الدعوة والتذكير من أخص خصائص أمة البشير النذير -1- (*)
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5821
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كلمــات نيرة :
- قال تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }( فصلت : 33 ) ،
- وقال تعالى : {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }( يوسف : 108 ) ،
- وفي الحديث : " نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره ، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه ، و رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ....الحديث " ( صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ) ،
الحمد لله رب العالمين، أمرنا بالتناصح والتذكير، وأخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين الصالحين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، سبحانه سبحانه القائل جل جلاله :{وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }( هود : 120 ) ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، والمبلغ عن ربه البلاغ المبين ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد:
نحن هنا اليوم مستعينين بالله تعالى نعيش لحظات نصبر فيها أنفسنا ونحتسبها عند الله تعالى ، إنها لحظات الذكر والتذكر ، والتفكر والتأمل ، لحظات ستعرفون قيمتها غدا يوم العرض على الله تعالى ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، إليكم كلمات أعلم أنكم تعلمونها ولكنها الذكرى التي تنفع المؤمنين بإذن الله تعالى ، وهي كلمات محب لكم في الله أسأل الله أن يتقبلها وأن يجعلها في مرضاته :
وعملا بما جاء في كتاب الله تعالى ، ومن باب قول الله تعالى في آية نحفظها جميعا والحمد لله : { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } ( الذاريات : 55 ) ، فإنها آية إنشائية وخبرية ، أي أن فيها أمر وخبر ، الأمر : وذكر ، والخبر : فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، ترى من المخاطب مباشرة بهذه الآية ؟ وهل هناك من أحد غيره ، إنه أول المخاطبين بالقرآن الكريم ، إنه سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد الذي عليه أنزل القرآن ، يأمره ربه – ومن خلاله يأمر أمته التي نتشرف بالانتساب لها – أي يأمرنا جميعا نحن أتباع الحبيب المصطفى أن يكون لنا حظنا من القيام بمهمة الدعوة إلى الله تعالى ، وهداية الناس ، ودوام الموعظة والتذكير بالقرآن وهديه ، وما جاء فيه من أوامر ونواهي وقيم ومباديء وأخلاق ، وإقامة الحجة على المخالفين والمعرضين والغافلين ، وفي رحاب هذه الآية نتوقف أمام عدة نقاط نبرز أهمها ما يلي :
أولا : أمتنا أمة داعية :
مما لا شك فيه لكل ذي عقل سليم أن الأمم لابد لها من موجه يوجهها ، ودليل يدلها على طريق السداد ، وأمة محمد هي أفضل الأمم وأخصها بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير ، مقتدية بإمامها ورسولها محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك من أسباب سعادتها ونجاتها في الدنيا والآخرة . فالواجب على كل مسلم بقدر استطاعته ، وعلى حسب علمه ومقدرته ، أن يشمر عن ساعد الجد في الدعوة إلى الله ، وبذل النصح والتوجيه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تبرأ ذمته ويهتدي به غيره ، إمتثلا لأمر الله جل جلاله القائل : {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}
فالآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن الدعوة إلى الله هي مهمة العلماء وعموم الأمة المحمدية ، وثمة مثال نذكره لتوضيح هذا الأمر ، وتقريبه إلى الأذهان : فإن مهمة " كرات الدم الحمراء " – كما هو معلوم لدى الأطباء - توصيل الغذاء إلى باقى أجزاء الجسم ، ومهمة " كرات الدم البيضاء " مهاجمة الأعداء ( الجراثيم والفيروسات ) التى تريد الدخول إلى الجسم ، وكلاهما فى حركة دؤوبة مستمرة مما يعمل على تجديد الدم في جسم الإنسان ليظل سليما معافى ، وكذلك أمة النبى صلى الله عليه وسلم مأمورة بالحركة والدعوة والتوجيه والإرشاد حتى تقوم بإيصال الغذاء الروحى إلى البشرية جمعاء تماما كما تقوم كرات الدم الحمراء بإيصال الغذاء إلى جميع أجزاء الجسم ، والعلماء مثل كرات الدم البيضاء مهمتهم الدفاع عن الأمة فى حالة الدعوة ، وكلاهما أيضا فى حركة مستمرة مما يعمل على تجديد الإيمان عند الاثنين (1) ، ولا شك أن كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور، وفيه الدعوة إلى كل خير، وفيه التحذير من كل شر، وهكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الدعوة إلى كل خير والتحذير من كل شر ، ومن هنا فالدعوة إلى الله في جوهرها قائمة بالأساس عليهما معا الكتاب والسنة ،
نحن إذا " أمة داعية " والدعوة والتوجيه والإرشاد والتعريف بالله تعالى وكتابه وسنة نبيه سمة أساسية من سمات هذه الأمة ، وميزة من مميزاتها التي تتفرد بها على سائر الأمم الأخرى ، إنها " أمة داعية " ، باعتبار أن الإسلام هو خاتم الرسالات ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، ومن ثم فتقع على أمته مهمة الدعوة لهداية الناس من بعده ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ،
لقد جعل الإسلام الهدف الدنيوي الأرضي لرسالته هو إرساء مبدأ الحق ، وإقامة العدل في الأرض وإسعاد الإنسان عليها ، ولذلك وجه الإسلام وجوه أبنائه والداخلين فيه إلى العمل لخير الناس والإنسانية جمعاء ، ومن هنا فلقد أوجب على المسلمين جميعا الدعوة إليه كما قال تعالى : {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }( آل عمران : 104 ) ، قيل أن معنى { منكم } هنا : البدء لا التبعيض ، أي : لتكونوا أمة داعية إلى الخير ، كما نقول : ليكن منك رجل صالح ، أي : لتكن أنت رجلاً صالحاً ، فالإسلام يفرض على الأمة أن يكون من المؤمنون- جماعة تكون مهمتها نشر الخير والفضيلة في دنيا الناس أيا كانوا وحيثما وجدوا ، حيث تنتدب الأمة فريق منهم يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف, وهو ما عُرف حسنه شرعًا وعقلا وينهون عن المنكر, وهو ما عُرف قبحه شرعًا وعقلا ، وقال تعالى في موضع آخر : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }( آل عمران : 110 ) ، قيل أن معنى الآية أن المسلمين لم يكونوا خير أمة إلا بذلك ، فأنتم - يا أمة محمد - خير الأمم جميعا ، وأنفع الناس للناس , تأمرون بالمعروف, وتنهون عن المنكر ، وفي سبيل دعوة الناس – كل الناس – إلى الخير والهداية والصلاح والاستقامة أمر المؤمنين بالتحلي بالصبر وتحمل الأذى حتى لا ينفر الناس من هذا الدين واتخاذ الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن سبيلا ومنهجا إلى ذلك ، ومن هنا كان من الطبيعي أن تمتليء قلوب أتباع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم السائرين على نهجه المتخذين منه قدوة حسنة وأسوة طيبة بمحبة الخير للناس جميعا ، والرغبة في هدايتهم وإنقاذهم من ظلمات الشرك والكفر والإلحاد إلى نور الهداية والإسلام ، وأكرم بها مهمة ، وأنعم بها رسالة ، وعلى هذا فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى واجب حتم في الإسلام ، وأمانة في عنق كل مسلم حمل علماً ، وأمكنه الله من نشره وإبلاغه ، كما في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال " من رأى منكم منكراً؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه وذلك أضعف الايمان " ...... الحديث ( رواه مسلم ).
ومرة أخرى فإن من أخص خصائص الأمة المسلمة أنها أمة داعية إلى الله وإلى الحق وإلى الهدى وإلى الخير والعدل والحب والسلام ، ودعوتها هذه عامة لكل البشر مهما اختلفت أجناسهم وعقائدهم وألوانهم وألسنتهم وأجناسهم ، فالمسلم داع إلى الله عز وجل ، وإلى دين الإسلام أينما حل أو ارتحل ، وحيثما سار أو قام (2) ،
ولذلك قال الإمام السخاوي يرحمه الله : " فأما بيان المعاملة مع المشركين ، ( أي معاملة المسلمين مع غيرهم من الناس ) فنقول : الواجب دعاؤهم إلى الدين ، وقتال الممتنعين منهم من الإجابة ، لأن صفة هذه الأمة في الكتب المنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبها كانوا خير الأمم. قال الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ... الآية } ( آل عمران : 110 ) ، ورأس المعروف : الإيمان بالله تعالى وتوحيده وعبادته وطاعته ، فعلى كل مؤمن أن يكون آمرا به داعيا إليه ، وأصل المنكر الشرك بالله تعالى فهو أعظم ما يكون من الجهل والعناد لما فيه من إنكار الحق من غير تأويل ، فعلى كل مؤمن أن ينهى عنه بما يقدر عليه " (3) ، وحسب وسعه ،
لقد علمنا القرآن الكريم أن الله تعالى خلق الناس جميعا على فطرة التوحيد ، قال تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }( الروم : 30 ) ، فبين لنا كيف خلق أبانا الأول آدم نبياً مفطوراً على التوحيد، وفطر جميع ذريته على التوحيد، أي جعل التوحيد فطرةً في قلب كل إنسان مركوز فيه ، فجعله يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده الرب المعبود الذي يطلع على كل شيء، والذي يجب أن يتوجه إليه الإنسان بكل نوع من أنواع العبادة ، ولهذا كان كل مولود من آحاد الجنس البشري يولد على تلك الفطرة ، ثم بعد ذلك : {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه } أي أن المجتمع والبيئة والتربية تصرفه عن ذلك (4) ،
وتصديق ما ذكرنا قول الله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ }( الأعراف : 172 – 173 ) ، هكذا تقرر الآية الكريمة ، وتخبرنا أن الله تعالى أخذ الميثاق على بني آدم عندما كانوا في ظهر أبيهم آدم عليه السلام ، وكيف استخرج الله تعالى أولاد آدم وذريته جميعا ( في عالم الذر ) مِن أصلاب آبائهم , وقررهم بتوحيده بما أودعه في فطرهم من أنه ربهم وخالقهم ومليكهم , فأقروا له بذلك , خشية أن ينكروا يوم القيامة , فلا يقروا بشيء فيه , ويزعموا أن حجة الله ما قامت عليهم, ولا عندهم علم بها, بل كانوا عنها غافلين. ، أو لئلا يقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبلنا ونقضوا العهد , فاقتدينا بهم من بعدهم , وسرنا على نهجهم ، أفتعذبنا بما فعل الذين أبطلوا أعمالهم بجعلهم مع الله شريكا في العبادة؟ ، ولقد تكاثرت الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة في تفسير الآية المشار إليها أنه تعالى استنطقهم حينئذ ، فأقروا كلهم بوحدانيته ، وأشهدهم على أنفسهم وأشهد عليهم أباهم آدم والملائكة ،
ولقد أجمع أهل السنة على أن الله تعالى هدى الناس في كل زمان ومكان بإرسال الرسل وأنزال الكتب ليذكر الناس بالعهد الأول الذي أخذ عليهم ، ويجدد عليهم العهد والميثاق على أن يوحدوه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وأشار في خطاب آدم وحواء عند هبوطهما من الجنة إلى هذا المعنى في قوله تعالى : { قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }( البقرة : 38 – 39 ) ،
وهكذا فإن من رحمة الله تعالى بالبشرية جمعاء أنه كلما انحرفت البشرية عن دينها وعن منهج ربها ، يرسل الله إليهم نبياً أو رسولا يجدد لهم أمر دينهم ، ويردهم إلى الجادة القويمة ، ويقيمهم على الحق والعدل والقسطاس المستقيم ، ليسعدوا في دنياهم ، ويفوزوا برضوان الله ونعيمه في أخراهم ، ولذلك قال الله تعالى : {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ }( المؤمنون : 44 ) ، وهكذا توالت الرسل إلى تلك الأمم يتبع بعضهم بعضًا، كلما دعا رسول أمته إلى الحق وإلى الصراط المستقيم الذي به تنضبط حركة حياتهم كذبوه, فكان جزاؤهم على عنادهم وتمردهم أن أتبع الله بعضهم بعضًا بالهلاك والدمار، ولم يَبْقَ إلا أخبار هلاكهم تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل ، وجعلهم الله أحاديث لمن بعدهم, يتخذونها عبرة ، وهكذا حقت كلمة الله عز وجل أن الهلاك والسحق على كل قوم وكل أمة لا يصدقون الرسل ولا يطيعونهم فيما جاؤوهم به من عند الله ،
وتتابعت الرسل على الأمم ، ومضت مسيرة الحياة إلى أن بعث الله سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فختم الله به الرسل والرسالات ، وبانتقاله إلى الرفيق الأعلى طوي سجل الرسل ، وانقطع الوحي من السماء ، فعلى كاهل من تقع مهمة الدعوة والتذكير والنصح والتقويم للبشرية بعد محمد ورسالته ،
ولقد أخبرنا القرآن ، وعلمتنا سنة النبي العدنان أن الله تعالى جعل هذه المهمة إلى أمته وأتباعه من بعده عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ..... }( البقرة : 143 ) ، وهذا يعني أن هذه الأمة مسؤولة عن دعوة الناس إلى الله وتذكيرهم بالله ، وهداية البشر هداية إعلام وإرشاد وإظهار للحجة ، ومستشهدة وموقوفة لتحاسب عن تبليغ الرسالة إلى البشرية جمعاء ،
ثانيا : حاجة الناس إلى الدعوة والتذكير :
لا ريب أن كل إنسان في حاجة ماسة إلى الدعوة إلى الله ، والتذكير بحق الله وحق عباد الله على الإنسان ، والحث والترغيب في أداء تلك الحقوق والالتزام بها ، والناس في حاجة شديدة إلى التواصي بالحق والصبر عليه ، واحتمال الأذى في سبيل ذلك ، وقد أخبر الله سبحانه في كتابه المبين عن صفة الرابحين الفائزين وأعمالهم الحميدة ، وعن صفة الخاسرين وأخلاقهم الذميمة ، وذلك في آيات كثيرات من القرآن الكريم ، وأجمعها ما ذكره الله سبحانه في سورة العصر حيث قال : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ( سورة العصر ) ، وهذا قسم من الله عز وجل بالعصر ( أي الدهر الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة ) أن كل واحد من الناس في خسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله تعالى ، وقوته العملية بالعمل بطاعته ، فهذا كماله في نفسه ، ثم كمل غيره بوصيته له بذلك وأمره إياه به وبملاك ذلك وهو الصبر ، فكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح ، وكمل غيره بتعليمه إياه ذلك ووصيته له بالصبر عليه (5) ،
كما روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال : " لو تأمل الناس هذه السورة لكفتهم " ، أي لو وعوها وعملوا بها لكفتهم في حياتهم للوصول إلى السعادة التي يرجونها في الدنيا والآخرة " ، ففي هذه السورة القصيرة العظيمة أرشد الله تعالى عباده إلى أن أسباب الربح والفوز في الدنيا والآخرة إنما تنحصر في صفات أربع من جمعها فقد فاز وربح :
الأولى : الإيمان بالله ورسوله ،
والثانية : العمل الصالح ،
والثالثة : التواصي بالحق ،
والرابعة : التواصي بالصبر ،
فمن كمل هذه المقامات الأربع فاز بأعظم الربح ، واستحق من ربه الكرامة والفوز بالنعيم المقيم يوم القيامة ، ومن حاد عن هذه الصفات ولم يتخلق بها باء بأعظم الخسران ، وصار إلى الجحيم دار الهوان ،
إن الله تعالى اختص هذه الأمة بأن جعلها أمة يربي بعضها بعضا ، ويقوم بعضها بعضا ، ويسدد بعضها مسيرة بعض ، وهو ما رأيناه في سورة العصر من الحث على التواصي بالحق والتواصي بالصبر في قوله تعالى : " وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " ، كما جاء الحث على التواصي بالرحمة أيضاً مع الصبر ، في قوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة } ( البلد : 17 ) وبهذه الوصايا الثلاث : بالتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة ( أي الرحمة بالخلق ) ، تكتمل مقومات المجتمع الإنساني الراشد والمتكامل الذي يبتغيه الإسلام ، قوامه الفضائل المثلى ، والقيم الفضلى ، ذلك لأن بالتواصي بالحق إقامة الحق ، والاستقامة على الطريق المستقيم ، وبالتواصي بالصبر ، يستطيع المسلمون مواصلة سيرهم على هذا الصراط ، ويتخطون كل العقبات التي يمكن أن تواجههم وتعرقل مسيرتهم ، وبالتواصي بالمرحمة : يكونون مرتبطين معا كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، وتلك أعطيات لم يعطها إلا القرآن ، في بناء المجتمع والإنسان ،
يتبع ........
***********
الهوامش :
=====
(1) - محمد علي محمد إمام : " كتاب كلمات مضيئة في الدعوة إلي الله " ، شبكة الدعوة والتبليغ ، http://www.binatiih.com
(2) - محمد أبو الفتح البيانوني : " الأصول الشرعية للعلاقات بين المسلمين وغيرهم في المجتمعات غير المسلمة " ، بحث منشور في مجلة جامعة الإمام . محمد بن سعود الإسلامية العدد السادس، محرم 1413 هـ ، ص : 146 ،
(3)- السرخسي/أبو بكر محمد بن أحمد : " المبسوط " في الفقه الحنفي ، دار الكتب العلمية، بيروت ، ط2 ، 2008م ، ، ج 1 ، ص : 123 ،
(4) – إشارة إلى الحديث الشريف عن الأسود بن سريع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ، ( صححه الألباني ، انظر : حديث رقم : 4559 في صحيح الجامع ) ،
(5) - ابن قيم الجوزية : " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان " ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 2011م ، ص : 22 ،
--------
(*)
وقفة - يستلزمها واقع الأمة اليوم - في رحاب قوله تعالى : " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين "
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: