د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5028
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحلقة الثانية :
كلمـــات :
- " إن التذكير بالله ، والتآخي في الله من أهم القربات ومن أفضل الطاعات ، وهو من التناصح والتعاون على البر والتقوى، ومن التواصي بالحق الذي أثنى الله على أهله، وأخبر أنهم هم الرابحون " ( العلامة ابن باز رحمه الله ) ،
- " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية كبيرة ، وتكليف شاق ؛ لأنه ليس مجرد ألفاظ تردّد أو كلام يقال ، وليس مجرد أمر ونهي ، وإنّما هو إصلاح ، وتغيير للمحتوى الداخلي للإنسان ، وصياغة جديدة للأفكار والعواطف والسلوك " ( كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – مركز الرسالة ) ،
---------------------------------------------------------
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،
أما بعــد :
وما يزال الحديث موصولا حول قول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }( الذاريات : 55 ) ، وفي رحاب تلك الآية الكريمة وظلالها الوارفة تناولنا في الحلقة السابقة كيف أن الآية الكريمة تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم ، باعتباره الرسول المصطفى للبلاغ عن الله تعالى ، إلا أنها تكشف النقاب عن أن من أهم سمات هذه الأمة المحمدية ، وأبرز خصائصها أنها " أمة داعية " تحمل هم البلاغ وإيصال الدعوة والرسالة الخاتمة إلى الناس جميعا ، بعد نبيها الخاتم صلى الله عليه وسلم ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وبينا كيف أن الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم ، برهم وفاجرهم في حاجة ماسة إلى الدعوة والتذكير ، والنصح والوعظ والإرشاد في كل عصر ومصر ، وفي كل مكان وزمان ، طالما أن الإنسان بفطرته ينسى ويغفل ، وهو مجبول على الغفلة والنسيان ، ولا علاج لهذا النسيان وتلك الغفلة إلا بالدعوة المستمرة ، والتذكير الدائم على منهج القرآن الكريم ، وفي هذه الحلقة نكمل وقفاتنا في رحاب تلك الآية الكريمة :
ثالثا : أن التذكير( والتنبيه والوعظ والإرشاد ) هو منهج عام لرسالات السماء عموما :
فالتذكير هو المنهج الذي يقوم عليه دين الله ، ومن أجله كانت وتعددت رسالات السماء في شتى مراحل التاريخ ، وتحمل الرسل عبء هذا المنهج ، ليذكروا البشر بأبعاد الهداية ، ويدلوهم على مواطن الخير في وحي الله ودين السماء ، ليستطيع الإنسان تحقيق الرسالة التي أرادها الله له في هذا الوجود ، وتدرك هذه الأهمية البالغة للتذكير عندما تقلب صفحات الكتاب العزيز ، إذ يستوقفك في مجال الدعوة إلى التذكير أن يدعو رب العالمين نبيه ومصطفاه محمدا عليه الصلاة والسلام إلى أن يذكر ويتذكر ، أما التذكير فهو جوهر مهمته ومناط رسالته ، ولذا وجهه الله تعالى إليه في مواطن كثيرة ، وأرشده إلى وسائل شتى يستعين بها في تذكيره ، إذ يقول الله تعالى :
- { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} ( ق : 45 ) ،
- { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ( الذاريات : 55 ) ،
- { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ}( الطور : 29 ) ،
- { فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } ( الأعلى : 9 ) ،
- { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ } ( الغاشية : 21 ) ،
- { وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } ( الأنعام : 70 ) ،
وفي الآية الأخيرة دعوة إلى التذكير بالقرآن مخافة أن ينتهي أمر القوم إلى الهلاك ، بما أسلفوه من بغي وانحراف (1) ،
كما أن التذكير الذي هو مهمة ورسالة لم يكونا مقصورين على خاتم الأنبياء وحده ، فهذا أمر الله لنبيه عيسى عليه السلام بالتذكر ، إذ يقول له : { اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ }(مريم : 110 ) ، وهذا أمر آخر لنبيه موسى بالتذكير: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ } ( إبراهيم : 5 ) ، ويحدثنا القرآن عن عتاب نوح عليه السلام لقومه الذين ساءتهم الدعوة إلى الله والتذكير بآياته : { يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ } ( يونس : 71 ) ،
هذا ويصف الله تعالى أنبياءه إبراهيم وإسحاق ويعقوب بصفة اختصهم بها ، وهي تذكرهم لدار الجزاء { إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } ( ص : 46 ) ،
فرسل الله جميعا ذكروا فتذكروا ، وقاموا بواجب التذكير كما أمرهم الله ، وإن لم تنسب إليهم الألفاظ صراحة بهذه الكثرة كخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم (2) ،
والدعوة إلى التذكر في القرآن ملحة تهزعقول البشر هزا عنيفا ، وتزيح أستار الغفلة التي تلقيها عليها بين الحين والحين نوازع النفوس ومغريات الحياة ، وذلك ليعود للعقل البشري صفاؤه ، فيستجيب لدعوة الله ، ويذعن لرسالة الحق ، تبدو قوة هذه الدعوة إلى التذكر في الأسلوب التي عرضت به الآيات الداعية إليه ، إذ في ستة مواطن من القرآن الكريم وردت الدعوة بهذه الصورة : {أفلا تذكرون }، التي تتضمن استنكار الغفلة الصارفة عن استحضار العبرة عندما تمر آية ، أو يلم حدث ، أو يطوف بالحياة أمر ذو شأن ، والذي يلفت النظر ، ويشد الانتباه أن هذه المواطن الستة تدور كلها حول التوحيد وتوطيد العقيدة الصحيحة للإسلام في نفوس البشر ، ففي محاجّة إبراهيم لقومه يؤكد لهم أنه لا يخشى إلا الله ، ثم يقول : { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ }( الأنعام : 80 – 81 ) ،
رابعا : أن الذين ينتفعون بالموعظة والتذكير هم أهل القلوب المؤمنة ، أو الذين كتب الله لهم الإيمان ولديهم الاستعداد للهداية والاستقامة :
فإن النصح والإرشاد ، والدعوة والتذكير والتوجيه والموعظة كل ذلك إنما يؤتي ثماره المرجوه ، ويحقق النفع المستهدف إذا كان الطرف المستقبل ( والمستهدف ) مستعدا قابلا للاستجابة والقبول ، فَإِنَّ الذِّكْرَى إنما تَنْفَعُ القُلُوبَ المُوقِنَةَ التي فِيها اسْتِعْدَادٌ للهِدَايةِ ، وهو ما نفهمه من قوله تعالى : " فإن الذكرى تنفع المؤمنين " أي أن الذي ينتفع بالموعظة هم أهل القلوب المؤمنة المقبلة على الله تعالى ، كما في قوله تعالى : {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }( البقرة : 269 ) ، والمعنى : وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من كان له لب وعقل يعي به الخطاب ، ومعنى الكلام ، وهنا ثمة إشارة ضرورية تتمثل في أن الدعوة إن كانت موجهة - في الأصل - لغير المؤمن فإن الذين سينتفعون بها هم أولئك الذين قدّر الله سبحانه وتعالى إيمانهم وهدايتهم ، أي أنها تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان ، وأما أولئك الذين علم الله أنهم لا يؤمنون ، وختم على قلوبهم فلا نصيب لهم في الانتفاع بها ، كقوله تعالى : {وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }( يس : 10 ) ، أي : يستوي عند هؤلاء الكفار المعاندين تحذيرك لهم -أيها الرسول- وعدم تحذيرك, فهم لا يصدِّقون ولا يعملون ، وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }( البقرة : 6 ) ، إنهم لن يقع منهم الإيمان , سواء أخوَّفتهم وحذرتهم من عذاب الله, أم تركت ذلك ، لإصرارهم على باطلهم ،
أما إذا كانت الدعوة موجهة إلى المؤمنين فإنها تزيدهم إيمانا وتثبيتا وبصيرة وقوة في اليقين والعلم ، هذا ويكون التذكير بالقرآن والسنة ، ويكون بالموعظة الحسنة ، ويكون بالثواب والعقاب ،
هذا ويؤكد القرآن الكريم أن التذكر أو الانتفاع بالذكرى والاستفادة من التذكير لون من السلوك الأقوم لا يتيسر لكل الناس وإنما لأنماط معينة من البشر:
- من هم على درجة من العقل الراشد ، واللب النابه ، والبصيرة النافذة ، ولذلك بين القرآن الكريم في عدة مواضع ما يفيد أن التذكر مقصورعلى أولي الألباب وذوي البصيرة والعقول مثل قوله تعالى : { وما يذكر إلا أولوا الألباب } ( البقرة : 269 ، آل عمران : 7 ) ، ومثل قوله تعالى : { .... لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }( البقرة164 ، الرعد : 4 ، النحل : 12 ، 67 ، الروم : 24 ، 28 ، ) ، ومثل قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } ( ق : 37 ) ،
- من هم على صفة الإيمان أو التقوى أو العبادة أو الإنابة ، وهذه الصفات هي من أرفع المستويات التي يصل إليها المسلمون بإسلامهم ، وهذه الصفات ليست متباينة ، وإنما هي مترابطة متآخية ، ولا تتحقق- بصدق- إحداها إلا إذا تحققت أخواتها ، فلا إيمان بدون تقوى ، والعبادة جوهرهما ، والإنابة تضفي عليهما حيوية العقيدة ، وعمق تأثيرها ، وأكثر هذه الصفات ارتباطًا بالذكر والتذكر صفة التقوى ، لأنها تقوم على مراقبة الله وخشيته ، ومن هنا كان المتقون أكثر الناس ذكرا لله وتذكرا لآياته ، ففي ارتباط الذكر بالتقوى وردت ثماني آيات تؤكد أن التذكر صفة لازمة للتقوى مثل قوله تعالى :{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا }( الأعراف : 201 ) ، وقوله تعالى : { إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } ( طه : 3 ) ،
وجاءت ثلاث آيات تؤكد ارتباط التذكر بعقيدة الإيمان وهي : ( هود : 12 ، العنكبوت : 51 ، السجدة : 15 ) ،
وفي علاقة الإنابة بالذكر ، يقول تعالى : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَـزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ } ( غافر : 13 ) ، ويقول أيضا : { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } ( سبأ : 9 ) ،
وفي ارتباط العبادة بالذكر يقول الله تعالى : { رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } ( الأتبياء : 84 ) ،
والذاكر هو الذي يتذكر ، وهذا الارتباط لغوي وقرآني أيضا ، إذ يقول تعالى: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } ( هود : 114 ) ، (3) ،
خامسا : أن من آداب الدعوة والتذكير التخول بالموعظة والبعد عن التطويل والإملال :
إن على الدعاة وأهل الوعظ والإرشاد مراعاة أحوال المدعوين ، واختيار الأوقات الملائمة للوعظ والتذكير التي يكونون فيها على استعداد لتقبل الموعظة والتفاعل مع ما يقال لهم ، ولذلك يروى عَنْ أبِي وَائِل أنه قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللهِ ( أي بن مسعود رضي الله عنه ) يُذَكِّرُنَا كُلَّ يوْم خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُل : يَا أبَا عَبْد الرَّحْمَنِ ، إنَّا نُحِبُّ حَديثَكَ وَنَشْتَهِيه ، ولوَددْنَا أنَّكَ حَدَّثْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ ، فَقَالَ : مَا يَمْنَعُنِي أن احَدّثَكُمْ إلا كَرَاهَيَةُ أنْ أمِلَّكُمْ ، إنًّ رَسُوًا للهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَخَولنَا بِالمَوْعِظَةِ فِي الأيَّام ، كَرَاهِيَةَ السئَآمَةِ عَلَيْنَا " (4)
وقيل في معنى ( يتخولنا ) : أي يتعاهدنا ، وقيل : يصلحنا ، والساَمة : الملالة ، أي أنه كان يخشي أن يملوا ويسأموا من إطالة الحديث وتكراره ، وفي ذات المعنى يروى أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت لعبيد بن عمر : " إياك وإملال الناس وتقنيطهم ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : حدث القوم إذا أقبلت عليك قلوبهم ، فإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم ، قِيلَ : وما علامة ذلك ؟ قَالَ : إذا حدقوك بأبصارهم فقد أقبلت عليك قلوبهم ، فإذا اتكيء بعضهم على بعض وتثاءبوا فلا تحدثهم " (5) ،
وهذا من أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ففي حديث عمار بن ياسر : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بقصر الخطبة ، وكان يخطب بكلمات طيبات قليلات ، وقد كره التشدق والتفيهق " (6) ،
ومن المعلوم في المنظور الإسلامي أن أهل العلم يكرهون من المواعظ ما ينسي بعضه بعضا لطوله ، ويستحبون من ذلك ما وقف عليه السامع الموعوظ فاعتبره بعد حفظه له ، وذلك لا يكون إلا مع القلة ، والقاعدة الذهبية تقول : " ما قل وكفى خير مما كثر وألهى " ،
ولا شك أن البلاغةُ في الموعظة والتذكير مطلوبة ومستحسنةٌ ، لأنَّها أقربُ إلى قَبولِ القلوب واستجلابها ، والبلاغةُ : " هي التَّوصُّل إلى إفهام المعاني المقصودة ، وإيصالها إلى قلوب السامعين بأحسنِ صُورةٍ مِنَ الألفاظ الدَّالَّة عليها ، وأفصحها وأحلاها للأسماع ، وأوقعها في القلوب " ، وكما أسلفنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من هديه الشريف أن يقصر خطبته ، ولا يُطيلُها ، بل كان يُبلِغُ ويُوجِزُ ،
وفي " صحيح مسلم "(7) عن جابر بنِ سمُرة قال : كنتُ أُصلِّي معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فكانت صلاتُه قصداً ، وخطبته قصداً " ، وخرَّجه أيضا أبو داود (8) ، وإسناده حسن من أجل سماك بن حرب ، ولفظه : " كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُطيلُ الموعظةَ يومَ الجمعة ، إنَّما هو كلمات يسيرات " ،
وخرَّج مسلم (9) من حديث أبي وائل قال : " خطبنا عمارٌ فأَوْجَزَ وأَبْلغَ ، فلما نزل ، قلنا : يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت ، فلو كنت تنفَّستَ ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ طُولَ صلاةِ الرَّجُلِ ، وقِصَر خُطبتِهِ ، مَئِنَّةٌ (10)
من فقهه ، فأطيلوا الصَّلاة ، وأقصروا الخطبة ، فإنَّ من البيان سحراً " ،
سادسا :من القواعد الهامة في التذكير أن يكون بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والقول اللين ، وضرب الأمثال :
لقد علمنا القرآن الكريم ، وسنة نبينا الأمين أن من أنجع الوسائل للدعوة والتذكير والوعظ والإرشاد أن يكون ذلك بالحكمة ، والقول اللين ، والموعظة الحسنة ، وضرب الأمثال التي تجسد المعاني ، وتقرب المفاهيم إلى أذهان الناس ووعيهم ، فانظر كيف كانت وصية الحق جل جلاله لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في مقام الدعوة والإرشاد والتذكير إذ يقول جل جلاله : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }( النحل :125 ) ، والمعنى كما جاء في بعض التفاسير : ادعُ -أيها الرسول- أنت ومَنِ اتبعك إلى دين ربك وطريقه المستقيم, بالطريقة الحكيمة التي أوحاها الله إليك في الكتاب والسنة, وخاطِب الناس بالأسلوب المناسب لهم, وانصح لهم نصحًا حسنًا, يرغبهم في الخير, وينفرهم من الشر, وجادلهم بأحسن طرق المجادلة من الرفق واللين. فما عليك إلا البلاغ, وقد بلَّغْتَ, أما هدايتهم فعلى الله وحده, فهو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله, وهو أعلم بالمهتدين (11) ،
فالأصل في الدعوة إلى الله تعالى كما بين القرآن والسنة هو أن تقوم على أسلوب الحكمة واللين و الرفق و المداراة والموعظة الحسنة ، أما الشدة و الغلظة فهما استثناء له موضعه ، وله ظروفه ، و لكن ليس هو القاعدة العامة ، ولا الأصل الجامع ،
وانطلاقا من هذه الآية قالوا : (12) " يجب على المسلم أن ينتبه إلى شيئين مهمين جدا هما :
- لقد أمر الله في كتابه بالحكمة و الموعظة الحسنة و بالجدال بالتي هي أحسن:{ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن}، وليس في واحدة من هذه الثلاثة الشدة و الغلظة ، بل كلها تدل على اللين و الرفق و المداراة و الرحمة ،
- هذا يقتضي أن الناس ثلاثة أصناف : العلماء العقلاء الذين تكون دعوتهم بالحكمة والعلم و الحوار الهاديء و تبليغ الحجة ، و الصنف الثاني : أصحاب القلوب الطيبة المتذكرة ، الذين أبعدهم الجهل أوالغفلة عن طريق الله ، فهؤلاء يتم دعوتهم بالموعظة الحسنة التي هي التذكير بالترغيب والترهيب والوعظ و القصص ،
و الصنف الثالث : هو من عنده شبهة و نوع علم أو جهل مركب ، فهؤلاء يتم دعوتهم بالمجادلة بالتي هي أحسن، بنقض قواعدهم ، و بيان عوار مذهبهم ، و قرع الحجة بالحجة ،
وهكذا فلا الناس كلهم يحتاجون إلى الحكمة، و لا الناس كلهم يحتاجون إلى الموعظة، ولا الناس كلهم يحتاجون على الجدال بالتي هي أحسن، و إن كان الغالب منهم بحاجة إلى الوعظ لأن الغالب هم العوام ،
وهذه الحقيقة تقودنا إلى نتيجة هامة جدا : وهي أن من التزم أسلوب النقض و الرد و الجدال وحده ، فلا شك أن قسما كبيرا من الناس لن يقبل على علمه ، فإما يُنوِع في خطابه للناس، وإما يترك القائمين بالخطابات الأخرى يقومون بدورهم، ولا يعكر عليهم مالم يكونوا دعاة إلى ضلالة ، فليس كل الناس يخالف الحق لسوء القصد و سوء النية ، ولا كلهم يخالفه لفساد التصور وعدم العلم، فلا يجب أن يخلط بين الأمرين " ،
كما قال تعالى لبني إسرائيل : { ....وقولوا للناس حسنا ... }( البقرة : 83 ) ، أي وقولوا للناس قولا ذا حسن ، أي أطيب الكلام وأحسنه ، قال القرطبي حمه الله في تفسيره (13) : " فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ، ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع ، من غير مداهنة ، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه ، لان الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }( طه : 44 ) ، فالقائل ( أي الداعية والناصح والمرشد والمذكر ) ليس بأفضل من موسى وهارون ، والفاجر ( المدعو ) ليس بأخبث من فرعون ، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه ، وقال طلحة بن عمررحمه الله : قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة ، وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ ، فقال : لا تفعل! يقول الله تعالى:" وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً". فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي ، وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لعائشة : " لا تكوني فحاشة فإن الفحش لو كان رجلا لكان رجل سوء " ،
يتبــــع إنشاء الله ،
***************
الهوامش والإحالات :
===========
(1) - السيد رزق الطويل : " دراسة لغوية ومنهج جديد في تفسير الكتاب الحكيم " ، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والافتاء ، ج 13 ، رجب - شوال لسنة 1405هـ ، ص : 167 ،
(2) – نفس المرجع السابق : ص : 165- 166 ،
(3) - نفس المرجع السابق : ص : 169 – 170،
(4) - العلامة القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي ( ت :544 هـ ) : " إكمال المعلم شرح صحيح مسلم " ، ج8 – ص : 178، المصدر: موقع شبكة مشكاة الإسلامية ، http://www.almeshkat.net/
(5) - البيهقي : " الآداب " ، ج1 ص 185، المصدر: موقع مكتبة صيد الفوائد ، http://www.saaid.net/book/index.php
(6) - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري : " الاستذكار " ، تحقيق : سالم محمد عطا ، محمد علي معوض ، دار الكتب العلمية – بيروت ، الطبعة الأولى ، 1421 هـ - 2000م ، ج2 ، ص : 364 ،
(7) أنظر : " صحيح مسلم " : 3/11 ( 866 ) ( 41 ) و( 42 ) .
(8) – أنظر سنن أبي داوود : ( 1107 )
(9) – صحيح مسلم : 3/12 ( 869 ) ( 47 ) ،
(10) قال البغوي في " شرح السنة " عقيب الحديث ( 1077 ) : " أي علامة ، فهي على وزن مَفْعِلة ، والميم زائدة ، كقولهم : مخلفة ، ومعناه : أنَّ هذا مما يستدل به على فقه الرجل "
(11) - عبد الله بن عبد المحسن التركي (إشراف ) : " التفسير الميسر " ، إعداد : مجموعة من العلماء ، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ، المصدر : موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
http://www.qurancomplex.com
(12) – عبد القادر ابن احمد : " الرفق و اللين في الدعوة من منهج أهل السنة و الجماعة " ، المصدر :
http://majles.alukah.net/showthread.php?3263
(13) - أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (المتوفى : 671هـ) : " الجامع لأحكام القرآن " ، تحقيق : أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش ، دار الكتب المصرية – القاهرة ، ج2 ، ص : 16
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: