجتماعي ذاته، وعلى من يعمل معهم من الوحدات المستهدفة بالممارسة المهنية،
ومن الدروس المستفادة والتي يمكن لنا أن نستنبطها من هذه القصة ما يلي :
* التغيير الذاتي أولا : فالملك - في هذه القصة - واجه موقفا مشكلا يحتاج إلى اتخاذ قرار بالتغيير والمواجهة، وسرعان ما كان القرار المفاجئ من قبل الملك بالتغيير الخارجي، دون التفكير في مدى إمكانية هذا التغيير، وبغض النظر عن صعوبته ان لم يكن استحالة تحقيقه، وبغض النظر عن التكلفة العالية لهذا القرار إن أمكن تنفيذه، ولما جاءه الاقتراح بان يكون التغيير ذاتيا تبين له أن الأمر أيسر بكثير مما كان يعتقد،
إن ما حدث يحيلنا إلى قانون التغيير كما جاء في القرآن الكريم والمتمثل في قول الله تعالى : { .... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ...} ( الرعد : 11 )، وقوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ.....} ( الأنفال : 53 )،
* الحاجة إلى بطانة العقل والخير :
- ما أحوج الإنسان بوجه عام، والملوك والحكام والقادة والمسؤولين عن العمل السياسي والاجتماعي ....بوجه خاص إلى البطانة الخيرة العاقلة، التي تدل على موارد الخير، وتعطي النصيحة العاقلة، تأمر بالمعروف وتعين عليه، وتنهى عن المنكر وتساعد على اجتنابه، فها هو الملك في غمرة انفعاله لما أصابه من إجهاد وألم جراء الرحلة التي قام بها في الأراضي الوعرة، ها هو يتسرع ويتخذ قرارا يكاد يكون من المستحيل أن ينفذ ويرى النور، وهنا يأتي دور الرفيق العقل، والصاحب الخير، والبطانة الصالحة، فأشار عليه أحد مستشاريه والمقربين منه بالرأي الصائب،
والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا أنه ما من نبي، ولا خليفة، إلا ويقع بين دواعي بطانتين : فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلَا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عصمَه اللَّهُ " ( رَوَاهُ البُخَارِيّ، وصححه الألباني ) (4)، وفي رواية : " وبطانة لا تألوه خبالا "،
وأولى الناس الذين ينبغي أن يتخذهم الانسان بطانة له هم أهل العلم والفهم والعقل الراجح، والنفوس الزكية، والقلوب السليمة الذين لا يألون جهدا في إسداء النصح والمشورة،
فليحرص الاخصائي الاجتماعي في حياته المهنية والخاصة أن يقرب منه أمثال هؤلاء، وليتخير من الزملاء والرؤساء وأعضاء الفريق المهني من هم أكثر علما، وأرجح عقلا، وأسلم طوية، وأكثر خبرة فليقربهم منه، ليلجأ إليهم عند حاجته للمساعدة في الأمور والقضايا والمواقف التي يشعر أنه يحتاج فيها لرأي الآخرين، وليوطن نفسه للاستفادة من آرائهم ونصائحهم في الموقف المختلفة التي يواجهها،
- مساوئ العجلة في اتخاذ القرار دون روية وتفكير ودراسة متأنية لكافة البدائل المحتملة لحل المشكلة،
- أهمية الشورى وضرورتها كمبدأ وكقيمة إسلامية أصيلة، وفوائدها في ترشيد القرارات، وصواب الرؤية، وسداد الخطى والمسيرة،
- إذا أراد الإنسان أن يعيش سعيدا في العالم، فعليه ألا يحاول تغيير كل العالم من حوله دون النظر إلى نفسه، بل عليه أن يبدأ أولا بتغيير نفسك ، ومن ثم يحاول بعدها أن يشرع في تغيير العالم من حولك،
******************
الهوامش والحواشي :
============
(1) - المفهوم الشامل للبيئة مفهوم حديث يشير إلى أن البيئة هي : الاطار الذي يعيش فيه الانسان، ويحصل منه مقومات حياته، من غذاء وكساء ودواء ومأوى، ويمارس فيه علاقاته مع أقرانه من بني البشر "، أنظر :
- رشيد الحمد - محمد سعيد صباريني : " البيئة ومشكلاتها "، سلسلة عالم المعرفة، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب، الكويت، العدد رقم (22)، اكتوبر 1979م، ص ص : 24 – 25،
(2) - Harriett M. Bartlett :" The Common Base of Social Work Practice ", N.Y. : NASW, 1970,pp: 101-104.
(3) - John M. Romanyshyn, " Social Welfare : Charity To Justice " ,N.Y. :Random House m 1971, p :55
(4) - أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني (المتوفى : 1420هـ) : " صحيح الجامع الصغير وزياداته "، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ( د.ت)، ج2، ص : 977،
************
أ . د/ أحمد بشير، جامعة حلوان، القاهرة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: