هل تعلم - 3 - أن الكفر بالطاغوت شرط في تحقيق الإسلام
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6192
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين ، الحمد لله على جميل إِحسانه، والشّكرُ له عَلى كريم توفيقِه وامتنانه ، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له ، وأشهَد أنّ نبيّنا محمّدًا عبدُه ورسوله ، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،
أما بعد :
يقول العلماء أن التوحيد لا بد فيه من أمرين :
- الأمر الأول : الكفر بالطاغوت ،
- الأمر الثاني : الإيمان بالله ،
وهذا هو معنى : ( لا إله إلا الله ) حيث أن معناها : لا معبود بحقٍ إلا الله ، فــ ( لا إله ) كفر بالطاغوت ، و ( إلا الله ) إيمان بالله ، فمن لم يكفر المشركين أو اليهود أو النصارى أو الوثنيين أو توقف في كفرهم فهو كافر بالله ، لا بد أن يجزم ويعتقد كفرهم فمن قال : ( إن اليهود والنصارى على دين سماوي وكذلك المسلمون على دين سماوي وكلهم على حق ) فهذا كافر ؛ لأنه لم يكفِّر المشركين فلا بد أن يعتقد أن اليهود والنصارى كلهم على باطل ، وأنهم كفار فإن شك أوتوقَّف كان هذا الشك أو التوقف منه ناقضا من نواقض الإسلام ويكون كافرا بالله ؛ وكذلك لو صحَّح مذهبهم وقال : النصارى على حق واليهود على حق ، ومن أحب أن يتدين باليهودية أو النصرانية أو بالإسلام فله ذلك فهذا كافر لأنه صحَّح مذهبهم ، معنى هذا أن من اعتقد أن المشركين على حق أو توقَّف في ذلك فهو كافر ؛ لأنه لم يكفر بالطاغوت (1) ،
فقضية توحيد الله في العبودية ، والكفر بالطاغوت ، كانت الهم الأكبر، والغاية العظمى للأنبياء والرسل ، لا يصرفهم عنها صارف ، ولا يشغلهم عنها شاغل ، ولم تكن تقبل عندهم المساومة ، أو يرضوا فيها أنصاف الحلول ، فإما استسلام وعبودية مطلقة لله تعالى وحده ، وهو الإيمان ، أو عبودية للطاغوت ـ ولو في جانب من جوانب العبادة ـ فهو الكفر والشرك ، والخروج من دائرة الدين الحق إلى دين الطاغوت ، لذا كان لأجلها تُسل السيوف ، وتبعث البعوث ، وتجهز الجيوش ، وعليها يعقد الولاء والبراء ، ويعلن الحرب والسلم ، وفي سبيلها تبذل المهج والأرواح ، ويرخص كل غال ونفيس ، فإنها ـ بحق - قضية لا بد من أن تحسم أولا ـ وبوضوح وصراحة ـ مع الطواغيت كل الطواغيت: من المعبود بحق في الوجود، هم أم الله الواحد القهار؟ (2) ،
ويرى العلماء أن الطاغوت هو اللات ، والعزى ، والكاهن ، والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام ، وكل ما عبد من دون الله تعالى ،
ولقد قرن الله تعالى في القرآن الكريم بين الأمر بعبادة الله تعالى وحده ، والأمر بالكفر بالطاغوت ، فقال تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } ( النحل : 36 ) فأمر بعبادة الله وطاعته وحده ، وتَرْكِ عبادة غيره من الشياطين والأوثان والأموات وغير ذلك مما يتخذ من دون الله وليًا , ولذلك فقوله تعالى :{وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، يعني : كل ما يُعبد من دون الله عز وجل ،
ولاحظ معي قوله تعالى :"{ وَاجْتَنِبُوا }" ، ولم يقل : اتركوا عبادة الطاغوت ؛ لأن " اجتنبوا " أبلغ ؛ يعني : اتركوا كل الوسائل التي توصِّل إلى الشرك ، فالاجتناب معناه : أننا نترك الشيء ونترك الوسائل والطرق التي توصِّل إليه ، فهذه الآية فيها : أن الرسل بُعثوا بالتّوحيد ، الذي هو عبادة الله وترك عبادة الطاغوت ، من أولهم إلى آخرهم ، إذاً جميع الرسل جاءوا بالدعوة إلى التّوحيد والنهي عن الشرك، هذه مِلَّة الرسل- عليهم الصلاة والسلام-، وهي مِلَّة واحدة، وإن اختلفت شرائعهم، إلاَّ إن أصل دينهم وعقيدتهم هو: التّوحيد، وعبادة الله في كل وقت بما شرع ،
وقال في موضع آخر : {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ( البقرة : 256 ) ، أي أن َمَن يكفر بكل ما عُبِد من دون الله ويؤمن بالله , فقد ثبت واستقام على الطريقة المثلى , واستمسك من الدين بأقوى سبب لا انقطاع له ، وهذا هو معنى " لا إله إلاَّ الله "، لأن " لا إله إلاَّ الله " معناها : الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، مثل قوله : "{اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" نفيٌ وإثبات ، وهو المهمة الأولى لجميع الرسل بلا استثناء.
ولاحظ هنا كيف أن الله تعالى قدّم الكفر بالطاغوت ، على الإيمان بالله ، فلابد من الكفر بالطاغوت ، ولابد من الكفر بما يعبد من دون الله عزّ وجلّ ، واعتقاد بطلانه ، والبراءة منه ومن أهله ، وإلا فلا يصير الإنسان مسلماً ، لأن هذا تلفيق بين الإسلام والكفر، ولا يجتمع الكفر والإسلام أبداً ،
" وتقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله تعالى ، له دلالات عظيمة ، منها : عدم الاستهانة بقضية الكفر بالطاغوت ، وبيان أنه أصل هام تبنى عليه بقية الأصول والفروع ، ومنها : (3)
- أنه لا بد من أن يسبق الإيمان الكفر بالطاغوت ، ولو قُدم الإيمان على الكفر بالطاغوت فإن الإيمان لا ينفع صاحبه في شيء إلا بعد الكفر بالطاغوت والتخلي عن الشرك ،
- أن الإيمان بالله والإيمان بالطاغوت لا يمكن اجتماعهما في قلب امرئ واحد ولو لبرهة واحدة ، فإن الإيمان بأحدهما يستلزم انتفاء الآخر ، كما في الحديث : " لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب واحد " ( صححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1050 ) ، فإما إيمان بالله يتقدمه كفر بالطاغوت ، وإما إيمان بالطاغوت وكفر بالله تعالى ، وافتراض اجتماعهما هو افتراض اجتماع الشيء وضده في آن واحد ،
وفي معنى " العروة الوثقى " قال بعض أهل العلم : العروة الوثقى يعني الإيمان ، وقال بعضهم : يعني الإسلام ، وقال بعضهم : يعني لا إله إلا الله ، وهذه أقوال متقاربة كلها صحيحة لا تنافي بينها (4)
إن مفهوم الآية يقتضي أن من آمن بالله ولم يكفر بالطاغوت ، أو كفر بالطاغوت ولم يؤمن يالله لا يكون قد استمسك بالعروة الوثقى وشهد أن لا إله إلا الله ، وفي الحديث فقد صح عن النبي أنه قال : " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله " ( رواه مسلم ) ، قال محمد بن عبد الوهاب : فقوله : وكفر بما يعبد من دون الله تأكيد للنفي، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك أو تردد لم يعصم دمه وماله ، واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمنا بالله إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، الرشد دين محمد ، والغي دين أبي جهل، والعروة الوثقى شهادة لا إله إلا الله وهي متضمنة للنفي والإثبات تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له (5) ،
وقال أبو محمد المقدسي : وهذا الأمر أعظم عروة من عرى الإسلام ، لا تقبل دعوة ولا جهاد ولا صلاة ، ولا صيام ولا زكاة ولا حج إلا به ، ولا يمكن النجاة من النار دون التمسك به ، إذ هو العروة الوحيدة التي ضمن الله تعالى لنا ألا تنفصم ، أما ما سواها من عُرى الدين وشرائعه فلا تكفي وحدها دون هذه العروة للنجاة ، قال تعالى : قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا ، تأمل كيف قدم الله الكفر بالطاغوت واجتنابه في الذكر على الإيمان به، والإنابة إليه سبحانه، تماما كما قدم النفي على الإثبات في كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وما ذلك إلا تنبيها على هذا الركن العظيم من هذه العروة الوثقى، فلا يصح الإيمان بالله ولا ينفع إلا بالكفر بالطاغوت أولا (6) ،
* الكفر بالطاغوت شرط لصحة التوحيد والإيمان:
قال ( حليمة ) في كتابه " الطاغوت " (7) : " اعلم أن أعظم ركن في الإسلام جاءت به الرسل هو الإيمان بالله تعالى وحده والكفر بالطاغوت ، وهو غاية الرسل والرسالات ، وأول ما يجب على العبد القيام به نحو ربه قبل الصلاة والصيام والزكاة وحج بيت الله الحرام ، وغير ذلك من الطاعات ، فلا يصح إيمان إلا بعد الكفر بالطاغوت ، ولا يقبل عمل إلا بعد الكفر بالطاغوت ، ولا يُعصم دم إلا بعد الكفر بالطاغوت ،
مجموعة حقائق هامة :
- الطّاغوت : مشتقٌّ من الطُّغيان ، وهو : مجاوزة الحدّ ، قال الشيخ الإمام ابن القيِّم : ( الطّاغوت : ما تجاوز به العبدُ حدّه من معبود أو متبوعٍ أو مُطاعٍ في معصية الله ، والطّواغيتُ كثيرون ، ورؤوسهم خمسة : إبليسٌ - لعنه الله - ومَن عُبد وهو راضٍ ، ومَن دعا الناس إلى عبادة نفسه ، ومَن حكم بغير ما أنزل الله ، ومن ادّعى علم الغيب" ، هؤلاء رؤوس الطواغيت،
- أن من رؤوس الطواغيت : مَن حكم بغير ما أنزل الله ، الذي هو موضوع هذا الباب ، وهم الذين يحكمون ويتحاكمون بغير شريعة الله سبحانه وتعالى من القوانين والأنظِمَة ، والعادات والتقاليد ، وأمور الجاهلية والقَبَلِيّة ، لأن هناك قوانين وَضْعِيّة وضعها البَشَر، وهناك عادات وتقاليد في المجتمعات ، يمشي بعضُ الناس عليها ، وكلّ من حكم بغير كتاب الله وسنّة رسوله مستحلاً لذلك فإنه طاغوت يجب الكُفر به. ولهذا قال: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}،
- الإيمان بالله لا يصحّ إلاّ بعد الكفر بالطّاغوت ، فالكفر بالطّاغوت ركن الإيمان وأساسه ، فلا يصحّ أن يجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالطّاغوت ، لأن هذا جمعٌ بين نقيضين ، والله قدّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ، وهذا معنى " لا إله إلاّ الله " ، لأنّ " لا إله إلاّ الله " إيمانٌ بالله وكُفرٌ بالطّاغوت ، فقولنا : " لا إله " هذا نفيٌ ، ينفي جميع المعبودات والطّواغيت ، وقولُنا : " إلاّ الله " هذا إيمانٌ بالله سبحانه وتعالى وحده ،
- أنّه لا يكفي مجرد الأمر بالتوحيد ، بل لابد من النّهي عن الشّرك ، لأنّ الله تعالى قال : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }( البقرة : 21 – 22 ) ، فانظر كيف قال في الآية الأولى : {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، وقال في ختام الآية الثانية : "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً}"، فدلّ على أنّه لابد من الجمع بين الأمرين: الأمر بالتوحيد والنّهي عن الشرك ، فالذي يقتصر على الأمر بالتّوحيد ولا ينهى عن الشّرك لم يقم بالمطلوب لأن ذلك لا يحقِّق شيئاً ، وهذا في القرآن كثير ، دائماً بجانب الأمر بالتّوحيد يأتي النّهي عن الشّرك ، قال تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} هذا أمر ونهي ، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} هذا فيه : الكفر بالطّاغوت ، والإيمان بالله ، وهذا يعني أن الإيمان بالله لا يكفي ، بل لابد من الكفر بالطّاغوت ، وكلّ رسول يقول لقومه : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}( النساء : 36 ) ، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ( الأعراف : 59 ) ، فلابد من الجمع بين الأمر بالتوحيد والنّهي عن الشّرك.
الهوامش والإحالات :
===========
.(1) - عبد العزيز بن عبد الله الراجحي : " أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر " ، ص : 53 ، مصدر الكتاب : موقع الإسلام ، http://www.al-islam.com
(2) - عبد المنعم مصطفى حليمة " أبو بصير الطرطوسي " : " الطَاغُوت " ، ص : 35 ، المصدر : www.abubaseer.bizland.com
(3) - عبد المنعم مصطفى حليمة " أبو بصير الطرطوسي " : " الطَاغُوت " ، ص : 37 ، المصدر : www.abubaseer.bizland.com
(4) - أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ( 700 -774 هـ ) : " تفسير القرآن العظيم " ، تحقيق : سامي بن محمد سلامة ، دار طيبة للنشر والتوزيع ، ط2 ، 1420هـ / 2000م ،
(5) - أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني : محمد بن عبد الوهاب وآخرون : " مجموعة التوحيد " ، مكتبة دار البيان – دمشق ، 1407 – 1987 ، ج10 ، ص : 35 ،
(6) - عبد المنعم مصطفى حليمة " أبو بصير الطرطوسي " : " الطَاغُوت " ، ص : 38-39 ، المصدر : www.abubaseer.bizland.com
(7) - عبد المنعم مصطفى حليمة " أبو بصير الطرطوسي " : " الطَاغُوت " ، ص : 7-34 ، المصدر : www.abubaseer.bizland.com
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: