صيدلية القرآن – ما شاء الله لا قوة إلا بالله (5-4)
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6902
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الحمد لله رب العالمين ، الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، وصفيه من خلقه وحبيبه ، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلانية ، في السراء والضراء ، في العسر واليسر ، فإن الله تعالى أمرنا بها وشدد الأمر فبعد أن حدثنا الله تعالى في سورة الطلاق عن أولئك الجبابرة والطغاة الذين عتوا عن أمر ربهم وكيف كان عاقبة كفرهم وعنوهم هلاكا وخسرانا مبينا ، قال تعالى : {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً }( الطلاق : 10 ) ، والآية تبين كيف أن الله تعالى أعدَّ لهؤلاء القوم الذين طغَوا , وخالفوا أمره وأمر رسله , عذابًا بالغ الشدة يوم القيامة , ثم أمر بالتقوى فقال : "فاتقوا الله " أي فخافوا الله واحذروا سخطه ، يا أصحاب العقول الراجحة الذين صدَّقوا الله ورسله وعملوا بشرعه ، قد أنزل الله إليكم- أيها المؤمنون- ذكرًا يذكركم به, وينبهكم على حظكم من الإيمان بالله والعمل بطاعته.
الإخوة الأحباب ،
ونستكمل – بعون من الله تعالى - مسيرتنا مع قصة " صاحب الجنتين " في سورة الكهف من القرآن الكريم ، منها نستلهم الدروس والعبر ، ونتعرف على الفرق الشاسع والبون الواسع بين الكفر والإيمان ، وبين الشكر والجحود ، وبين التوحيد والشرك ، وبين التواضع والكبر ، وبين اليقظة والغفلة ، وبين التذكر والنسيان ، وبين أنوار الهداية وظلمات الضلالة ، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم جميعا من الهداة المهتدين المهديين ، وأن يباعد بيننا وبين سبيل الضالين والمضلين ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ،
وقفنا في اللقاء السابق مع قصة " الغرور البشري " حين يتملك بالإنسان و يستبد به فيضرب على قلبه ، ويطمس بصيرته ، ويحسب أنه على شيء ، وما هو في الحقيقة بشيء ولا على شيء ، وتحدثنا عن نصيحة العبد المؤمن للكافر الذي غره ماله ، وغرته ثروته وعزوته وعشيرته والتفاف الناس حوله ، فرأينا ماذا قال له المؤمن الفقير الذي لا يكاد يملك قوت يومه من متاع الدنيا الزائل ، لكن الله تعالى أنار بصيرته ، وأحيى قلبه فرأى الأمور على حقيقتها ، ورآها كما ينبغي أن يراها ، رأى الدنيا وشهواتها وملذاتها وزينتها كما هي في الحقيقة ، رأى متاعها الفاني ونعيمها الزائل فلم ينخدع ، ولم يغتر ، فقال لصاحبه الكافر المغرور المتكبر كما بين الله تعالى في القصة : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ( أي المؤمن ) وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً{37}( الكهف ) ، فبين له حقيقة موقفه ، وحقيقة غروره ، وعرفه بأصله ومن أين جاء وكأنبه تعاتبه ويؤنبه على جرأته على الله وكفرانه بالنعمة : كيف تكفر بمن خلقك فسواك ، وأعطاك من فضله وحباك ، وعلى موائد كرمه رباك ؟ كيف تكفر يا من خلقت من تراب ؟ !!! ، أيجدر بمن كان أصله من التراب أن يتعالى ويتكبر!!!!، كيف تتكبر يا من خلقت من نطفة من ماء مهين ؟ ، كيف تكفر بربك ؟ ، وتتكبر على خلقه وأنت من التراب جئت وإلى التراب تعود ،
هكذا كان رد المؤمن وجوابه على عجرفة الكافر وغروره وتعاليه ، وجحوده لفضل الله عليه ، ونعمه التي أولاه إياها ، وكان الجواب في حقيقته عبارة عن جرعة علاج مكثفة لداء الكبر والغرور ، فجاء كلام المؤمن عظة له ، وزجرا شديدا له عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ ، وَالغَيِّ ، وَالاغْتِرَارِ : أَتَكْفُرُ بِاللهِ الَّذِي خَلَقَ الإِنْسَانَ في الأصل من التراب الذي يداس بالأقدام ، نعم خلقه مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً قَوِيّاً بَالِغاً؟
قال صاحب أضواء البيان : " وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } ( الكهف : 37 ) بعد قوله عز وجل : { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } ( الكهف : 36 ) يدل على أن الشك في البعث كفر بالله تعالى ، وقد صرح القرآن الكريم بذلك في أول سورة ( الرعد ) في قوله تعالى : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ }( الرعد : 5 ) (1) ،
وهكذا كما رأينا فإن عددا من الدروس يمكن للمؤمن أن يستفيدها وينتفع بها من تلك الآية الكريمة منها :
- ذلك التنديد الشديد بالكبر والغرور حيث يفضيان بصاحبهما إلى الشرك والكفر لا محالة ،
- أن خلق آدم عليه السلام من تراب متضمن لخلق أولاده منه ، إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس ، انطواءً مجانسًا مُستتْبعًا لجريان آثارها على الكل ، فكان خلْقُه عليه السلام من تراب خلقًا للكل منه ،
- أن في الآية تلويح بدليل البعث يوم القيامة ، وهو ما نطق به قوله تعالى : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } ( الحَجّ : 5 ) ، قال البيضاوي : جعل كفره بالبعث كفرًا بالله ، لأنه منشأ الشك في كمال قدرة الله ، ولذلك رتَّب الإنكار على خلقه إياه من التراب ، فإن مَنْ قدر على إبداء خلقه منه قدر أن يعيده منه (2)
* درس في التوحيد الخالص لله والتبرؤ من الشرك :
واليوم أيها الإخوة مع درس آخر من دروس هذه القصة وهو درس في قيمة التوحيد ، ومغبة الشرك ، حيث يتابع الرجل المؤمن حديثه ونصائحه ودروسه النافعة للكافر ولكل من كان على شاكلته ، فبعد أن قال له متعجبا منكرا عليه ما وقع فيه قائلا : " أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا " ، استمر قائلا له : { لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً{38}( الكهف ) ،أي لكن أنا لا أقول بمقالتك الدالة على كفرك وعنادك ، وإنما أقول : المنعم المتفضل هو الله ربي وحده ، ولا أشرك في عبادتي له أحدًا غيره ، نعم فأنا أعلنها عالية مدوية أني مؤمن بالله تعالى ، أعترف له بالعبادة والطاعة والذلة والخضوع والتسليم ، وأقول : هو الله - تعالى - وحده ربى ، ولا أشرك معه أحدا من خلقه لا فى الربوبية ، ولا فى الألوهية ، ولا فى الذات ولا فى الصفات ، وإن كنت أنت إن كنت تفاخر بالدنيا وزينتها ونعيمها وحطامها فأنا أفاخر بالتوحيد الخلص لله تعالى ،
نعم أنت كافر!!! لكن أنا لست بكافر! بل أنا مؤمن موحد مخلص عبادتي لربي الذي خلقني ، فهو وحده الذي يستحق مني أن أعبده وحده ، وأن أخضع له وحده ، لأن المخلوق المحتاج مثلي إلى خالق يخلقه ، تلزمه عبادة خالقه كما تلزمني ، ونظير قول هذا المؤمن ، ما جاء في قوله تعالى في سورة " يس " : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي } ( يس : 22 ) أي أبدعني وخلقني وإليه ترجعون ، وفي قوله عن إبراهيم عليه السلام : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } ( الشعراء : 77-78 ) الآية ، وقوله عز وجل : { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي } ( الزخرف : 26-27 ) الآية ، وقوله في هذه الآية الكريمة : { لكنا } اصله « لكن أنا » فحذفت همزة « أنا » وأدغمت نون « لكن » في نون « أنا » بعد حذف الهمزة (3)
* ومن الدروس المستفادة في هذا الصدد :
- تقريرعقيدة التوحيد والبعث والجزاء ، " هو الله ربي " ، والتبرؤ من الشرك وإنكاره " ولا أشرك بربي أحدا " ، وأنه لا مستحق للعبادة بحق إلا الواحد الديان جل جلاله ،
- الصدع بالحق في وجه الباطل ، وإعلانه بكل شجاعة ووضوح ، دون أن يخشى المؤمن في الحق لومة لائم ، ولا إعراض معرض ، ولا تهديد مهدد ما دام يعلم أنه على الحق ،
- أن المؤمن الحق يرى في إنعام الله عليه محض ابتلاء من الله ، تماما كما حكى القرآن على لسان نبي الله سليمان عليه السلام : {......... قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }( النمل : 40 ) ، وأن علي المنعم عليه أن يشكر الله تعالى على جزيل نعمه ، كما أن إيمانه بالله تعالى يجعله موقن بأن الله تعالى وحده المنعم المتفضل على عباده ، ولا يرى الغنى والفقر إلا من الله تعالى ، فهو سبحانه يفقر من يشاء ويقدر عليه رزقه ، ويغني من يشاء ويوسع له في الرزق ، ولا يرى الاستحقاق الذاتي على خلاف ما يظنه الكافر المغتر بنفسه وماله ،
- أن الآية تضمنت ذكر جليل ، إذ أخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت : " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن عند الكرب : الله ربي لا أشرك به شيئاً "
- أننا نلاحظ في القصة أن الكافر ( صاحب الجنتين ) لم يَقُلْ : الله ربي ، ولم ينطق بها لسانه في كل مجريات القصة وأحداثها ، وإنما جاءتْ كلمة " ربي " على لسانه – حينما جاءت - في معرض الحديث حيث جاءت مرتين : الأولى عندما دخل جنته وفرح بها ، وهو قوله " ولئن رددت إلى ربي " ، والثانية عندما أصابه الندم على هلاك جنتيه فقال " يا ليتني لم أشرك بربي أحدا " ، أما المؤمن فقال : " لكنا هو الله ربي " والفرْق كبير بين القولين ، قول المؤمن وقول الكافر ، لأن الربّ هو الخالق المتولّي للتربية ، وهذا أمر لا يشكّ فيه أحد ، ولا اعتراض عليه ، إنما الشكّ في الإله المعبود المطاع ، فالربوبية عطاء ، ولكن الألوهية تكليف ، لذلك اعترف الكافر بالربوبية ، وأنكر الألوهية والتكليف ،
- أن المؤمن لم يكتف بإعلان إيمانه للكافر فحسب ، ,وإنما يؤكد المؤمن إيمانه بإعلانه أنه يحذر الشرك ويتبرأ منه ويتجنبه ولا يرضي به فيقول : { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } ( الكهف: 38 ) ، لأنه يعلم مغبة الشرك وخطره ، ويكفي ما جاء في القرآن الكريم في مواضع يصعب حصرها في شأن التحذير من الشرك وعاقبته ، فهو الذنب الوحيد الذي لا يغفره الله تعالى ، فالشرك إثم عظيم ، وضلال بعيد ، قال سبحانه : {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً }( النساء : 48 ) ، وقال في موضع آخر : {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً }( النساء : 116 ) ، ويؤكد القرآن الكريم أن الله تعالى حرم الجنة على المشركين ، وجعل النار مأواهم يوم القيامة ومستقرهم : {..... إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ }( المائدة : 72 ) ، وقال جل جلاله : {...... وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }( الحج : 31 ) ،
هنا نلحظ أمرا هاما ، وهو أن العبد المؤمن لم يكتفِ بأن أبانَ لصاحبه ما هو فيه من الكفر والضلال ، بل أراد أنْ يُعدّي إيمانه إلى الغير، فهذه طبيعة المؤمن أنْ يكون حريصاً على هداية غيره ، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه ، لذلك بعد أنْ أوضح إيمانه بالله تعالى ، أراد أن يُعلِّم صاحبه كيف يكون مؤمناً ، وأيضاً من العقل للمؤمن أن يحاول أن يهدي الكافر، لأن المؤمن صُحح سلوكه بالنسبة للآخرين، ومن الخير للمؤمن أيضاً أن يُصحِّح سلوك الكافر بالإيمان ، لذلك من الخير بدل أنْ تدعوَ على عدوك أن تدعو له بالهداية ، لأن دعاءك عليه سيُزيد من شقائك به ، وها هو العبد المؤمن يدعو صاحبه إلى الخير ويحثه عليه ، فيقول: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ... } أي لا قوة لأحد على فعل شيء أو تركه ، إلا بإقدار الله تعالى له وإعانته عليه ، قال المؤمن هذا نصحاً للكافر وتوبيخاً وتأنيبا له على موقفه الجاحد لنعم الله عليه ،
- ولقد قال بعض السلف : " من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل : { مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } ، وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة ، وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد ، فيقول : { مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } فيرى فيه آفة دون الموت " ، وكان يتأول هذه الآية : { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } (ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (4525) ، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا قوة إلا بالله" ، (4) ،
وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" (5) ،
وأخرج الإمام أحمد عن عَمْرو بن ميمون قال : قال أبو هريرة : قال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا هريرة ، أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟". قال : قلت : نعم ، فداك أبي وأمي ، قال : " أن تقول لا قوة إلا بالله " قال أبو بَلْج : وأحسب أنه قال : " فإن الله يقول: أسلم عبدي واستسلم " ، قال : فقلت لعمرو - قال أبو بَلْج : قال عَمْرو : قلت لأبي هريرة : لا حول ولا قوة إلا بالله؟ فقال : لا إنها في سورة الكهف : { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } (6) ، وقال صلى الله عليه وسلم : « من أعطى خيراً من أهل أومال فقال عند ذلك ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم ير فيه مكروهًا » ولفظ القرطبى عن أنس : " لم يضره " أى لم يضره الإعجاب أى لا يصيبه عين الإعجاب ، قال عمر بن قرة : من أفضل الدعاء قولك ما شاء الله ،
* الأمر كله بيد الله وحده :
وتنتقل الآيات الكريمات إلى درس آخر من دروس العقيدة يلقنه المؤمن للكافر إذ يقول العبد المؤمن : {.....ِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً{39} ، فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً{40} أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً{41}( الكهف ) ،إنه يريد أن ينبهه إلى حقيقة عقدية هي أن الذي يملك الأمر هو الله وحده ، فالذي أعطى ومنح ووهب هو الله ، والذي يمنع ويقدر هو الله ، وأوضح له تلك العقيدة قائلا له : وَإِنَّكَ – أيها المغرور بما منحه الله - إِذَا كُنْتَ تَرَانِي أَفْقَرُ مِنْكَ ، وَأَقَلُّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً ، فَإِنِّي أَرْجُو اللهَ – الذي بيده مقاليد السماوات والأرض - أَنْ يَقْلِبَ الآيَةَ ، فَيَجْعَلَكَ فَقِيراً ، قَلِيلَ المَالِ وَالوَلَدِ ، وَأَنْ يَرْزُقَنِي رَبِّي الغِنَى وَالوَلَدَ لإِيمَانِي وَإِخْلاَصِي للهِ ، وَأَنْ يَرْزُقَنِي جَنَّةً تَكُونُ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ، وَيَسْلُبَكَ بِكُفْرِكَ وتمردك وغرورك مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ ، وَيُخَرِّبَ جَنَّتَكَ بِأَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهَا مَطَراً ( أو صاعقة ) مِنَ السَّمَاءِ ، يُدَمِّرُ زُرُوعَهَا ، وَيَقْتَلِعُ أَشْجَارَهَا ، فَتُصْبِحُ بَلْقَعاً لاَ تُنْبِتُ شَيْئاً { صَعِيداً زَلَقاً }، قال بعض المفسرين أن معنى : " حُسْبَاناً " أي مَطَراً شَدِيداً أَوْ عَذَاباً كَالصَّوَاعِقِ وَالآفَاتِ والجراد وغيرها ، ومعنى " صَعِيداً زَلَقاً " أي بَلْقَعاً لاَ تُنْبِتُ شَيْئاً ، أَوْ رَمْلاً هَائِلاً يَزْلَقُ مَنْ يَسِيرُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَعُوزُ مَاؤُهَا ويذهب فِي الأَرْضِ وَيَتَوَارَى ، فَلاَ تَسْتَطِيعُ العُثُورَ عَلَيْهِ لإِخْرَاجِهِ لِسَقْيِها ،
- قال الإمام الشعراوي في الآية : " يريد أنْ يُعلمه سبيل الإيمان في استقبال النعمة ، بأنْ يردَّ النعم إلى المنعم ، لأن النعمة التي يتقلّب فيها الإنسان لا فضْلَ له فيها ، فكلها موهوبة من الله ، فهذه الحدائق والبساتين كيف آتتْ أُكُلها؟ إنها الأرض التي خلقها الله لك ، وعندما حرثْتها حرثْتها بآلة من الخشب أو الحديد ، وهو موهوب من الله لا دَخْلَ لك فيه ، والقوة التي أعانتك على العمل موهوبة لك يمكن أن تُسلبَ منك في أيِّ وقت ، فتصير ضعيفاً لا تقدر على شيء ، إذن : حينما تنظر إلى كُلِّ هذه المسائل تجدها منتهيةً إلى العطاء الأعلى من الله سبحانه ، فساعة أن تطالع نعمة الله كان من الواجب عليك ألاَّ تُلهيكَ النعمة عن المنعم، كان عليك أن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أي: أن هذا كله ليس بقوتي وحيلتي، بل فضل من الله فتردّ النعمة إلى خالقها ومُسديها، وما دُمْتَ قد رددْتَ النعمة إلى خالقها فقد استأمنْتَهُ عليها واستحفظته إياها، وضمنْتَ بذلك بقاءها ، وروي أن جعفر الصادق قال : " عجبتُ لمن طلب الدنيا وزينتها ـ صاحب الطموحات في الدنيا المتطلع إلى زخرفها ـ كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: { مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ.. } فإني سمعت الله بعقبها يقول:{ فعسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ }( الكهف: 40 ) ، فإن قلتها على نعمتك حُفظتْ ونمَتْ ، وإن قلتها على نعمة الغير أعطاك الله فوقها ، والعجيب أن المؤمن الفقير الذي لا يملك من متاع الدنيا شيئاً يدل صاحبه الكافر على مفتاح الخير الذي يزيده من خير الدنيا ، رغم ما يتقلّب فيه من نعيمها ، فمفتاح زيادة الخير في الدنيا ودوام النعمة فيها أن نقول: { مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ.. } (7) ، وهو ما أكدته السنة الشريفة ،
- وقال بعضهم في قوله : { قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } أي ما شاء الله في سابق علمه ، لا يقف عليه أحد إلا الله تعالى ، { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } أي لا قوة لنا على أداء ما أمرتنا به في الأصل ، والسلامة منه في الفرع ، والخاتمة المحمودة إلا بمعونتك ، وكذا تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : " لا حول ولا قوة إلا بالله " أي لا حول عن السلامة من الجهل في الأصل ، ومن الإصرار في الفرع إلا بعصمتك ولا قوة لنا على أداء ما أمرتنا به في الأصل والسلامة منه في الفرع والخاتمة المحمودة إلا بمعونتك ، وسئل سهل : ما أفضل ما أعطي العبد؟ قال : " علم يستزيد به افتقاراً إلى الله عزَّ وجلَّ " ، وجاء الأثر أنه يقال ذلك ( أي يقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) عند رؤية ما يعجبه فى بدنه أو ماله أو ولده ، أو فيما لغيره حفظًا عن العين والحسد ، ويفهم من بعض الروايات استحباب قول ذلك عند رؤية ما يعجب مطلقاً سواء كان له أو لغيره وإنه إذا قال ذلك لم تصبه عين الإعجاب (8) ،
- وفي قوله :{ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَدًا } استدل البعض بذكر الولد هنا ( ...وولدا ...) على أن النفر هنالك ( ...وأعز نفرا ...) هم الأولاد ، والرؤية هنا ( ...إن ترن ...) بصرية ، ووجه كونها بصرية مع أن القلة لا تبصر ( بضم التاء وفتح الصاد ) اعتبار متعلقها وهى الأولاد والأموال ، لأنهم يبصرون ،
يتبــــع إنشاء الله ،
*******************
الهوامش والاحالات
===========
(1) - محمد الأمين الشنقيطي : " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، الرياض ، 1983م ، ج19 ، ص : 165 ،
(2) - أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني أبو العباس : " البحر المديد " ، دار الكتب العلمية ـ بيروت ، الطبعة الثانية / 2002 م ـ 1423 هـ ، ج11 ، ص : 240 ،
(3) محمد الأمين الشنقيطي : " مرجع سبق ذكره " ، ج19 ، ص : 164 ،
(4) - أحمد بن حنبل : " المسند " ، تحقيق : شعيب الأرنؤوط وآخرون ، مؤسسة الرسالة ، ط2 ، 1420هـ ، 1999م ، ج2 ، ص : 469 ،
(5) - الحافظ أبي عبد الله بن محمد بن إسماعيل البخاري : " صحيح البخاري " ، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع ، ط3 ، 2010م ، الحديث رقم ( 6610) ،
(6) – أحمد بن حنبل : " مرجع سبق ذكره " ، ج2 ، ص : 335 ،
(7)- محمد متولي الشعراوي : " " تفسير الشعراوي " ، مطابع أخبار اليوم ، القاهرة ، ج 1 ، تفسير سورة الكهف ، الآية رقم : 39 ،
(8) – التستري : " تفسير التستري " ، ج1 ، ص : 305 ، مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
(9) - محمد سيد طنطاوي : " التفسير الوسيط للقرآن الكريم " ، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة – القاهرة ، 1977م ،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: