مواقف من التراث - قصة ابن حزم – كيفية استثمار المواقف
أ. د/ احمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3686
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
* الإنسان سلسلة لا تنتهي من المواقف :
حياة الإنسان عبارة عن مجموعة من المواقف التي يمر بها في إطار تفاعلاته وعلاقاته مع الوسط الذي يعيش فيه ، بشتى جوانبه وأبعاده الطبيعية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية والثقافية والسياسية ....إلخ ، فهو لا ينفك يخرج من موقف ليجد نفسه في موقف آخر ، يتطلب منه التفاعل معه ، واتخاذ قرار ما للتعامل معه ، ويفرض عليه سلوكا أو تصرفا معينا ، ومن ثم فهو يتعرض يوميا للعديد من المواقف المتنوعة والمتباينة التي تؤثر عليه ، ويؤثر فيها من خلال سلسلة التفاعلات التي تتم مع من حوله ،
والسؤال الذي يفرض نفسه : كيف يكون الإنسان واعيا لتلك المواقف ؟، وكيف يروض الإنسان نفسه – بما أوتي من ملكة العقل والتفكير والتأمل - للاستفادة منها على كثرتها وتنوعها ، واستثمارها بما يعود عليه بالنفع الذي يبحث عنه ، وعلى مجتمعه بالفائدة ، والتقدم والارتقاء ؟،
* المهم كيف تستثمر مواقف الحياة لصالحك :
وللإجابة على هذا التساؤل ، نسوق هنا ما أورده العلامة ابن حجر في كتابه " لسان الميزان " ، حيث روى قصة عجيبة ، ذكرها أبو محمد بن حزم لعبد الله بن محمد بن العربي ، والد القاضي أبي بكر : " أنه - أي ابن حزم (1) - شهد يوما جنازة ، فدخل المسجد فجلس ، قبل أن يصلي تحية المسجد ، فقيل له ، قم فصلِّ تحية المسجد (2) ، فما كان منه إلا أن قام – على الفور - فصلى ركعتين ، ومرت أيام فحضر مرة أخرى إلى المسجد ليصلي على جنازة فبدأ الصلاة قبل أن يجلس ، فقيل له : اجلس ليس هذا وقت صلاة ، وكان بعد العصر : فحصل له خزي ( وتأثر ) ، فقال للذي رباه : دلني على دار الفقيه ، فقصده وقرأ عليه الموطأ ، ثم جد في طلب العلم بعد ذلك " ، فتضلع في علوم الفقه والشرع ونبغ فيها ، وكان من شأنه ما كان مما جعله من أعلام هذه الأمة العظام ،
لقد أجاد " أبو محمد " كما رأينا في التعامل مع هذا الموقف ، وفي استجابته له ، ورأينا كيف كان رد فعله ، وكيف حوله من " موقف سلبي " ، ربما أشعره بالخزي والإحباط والدونية في مجال العلم الشرعي ، إلى " موقف إيجابي " ، أحسن استثماره وعاد عليه بالنفع الكثير ، نعم لقد نجح في أن يحول الخسارة إلى مكسب ، وأي مكسب ، إن هذه الواقعة لهي نموذج ساطع ، وبرهان قاطع على فن التعامل مع المواقف واسثمارها ،
ونعني بالموقف هنا : هو كل ما يتعرض له الفرد من أحداث ووقائع في حياته ، ويتطلب منه الأمر اتخاذ قرار ، إيجابيا كان أم سلبيا ، تجاه هذه الأحداث والوقائع ، ويكون له القدرة على اتخاذه ، ولو نظرنا إلى الحياة الانسانية لوجدنا انها – في نهاية المطاف – سلسلة لا تنتهي من المواقف التي تمر بالإنسان ويتعرض لها ، في كل لحظة من لحظات حياته ، وتؤثر فيه ، ويتأثر بها ، ويتعامل معها ،
* الاخصائي الاجتماعية ومنهجية استثمار المواقف :
إن استثمار المواقف يحتاج إلى شخصية ناضحة واعية ، وإلى منهج واضح ، وإلى مهارات خاصة يكتسبها الإنسان من خلال التدريب الجاد ،
والأخصائي الاجتماعي – شأنه كشأن أي إنسان همه مساعدة الانسان على التغيير للأفضل – يحتاج لذلك بل هو من أكثر الناس احتياجا لاعتماد ذلك المنهج في حياته الشخصية ، ويزيد على غيره من الناس أنه في أمس الحاجة إليه في ممارسته المهنية مع من يتعامل معهم من العملاء ، وعليه أن يسعى جاهدا لاكتساب المهارات الفنية ، التي تمكنه من تفعيل ممارسته لدوره المهني ، وإحداث التغيير المنشود لدى كافة الأنساق التي يتعامل معها ، وعلى الأخص الإنسان كإنسان ، وعليه – قبل كل شيء أن يدرك الحقيقة القائلة " أن فاقد الشئ – أبدا - لا يعطيه "،
- على الأخصائي الاجتماعي أن يكون مدركا أن من مهامه المهنية توعية العملاء وتدريبهم – وخصوصا فئة الشباب - على أهمية الانشغال بالبحث والتفكير في الحلول المناسبة لأي مشكلة تواجههم ، أو مواقف يتعرضون لها ، وبيان أن هذا هو دأب الناجحين في الحياة ، بينما ينشغل الآخرون ويضيعون أوقاتهم في إطالة النظر والتفكر بالمشكلة وما يترتب عليها من نتائج وآثار ، أكثر بكثير من التفكير في الحلول ، وهو أمر لا يتأتي إلا بالتعلم والتدريب المستمر حتى يصبح عادة من عادات الانسان ،
******
الهوامش :
======
(1) - أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي : " لسان الميزان " ، تحقيق : دائرة المعرف النظامية - الهند ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، الطبعة الثالثة ، 1406 هـ - 1986م ،
فلقد قال الوزير أبو محمد ابن العربي. أخبرني بن الشيخ الإمام أبو محمد علي بن احمد بن سعيد بن حزم أن سبب تعلمه الفقه انه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه فدخل المسجد قبل صلاة العصر والخلق فيه فجلس فلم يركع فقال له أستاذه يعني الذي رباه بإشارة إن قم فصل تحية المسجد فلم يقم، فقال بعض المجاورين له " أبلغت هذا السن ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة" وكان قد بلغ حينئذ ستة وعشرين عاما، فقال قمت وركعت وفهمت إشارة الأستاذ إلي بذلك ، قال فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة الأحياء من قرابة الميت دخلت المسجد فبادرت بالركوع فقيل له اجلس اجلس ليس هذا وقت الصلاة، فانصرفت عن الميت وقد خزيت ولحقني ما هانت علي به نفسي ، - وقلت لأستاذي دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله بن دحون فدلني فقصدته من ذلك المشهد، وأعلمته بما جرى فيه وسألته بالابتداء بقراءة العلم واسترشدته فدلني على كتاب الموطأ لمالك بن انس رضي الله عنه، فبدأت بقراءته من اليوم الثاني أذلك اليوم ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام وبدأت المناظرة ، فهذا السبب الذي كان حافزا لابن حزم في دراسة علوم الفقه ،
وابن حزم عالم عربي أندلسي الأصل ، متفنن في مختلف العلوم ، فهو فقيه مشهور ، ومؤرخ ، وشاعر بارز لم يترك علم إلا ودرسه دراسة قيمة ، ولعل الأحوال التي سادت في عصر ابن حزم هي العامل الذي جعل لديه فكر واسع.
(2) – " تحية المسجد " في الإسلام سنة عند أكثر العلماء ، وحكى بعض أهل العلم الإجماع على ذلك ، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ " ( متفق عليه ) ، قال " النووي " رحمه الله : " أجمع العلماء على استحباب تحية المسجد ، ويكره أن يجلس من غير تحية بلا عذر؛ لحديث أبي قتادة المصرح بالنهي..." انتهى من أنظر :
- - أبو زكريا ، محيي الدين بن شرف النووي : " المجموع شرح المهذب (للشيرازي) " ، تحقيق: محمد نجيب المطيعي ، مكتبة الإرشاد ، جدة ، السعودية ، 1980م ، ج3 ، ص : 544 ،
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وَاتَّفَقَ أَئِمَّة الْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْأَمْر فِي ذَلِكَ لِلنَّدْبِ, وَنَقَلَ اِبْن بَطَّالٍ عَنْ أَهْل الظَّاهِر الْوُجُوب, وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ اِبْن حَزْم عَدَمه.." أنظر : - ابن رجب الحنبلي : " فتح الباري شرح صحيح البخاري " ، دار الحرمين ، مكتب تحقيق دار الحرمين ، 2008 م ،
ج1 ، ص ص : 538 - 539 ) ، وجاء في فتاوى "اللجنة الدائمة" : " السنة لمن دخل المسجد في أي وقت أن يصلي تحية المسجد ؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " ( متفق على صحته ) ، أنظر : اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء : " فتاوى اللجنة الدائمة" ، تحقيق : أحمد بن عبد الرزاق الدويش ، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والافتاء بالسعودية ، دار المؤيد للنشر والتوزيع – الرياض ، 1424هـ ، : ج7 ، ص :137 ،
وقال الشيخ " ابن عثيمين " رحمه الله: " القول بوجوب تحية المسجد قول قوي، ولكن الأقرب القول بأنها سنة مؤكدة ، والعلم عند الله تعالى " أنظر : - محمد بن صالح العثيمين : " مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين " ، تحقيق : فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان ، دار الوطن ، الرياض ، السعودية ، 1413هـ ، ج14 ، ص : 354 ،
------------
أ. د/ احمد بشير
جامعة حلوان – القاهرة
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: