كتاب منظومة حقوق الإنسان من منظور الخدمة الاجتماعية (6)
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6324
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
3-4مفهوم الإنسان وماهيته : Human concept
رأينا كيف ترتبط قضية حقوق الإنسان بشكل جذري ومباشر بوجود الإنسان نفسه ، فمن هو الإنسان صاحب تلك الحقوق ، لقد نشط الفلاسفة والعلماء والمفكرون جميعا ومنذ القدم ، وسخروا جهودهم ونظرياتهم ومناهجهم البحثية للبحث في ماهية الإنسان وطبيعته ، باعتباره كائن حي يمثل محور هذا الوجود ، ويختلف اختلافا جذريا عن غيره من الكائنات الحية ،
والسؤال الذي يطرح دائما في هذا الصدد ويبحث عن إجابة شافية مؤداه : ما هو الإنسان ؟ وهو – كما يقول ( مصطفى محمود ) - سؤال قديم قدم التفكير الآدمي ذاته ، 000 جديد ما بقي الآدمي في هذا الكون ، والجواب على هذا السؤال هو كل ما تحاول صياغته في أثواب متجددة جدة الأيام والليالي ، كل علوم الأرض وفلسفاتها وفنونها وآدابها ، وهذه المحاولات لا يدري أحد مصيرها (1)
ولذا كان من الطبيعي أن اختلفت الآراء وتنوعت وتعددت الرؤى – وذهبت مذاهب شتى - حول الإنسان وطبيعته ، ومكوناته الأساسية ، والمراحل التي مر بها حتى وصل إلى هذه الدرجة من القدرة على التحكم في العديد من الأمور التي كانت في يوم ما تمثل له الرهبة والمخاوف التي تحول بينه وبين الاستقرار، وإذا كانت هناك أمور سببت فيما مضى خوفا وإزعاجا لبني الإنسان ، فذلك يعني أنه ( قوة معنوية ) تتأثر بالأشياء التي لا يدرك كنهها ، ولا يستطيع كشف سرها ، غير أن كثيرا من الآراء – على الجانب الآخر - تؤكد أن الإنسان مجرد ( جسد مادي ) يحمل محتويات عضوية ، وهي أشياء تيسر له البقاء لمدة معينة تستهلك بعد هذه المدة ويخر الجسد متهالكا وتنتهي علاقته بالحياة ، ولكن هذه الآراء جميعها لم تلق التأييد والاستحسان في كثير من المحافل الإنسانية العلمية نظرا لاختلاف التفسير حول ذلك المخلوق ، وما زالت الاختلافات محتدمة ومستمرة حول الطبيعة الإنسانية حتى اليوم ، إلى الدرجة التي جعلت عالما من العلماء المعاصرين وهو ( أليكسس كاريل ) يؤلف كتابا عنونه بـ ( الإنسان ذلك المجهول !!) ،
وكان من الطبيعي أن يهتم علم النفس Psychology وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) Anthropology أكثر من أي علم آخر بالبحث في هذه القضية ، ولقد صرف الفلاسفة الإغريق وغيرهم من المصريين والصينيين والهنود والحضارات التي سبقت الحضارة اليونانية وقتا طويلا في البحث عن ماهية الإنسان ، وجوهر وجوده ، فنظر أفلاطون وأرسطو إلى النفس الإنسانية كعنصر أساسي في وجود الإنسان ، ونظرا إلى هذا العنصر كجوهر لوجوده ،
وإذا كان أرسطو قد نظر إلى النفس الإنسانية باعتبارها مصدر وجود الكائن الإنساني وسببه ، فان الفارابي يرى في النفس كمال الجسم ، وأما كمال النفس فهو العقل ، ولكنّ فلاسفة العصور الحديثة (منذ القرن 16) نظروا إلى دراسة الإنسان نظرة مختلفة عن النظرة الإفلأطونية والأرسطية ، فإذا كان هدف العلم الأرسطي دراسة النفس الإنسانية بدلا عن الإنسان بصفتها علة وجوده ومصدره ، فكان اقتراح أن يكون علم الإنسان (الأنتروبولوجيا) علما هدفه دراسة الإنسان من حيث هو نفس وجسم معا ،(2)
وما يهمنا هنا – في حقيقة الأمر – هو ماهية الإنسان وتعريفه ، وهو ما نحاول أن نجمله دون الإغراق في تفاصيل الآراء الفلسفية والعلمية حول الإنسان ،
- تعريف الإنسان لغة :
بالنظر إلى لفظة (الإنسان ) في اللغة فلقد جاء في مختار الصحاح للرازي (3) ، ما نصه " أ ن س " : الإنس البشر ، والواحد إِنْسي بالكسر وسكون النون ، والجمع أَنَاسِيُّ. قال الله تعالى ( ...وأَنَاسِيَّ كَثِيرا ) " الفرقان : 49 " وكذا الأَنَاسِيَة ويقال للمرأة إنسان ولا يقال إنسانة " ، وجاء في لسان العرب (4) : " ...والإِنسانُ أَصله إِنْسِيانٌ وإِنْسانٌ في الأَصل إِنْسِيانٌ، وهو فِعْليانٌ من الإِنس والأَلف فيه فاء الفعل، والإِنْسُ : جماعة الناس ، والجمع أُناسٌ ، وهم الأَنَسُ. تقول : رأَيت بمكان كذا وكذا أَنَساً كثيراً أَي ناساً كثيراً ؛ والإِنْسِيُّ : منسوب إِلى الإِنْس ، كقولك جَنِّيٌّ وجِنٌ وسِنْدِيٌّ وسِنْدٌ ، والجمع أَناسِيُّ كَكُرْسِيّ وكَراسِيّ ، وقيل : أَناسِيُّ جمع إِنسان والإِنْسُ : البشر، الواحد إِنْسِيٌّ وأَنَسيٌّ أَيضاً ، بالتحريك . ويقال :أَنَسٌ وآناسٌ كثير ، وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أَنه قال " إِنما سمي الإِنسان إِنساناً لأَنه عهد إِليه فَنَسيَ " ، والإِنْسُ جماعة الناس والجمع أُناسٌ وهم الأَنَسُ ، تقول : رأَيت بمكان كذا وكذا أَنَساً كثيراً أَي ناساً كثيراً "
وعرفه الجرجاني (5) في تعريفاته بقوله :" هو الحيوان الناطق "
- تعريف الإنسان اصطلاحا:
والإنسان في معناه الاصطلاحي متطابق مع أصل الوضع في اللغة ، فالمقصود منه واحد البشر ، واختلف تعريف الإنسان عند أهل الاختصاص من حيث النظر إلى عناصر تكوينه أووظائفه ومسؤولياته ، ولهم في ذلك مذاهب وآراء :
- فقيل " هو حيوان ناطق " ، - كما مر بنا – ولا يخفى أن الحيوانات كلها ناطقة لها لغاتها الخاصة بها في عالمها ، ..
- وبعضهم عرفه بأنه " كائن عاقل " ، ولكنه لا يختص بالعقل وحده دون الكائنات الأخرى كالجن والملائكة مثلا ،
- ومن الوجهة الدينية ، يمكن تعريفه بأنه : " الكائن المكلف المعلم ( بفتح اللام المشددة ) المستخلف " .
- وعرفه البعض بأنه " في الحقيقة أحد أفراد الجنس البشري ، أو كل آدمي ، والمكون من جسم وعقل وروح ، فالإنسان هو آدم وحواء ومن جاء من ذريتهما ، فهو الرجل والمرأة مهما كانت صفته ، ويضم في إطاره حتى المجنون والعبد والجنين ، وبغض النظر عمّا قد يحتوي عليه من صفات وعناصر الحسن والقبح "(6) .
- وثمة تعريف آخر للإنسان بأنه " الموجود الذي يمتلك بطبيعته عناصر فطرية تولد معه وتبقى معه ، وهي تتطلب – في الواقع – مسيرة معينة إذا خرج عنها خرج عن (الصفة الإنسانية ) ... وإذا عومل معاملة تخالف فطرته كانت تلك الممارسة ممارسة لا إنسانية "(7).
ولقد فرق (الأصفهاني ) في كتابه " مفردات ألفاظ القرآن الكريم " (8) بين تعريف الإنسان بالمعنى العام ، والمعنى الخاص حسب تعبيره ، فذكر أن :
- الإنسان بالمعنى " العام " يعرف بأنه : " كل منتصب القامة ، مختص بقوة الفكر ، واستفادة العلم "
- أما عن تعريف الإنسان بالمعنى الخاص فيتمثل في : " كل من عرف الحق فاعتقده ، والخير فعمله بحسب وسعه " ،
وهذا يعني أن الإنسانية بالمعنى العام هي ما توفر للإنسان من ماهية بحسب الخلقة ، أما الإنسانية بالمعنى الخاص فهي ما يكتسبه الإنسان بسعيه من اعتقاد الحق وعمل الخير ، وهذا المعنى يتفاضل فيه الناس ويتفاوتون تفاوتا بعيدا ، وبحسب تحصيله تستحق صفة الإنسانية (9)
وثمة جوانب أخرى يبرزها بعض من تصدى لتحديد ماهية الإنسان وتعريفه إذ يشير البعض إلى أن الإنسان : " هو ذلك الكائن الحي الذي يختلف تعريفه البيولوجي عن التعريف العقائدي أو الثقافي :
- فبيولوجياً ، يعّرف الإنسان بالثديي بعقل متطور عن سائر المخلوقات،
- وعقائدياً، فهو تلك الروح الكامنة داخل هذا الجسد وتتحكم الروح بأفعال وتصرفات الإنسان ،
- أما من الجانب الثقافي، فيتميز الإنسان بتعدد الألسنة واللغات ، وتباين العادات والتقاليد بين المجتمعات المختلفة.
أما عن الإنسان في لفظ " حقوق الإنسان " هو ذلك الكائن الإرادي الفاعل ، الحر ،
وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن الإنسان الذي نعنيه هنا – ونحن بصدد الحديث عن حقوق الإنسان – هو الإنسان مجرداً عن أي صفة أو تصنيف أي مطلق إنسان ، وعندما نقول مجرد يعني أن نجرده عن كل عناصر التفرقة والتمييز كالجنسية والانتماء والنوع ، والدين واللون واللغة ، والعقيدة ، ونجرده عن الانتماء الاجتماعي والفئوي ، وعن الثروة أيضا ، وهذا ما أكدت عليه كل المواثيق الدولية ، كما أن الإنسان بدأ يتطور كمركز قانوني، حتى صار شخصاً من أشخاص القانون الدولي العام ،
وبعبارة متكافئة فإن الإنسان الذي يُقصد - في الأصل - بالحقوق في عبارة "حقوق الإنسان"، إنما هو الإنسان في جميع أبعاد إنسانيته، تلك الأبعاد التي تتأتّى من كونه إنسانا ، أعني نفسا إنسانية، ومن كونه اجتماعيا، أعني ملتقى الأوضاع والمراكز والأدوار الاجتماعية ، ومن كونه سياسيًّا، أعني مواطنا ، ومن كونه ثقافيا حضاريا، أعني متمثِّلا للعالم فيما يُعرف برؤى العالم ، فثمّة ضربٌ من البنية الشمولية للإنسان لعلّها هي المقصودَ الأصلي، أعني المقصودَ الأقصى، بحقوق الإنسان ، وإنّ هذا المقصودَ الأقصى الذي يجمع أبعاداً لا نفرّق بينها إلا إجراء للتّحليل، واصطناعا للمنهج، إنّما هو المشار إليه في العبارة Ethics، التي باتت تعرّب اليوم إلى "الأخلاقيات".
3-4تعريف حقوق الانسان :
وبعد أن تناولنا – فيما سلف من هذا الفصل - ما نعنيه هنا بكل من مصطلحي " الحق " و" الإنسان " ( باعتبارهما يشكلان جوهر تركيب مفهوم حقوق الإنسان ) ، يمكننا الآن أن نعرض لبعض الآراء حول تعريف وتحديد هذا المفهوم ، حيث تعددت الآراء والتعريفات ، وذخرت الأدبيات السياسية والاجتماعية بالعديد من تلك التعريفات ، وأبرزت ما يثيره هذا المفهوم من التساؤلات والقضايا والشكوك والاختلافات ، الأمر الذي عكسته كثرة الدراسات والكتابات التي صدرت وتصدر حول تلك القضية وخصوصا في السنوات القليلة الماضية ، ولقد تأثرت تلك الكتابات والدراسات بالانتماءات الأيديولوجية ، والمذاهب الفلسفية والدينية ، الأمر الذي أضفى على المفهوم غموضا وضبابية لا تكاد تخفى على كل متابع لما يطرح حوله من مناقشات ، فضلا عن التوجهات السياسية التي حاولت وتحاول استغلال قضية الحريات العامة وحقوق الإنسان لتحقيق مصالح سياسية للدول الكبرى على حساب الدول الصغرى ،
وبغض النظر عن كل تلك القضايا والاختلافات حول مفهوم حقوق الإنسان فإن اهتمامنا هنا سينصب على عرض بعض التعريفات التي طرحت لهذا المفهوم بمعناه الرائج حاليا على الصعيد العالمي ، وذلك على النحو التالي :
- يشير ( جاك دونلي ) أستاذ الدراسات الدولية بجامعة دينفر، إلى حقوق الإنسان باعتبارها :" حرفيات الحقوق التي يتمتع بها الإنسان لمجرد كونه إنسانا ، ولهذا فهي حقوق متساوية ، لأننا جميعا مخلوقات متساوية ، هذه الحقوق هي كذلك حقوق غير قابلة للتحويل ، لأننا مهما تصرفنا بغير إنسانية، فنحن لا نستطيع إلا أن نكون آدميين." (10)
- حقوق الإنسان هي عبارة عن : " مجموعة من القواعد التي تخول حقوقا للفرد دون تقديم تنازلات من جانبه أو إذلال له ، وباختصار فإن هذا الاصطلاح يعني أيضا " حقوق وليس مجرد آمال ، وهي حقوق وليست إحسانا أو حبا أو أخوة ، إن كلمة حقوق تتضمن إعطاء الحق في .... فالإنسان له الحق في كل حقوقه....." (11)
- هي " الحقوق الطبيعية التي تولد مع الإنسان دون أن يشترط لذلك اعتراف الدولة بها قانونا " (12) ،
- تلك الحقوق الطبيعية الأصلية التي نشأت مع الإنسان منذ الخلق الأول ، وتطورت مع الحضارة ، ويجب أن تثبت لكل إنسان في كل زمان ومكان لمجرد كونه إنسانا ، وتميزه عن سائر الكائنات الأخرى " (13) ،
- وقد أورد ( سعيد محمد مجدوب ) تعريفا أوسع للحقوق حيث وصفها بأنها : " مجموعة الحقوق الطبيعية التي يمتلكها الإنسان ، واللصيقة بطبيعته ، والتي تظل موجودة وإن لم يتم الاعتراف بها، بل أكثر من ذلك حتى ولو انتهكت من قبل سلطة ما ».(14)
هذا ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن النماذج السابقة لتعريف حقوق الإنسان على تنوعها ، تبقى محصورة في المدلول المستقى من القانون الطبيعي ،
- ومن التعريفات التي تبرز صلة حقوق الإنسان بالعلوم الاجتماعية ، بل وتعدها علما قائما بذاته ضمن منظومة تلك العلوم :
- تعريف (رين كاسين ) René Cassin الحائز على جائزة نوبل للسلام سنة (1960 ) ، والذي يقول أن : " علم حقوق الإنسان يمكن تعريفه كفرع خاص من فروع العلوم الاجتماعية، موضوعه هو دراسة العلاقات القائمة بين الأشخاص وفق الكرامة الإنسانية ، مع تحديد الحقوق والخيارات الضرورية لتفتح شخصية كل كائن إنساني " (15)
- وتعريف آخر لـ (كاريل فاساك ) Karel Vasak حيث عرفها بأنها : " حقوق الإنسان علم يتعلق بالشخص، ولا سيما الإنسان العامل، الذي يعيش في ظل دولة، ويجب أن يستفيد من حماية القانون عند اتهامه، أو عندما يكون ضحية للانتهاك، عن طريق تدخل القاضي الوطني والمنظمات الدولية، كما ينبغي أن تكون حقوقه، ولاسيما الحق في المساواة، متناسقة مع مقتضيات النظام العام»(16)،
- وثمة تعريف آخر يرى أن اصطلاح حقوق الإنسان يعني " حرية الأشخاص على قدم المساواة ، ودون أي تمييز بينهم لأي اعتبار، في التمتع بالمزايا التي تخولها لهم الطبيعة الإنسانية ، وتقرها مبادئ العدالة ، وفي تلبية حاجاتهم المختلفة ، بما يتلاءم مع ظروف كل عصر، ولا يضر بحقوق الآخرين ، والقانون هو الذي يبين الحدود الفاصلة بين حقوق الفرد وحقوق الآخرين سواء كانوا أفرادا أو جماعات ".(17)
- ويقول أحمد الرشيدي أن " التعامل مع اصطلاح حقوق الإنسان والحريات الأساسية ، يشير بصفة عامة إلى مجموعة الاحتياجات أو المطالب التي يلزم توافرها بالنسبة إلى عموم الأشخاص ، دون أي تمييز بينهم لاعتبارات الجنس ، أوالنوع ، أو اللون ، أو العقيدة السياسية ، أو الأصل الوطني ، أو لأي اعتبار آخر " (18) ،
- ومن التعريفات ما يبرز الجانب القانوني من تلك الحقوق ، ويؤكد عليه نذكر منها – على سبيل المثال – تعريف حقوق الإنسان باعتبارها : " مجموع المواثيق أو النصوص القانونية الدولية التي تعبر تعبيرا قانونيا عن حقوق الإنسان والتي بها نسعى إلى تخفيف معاناة البشر من الظلم والفقر وترتقي بالحياة البشرية إلى وضع أفضل " (19) ،
غير أن هذا التحديد الاصطلاحي القانوني يجعلنا نعتبر حقوق الإنسان من حيث هي تشريع موثق ومتدرج النشأة ظاهرة حديثة في الحياة البشرية ، بل هي تلامس عصرنا الحاضر إذ هي ترجع إلى منتصف القرن العشرين تقريبا ،
ووفقا لما تقدم ذكره ، يمكن تعريف حقوق الإنسان على أنها "المعايير الأساسية التي لا يمكن للناس من دونها، أن يعيشوا بكرامة كبشر لا غنى لهم عن تلك الكرامة التي هي سمة جوهرية اختصهم بها خالق البشر جل جلاله " ، كما أن حقوق الإنسان – بنظرة معاصرة - هي ضمانات عالمية تحمي الأفراد والجماعات من الإجراءات الحكومية التي تمس الحريات الأساسية والكرامة الإنسانية ، ويتميز قانون حقوق الإنسان بتركيزه على الفرد باعتباره محلا للحماية القانونية ، وموضع للضمانة الدولية ، وحقوق الإنسان هي حقوق لا يمكن التنازل عنها أو انتزاعها ، وتتسم بأنها متساوية ومترابطة ، وعالمية ،
ولعلنا نفضل في ختام حديثنا عن تعريف حقوق الإنسان – وتأسيسا على كل ما سلف – أن نعرف حقوق الإنسان بأنها : " تلك المجموعة من الاستحقاقات والامتيازات التي تتصل طبيعيا بكل كائن بشري ، يتمتع بها الإنسان – كل إنسان – ويكفلها ويضمنها ويحميها القانون من أي انتقاص أو انتهاك " ،
ومن هذا التعريف يتضح لنا أن مفهوم حقوق الإنسان يرتكز على ثلاثة محاور رئيسة ومجتمعة وتشكل قوام هذا المفهوم وجوهره وهي :
- المحور الأول : ويتمثل في المنتفع بالحقوق ، أو النسق المستهدف بتلك الحقوق وهو " الإنسان " ، وهو يختلف عن " الفرد " ، من حيث أن اللفظة الأخيرة تجعل من الشخص مجرد ذات جسدية ، في حين أن لفظة " إنسان " تنطوي على الجسد والروح والعقل الفكر والكرامة ، وهو ما أشرنا إليه – آنفا - في تعريف الإنسان ،
- المحور الثاني : ويتمثل في الحقوق ذاتها من حيث نوعيتها وخصائصها والسمات المميزة لها عن غيرها من الحقوق ، وهو ما سيأتي بيانه ،
- المحور الثالث : كفالة وضمان وحماية تلك الحقوق ، لأنه لا معنى لإقرار حقوق وحريات الإنسان ما لم تتم حمايتها على الصعيدين الوطني والدولي ، ولا شك أن من أهم أساليب الحماية نذكر بالخصوص الحماية بواسطة القانون حيث نشرع قواعد قواعد قانونية تكفل التمتع بحقوق الإنسان بصورة فعليه ،
3-5المفهوم الإسلامي لحقوق الإنسان : Human Rights Eslamic concept
لما كان مصدر حقوق الإنسان في المفهوم الوضعي هو مصدر بشري خالص ، بمعنى أن تلك الحقوق تتمثل فيما تواضع عليه البشر فيما بينهم ، فإن مصدر تلك الحقوق في المنظور الإسلامي هو الله خالق الإنسان ( أي عن طرق الوحي الإلهي ) ، ومن هنا يمكن ببساطة تعريف تلك الحقوق إسلاميا بأنها : " مجموعة فرائض إلهية وواجبات شرعية يتم الالتزام بها نحو الإنسان أي إنسان ، ومن ثم فهي – في التصور الإسلامي - ليست مجرد " حقوق " كما هو الحال في الفكر الوضعي ، بل هي ضرورات واجبة ليس لبشر – أيا كان - أن يعطلها أو يعتدي عليها ، وليست منحة من الحاكم بل هي من الله عز وجل ، وكرستها الشريعة الإسلامية منذ ظهورها في وقت لم يكن فيه للإنسان حق أوحرية تجاه السلطة ، ومن هنا فإن تلك الحقوق مرتبطة بالعقيدة نفسها ، والإسلام له نظرة شمولية كاملة لتلك الحقوق ، وكما أسلفنا فإن الله تعالى خلق الكون المنظم من أجل الإنسان وسخر كل ما فيه له ، وخلق الإنسان من أجل الله ولعبادته وحده ، أي أن لله على خلقه حقوق ، وعلى الخلق التزامات تجاه الخالق ، وقد كانت أول وثيقة متكاملة عن حقوق الإنسان هي خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، كما تضمنت العديد من الوثائق التاريخية الإسلامية تلك الحقوق ، وهو ما سوف نبينه بشيء من التفصيل في ثنايا هذا الكتاب ،
(4) - مفاهيم وثيقة الصلة بحقوق الإنسان :
سبق أن أشرنا أن مصطلح " حقوق الإنسان " يشير إلى منظومة مترابطة من المفاهيم التي تشكل جوهرهذا المفهوم ومحتواه ، ولذلك فإننا سنعرض لتعريف بعض تلك المصطلحات والمفاهيم بشيء من الإيجاز :
4-1مفهوم الحرية Liberty
يشير قاموس علم الاجتماع (20) إلى أن الاستخدام العام لهذا المصطلح يشير إلى التحرر من القيود التي يفرضها شخص معين على شخص آخر ، وينطوي تاريخ هذا المصطلح على الكثير من التعريفات بعضها يساير المعنى الشائع السابق للحرية ، أما البعض الآخر فإنه يميل إلى القول بأن الحرية في الواقع تتوقف على وجود الظروف أوالفرص الضرورية التي تسمح بتطور ونمو قدرات المرء وقد أخذ فلاسفة النازية والفاشية هذه الفكرة لتدعيم حكم هتلر وموسوليني ، ويعد كل من هوبز ( Hobbes ) (21) وجون استوارت مل ( Mill ) (22) من بين الذين تناولوا مفهوم الحرية بمعناه الشائع فالإنسان الحر في رأي هوبز هو الذي يستطيع أن يفعل ما يريد بإرادته وقدراته ،
ويؤكد البعض من ناحية أخرى أن الحرية تشير إلى أسلوب محدد في الحياة ويتمثل في القيام بالأفعال التي تتطابق مع القانون الأخلاقي أو المنطق ، وقد ذهب كارليل Carrlyle (23) في هذا الصدد إلى أن الإنسان الحر حقا هو الذي يستطيع أن يكتشف الطريق الصحيح وأن يسير عليه ،
ويشكل مصطلح الحرية في أعمال جرين T.H.Green وهيجل Hegel جانبا رئيسيا من الفلسفة السياسية فالحرية الأخلاقية – كما يقول جرين – هي تحديد الإرادة بواسطة العقل ، أما هيجل (24) فانه يربط الحرية بالدولة فالدولة هي الكيان الاخلاقي الكلي وهي التي تعمل على تحقق الحرية طالما ان الفرد يجد ذاته من خلال خدمة الدولة ،
هذا ويرتبط مفهوم الحرية بعدة مفاهيم اخرى مثل المساواة والعدالة والامن
4-2مفهوم الحريات العامة : Bublic Liberties
عبارة الحريات العامة لم تبرز إلا حديثا ، ولذلك فلا يوجد وفاق حول تعريفها. فقد أشار الأستاذ فيليب برو في أطروحته أن النصوص الثورية الصادرة في نهاية القرن الثامن عشر كثيرا ما استعملت لفظ الحرية، لكنها لم تتبعه أبدا بنعت عامّة.
وأول وثيقة استعملت هذه العبارة هي - وهذا من المفارقات - النداء إلى الشعب الذي وجهه الأمير الرئيس، لويس نابوليون (25) وهو نصّ إعلان عن انقلاب وقع تعليقه على حوائط العاصمة الفرنسية باريس ليلة 2 ديسمبر 1851م ، وقد نصت النقطة الخامسة من هذا الإعلان على ( تكوين مجلس ثان مكون من جميع أعيان البلاد يحافظ على الميثاق الأساسي وعلى الحريات العامة ) ، إثر ذلك أخذت المادة ( 25 ) من الدستور الفرنسي المؤرخ في 14 جانفي 1862م هذه الجملة بحذافيرها وجعلت من مجلس الشيوخ المحافظ على الدستور وعلى الحريات العامة ، هذا واختفت العبارة مجددا من جميع النصوص الوضعية ولم تظهر بصفة متواترة إلا خلال فترة الجمهورية الثالثة بأقلام أبرز فقهاء القانون العام آنذاك مثل دوقي ، وجاز ، وبرتلمي.
أما اليوم فرغم استعمالاتها الشائعة فإن عبارة " الحريات العامة " لم تفقد غموضها بعد بل ربما زادت غموضا وخاصة وقد ظهرت عبارات قريبة منها مثل عبارات حقوق الإنسان والحقوق الأساسية أو الحريات الأساسية ، فمن المؤلفين من يفرق بين الحريات العامة وحقوق الإنسان ويعتبرهما ظاهرتين مختلفتين ، فبالنسبة لهؤلاء تشكل حقوق الإنسان نعوتا أو صفات جوهرية ملتصقة بالأفراد وهي بالتالي ثابتة ومجردة ، على عكس ذلك ، فإن الحريات العامة ما هي إلا تعبير قانوني عن طريق نصوص وضعية عن حقوق الإنسان ، وبالتالي فإن الحريات العامة متغيرة ، في هذا المعنى يقول " جان ريفرو " إن مفهومي حقوق الإنسان والحريات العامة متقاربان ولكنهما رغم ذلك مختلفان ، فمن ناحية ليس لهما نفس المستوى ، ومن ناحية أخرى ليس لهما نفس المحتوى ، فمفهوم حقوق الإنسان يتجاوز اعتراف النصوص به "
فحقوق الإنسان هي في آخر المطاف حريات عامة ذات طبيعة معينة ، ولذلك فإن الأستاذ ( ريفرو ) يصل إلى الاستنتاج التالي " كل حقوق الإنسان ، حتى المعترف بها على صعيد القانون الوضعي ، غير قابلة لتأسيس حرية عامة " ، إثر هذه التوضيحات يقترح ( ريفرو ) التعريف التالي للحريات العامة :
" الحريات العامة هي إمكانيات وقدرات يختار بمقتضاها الإنسان في جميع مجالات الحياة الاجتماعية بنفسه سلوكه ، وهذه الإمكانيات يعترف بها وينظمها القانون الوضعي ويحميها حماية قوية ويرفعها إلى المستوى الدستوري".
ولقد نهج أغلب المؤلفين نهج الأستاذ ( ريفرو ) وفرقوا بين حقوق الإنسان من جهة ، والحريات العامة من جهة أخرى ، فهذا الأستاذ ( كلود ألبار كوليا ) يعرف الحريات العامة فيقول : " تحت نعت الحريات العامة نجد وضعيات قانونية نظامية وترتيبية يعترف بمقتضاها للفرد بحق التحرك دون ضغط في إطار حدود ينص عليها القانون الوضعي المنطبق ، أو تضبطها إذا لزم الأمر سلطة الشرطة المكلفة بحماية الأمن العام ، وهذا الحق مكفول ومحمي بإمكانية القيام بدعوى قضائية وخاصة بمراقبة الشرعية ".
وهكذا يتبين لنا أن الحريات العامة هي – أساساً - الحريات التي يكرسها القانون الوضعي سواء كان القانون الدستوري أو القانون الإداري أو القانون الدولي أو القانون الخاص لكن هذا لا ينفي أن تبويب الحريات العامة محل اختلاف وخلاف (26) ،
وإلى الحلقة القادمة ....... بإذن الله تعالى ،
************
الهوامش والإحالات :
===========
(1) – توفيق الحكيم : " التعادلية مع الإسلام والتعادلية " ، المطبعة النموذجية ، القاهرة ، 1983م ، ص : 37
(3) – محمد بن ابي بكر بن عبد القادر الرازي : " مختار الصحاح " ، مكتبة لبنان ، 1986م ، ص : 38
(4) – إبن منظور : " لسان العرب " ، دار صادر ، بيروت ، لبنان ، ط3 ، 1414هـ /1994م ، ج6 ، ص : 377
(5)- الجرجاني : " التعريفات " ، تحقيق ابراهيم الابياري ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، ط1 ، 1405هـ ، ص : 120
(6)- محمد الزحيلي : " حقوق الإنسان في الإسلام " ، ط2 ، دار الكلم الطيب ، دمشق ، 1997) ، ص ص10-11
(7) - محمد علي التسخيري : " حقوق الإنسان بين الإعلانين الإسلامي والعالمي " ، رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية ، طهران ،1997م ، ص :17 .
(8) – الراغب الأصفهاني : " مفردات ألفاظ القرآن " ، تحقيق : صفوان عدنان داوودي ، دار القلم ، دمشق ، 1412هـ /1992م ، ص : 94
(9) – عفاف ابراهيم الدباغ : " المنظور الاسلامي لممارسة الخدمة الاجتماعية " ، مكتبة المؤيد ، (د.ت.) ، ص : 76
(10) – أنظر : جولي نورمن : " الديمقراطية وحقوق الانسان – المفاهيم والتطبيقات في فلسطين " نقلا عن :
http://www.phrmg.org/arabic/monitor2005/democracy.htm
(11) – أنظر : رائد سليمان الفقير : " تاريخ نشأة مفاهيم حقوق الانسان " ، نقلا عن موقع الحوار المتمدن ، نقلا عن :
http://www.ebnmaryam.com/vb/t151234.html
(12) – أنظر : خالد مصطفى على فهمى ادريس : " ورقة بحثية حول مفهوم المواطنة وحقوق الانسان " ، نقلا عن :
www.benaa-undp.org/common/dir/file/general/instructors.../r11.doc
(13) – أنظر :أحمد مبارك سالم : " حقوق الإنسان بين الفلسفة والعقيدة والسياسة " ، نقلا عن :
www.policemc.gov.bh/reports/2011/.../634373628993983382.pdf
(14) - أنظر : عبد القادر العلمي : " حقوق الإنسان " ، نقلا عن :
http://www.elalami.net/index.php?option=com_content&view=article&id=19&Itemid=27
(15) - فتحي الدريني : " الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده " ، دار البشير ، عمان – الأردن ، 1997م ، ص : 251
(16) – أنظر : عبد القادر العلمي : " مصدر سبق ذكره " ،
(17) - عبد القادر العلمي : " حقوق اللإنسان بين النظرية والتطبيق " ، مطبعة الرسالة، الرباط ، المغرب ، 1986م ، ص:9.
(18) - أحمد الرشيدي : " حقوق الإنسان في الوطن العربي " ، دار الفكر، دمشق، سورية ، 2002م ، ص22.
(20) - محمد عاطف غيث – قاموس علم الاجتماع – الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1979م ص 194-195
(21) - يعد توماس هوبز توماس هوبز ( 1588م – 1679م ) أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر بإنجلترا وأكثرهم شهرة خصوصا في المجال القانوني ، حيث كان بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ ، فقيها قانونيا ساهم بشكل كبير في بلورة كثير من الأطروحات التي تميز بها هذا القرن على المستوى السياسي والحقوقي.كما عرف بمساهمته في التأسيس لكثير من المفاهيم التي لعبت دورا كبيرا ليس فقط على مستوى النظرية السياسية بل كذلك على مستوى الفعل والتطبيق في كثير من البلدان وعلى رأسها مفهوم العقد الاجتماعي . كذلك يعتبر هوبز من الفلاسفة الذين وظفوا مفهوم الحق الطبيعي في تفسيرهم لكثير من القضايا المطروحة في عصرهم.
(22) - جون ستيوارت مل ( 1806م – 1873م ) ، هو فيلسوف واقتصادي بريطاني، ولد في لندن عام 1806 م، وكان والده جيمس ميل أحد كبار أهل العلم والمعرفة في القرن الثامن عشر ، وهو من رواد الفلسفة الليبرالية ، اقتبس فلسفته من مذهب ( بوم ) التجريبي ، ومذهب ( بنثام ) القائم على مفهوم المنفعة ، ومذهب والده جيمس ميل الترابطي، وشدد على المدى المحدود الذي وصلت إليه نظرياتهم مجسدا في تركيب رائع المذهب الذري القائم بين الإنسان والعالم ، توفي عام 1873م ، وأسمى المبادئ عنده هي حرية الفرد والتنوع والعدالة وصولا إلى السعادة البشرية ،
(23) - توماس كارليل Thomas Carlyle ( 1795م – 1881م ) كاتب إسكتلندي وناقد ساخر ومؤرخ. وكان لأعماله تأثيراً كبيراً بالعصر الفكتوري، أعمال كارليل تبدو جذابة لعديد من الفكتوريين المناهضين للتغيرات السياسية والعلمية التي هددت حسبهم نظام الحياة الاجتماعي.
(24) - جورج ويلهلم فريدريك هيغل (Georg WilhelmFriedrich Hegel) ( 27 أغسطس 1770 - 14 نوفمبر 1831) فيلسوف ألماني ، وهو أحد أهم الفلاسفة الألمان ، حيث يعتبر أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي ، تقوم فلسفة هيجل المثالية على اعتبار أن الوعي سابق للمادة ، بينما تقوم النظرية الماركسية على اعتبار أن المادة سابقة للوعي ، على اعتبار أن المادة هي من تحدد مدارك الوعي وبالتالي يتطور الوعي بتطور المادة المحيطة بالإنسان، كان ماركس أحد رواد حلقات عصبة الهيجيليين ثم انشق عنها مؤلفا فلسفته الخاصة به ،
(25) – هو : شارلز لويس نابليون بونابرت ( 1851م – 1873م ) ،
كان رئيسا لفرنسا من 1848م إلي 1852م ، ثم إمبراطورا لفرنسا تحت اسم نابليون الثالث من 1852م إلي 1870م ،
(26) – أنظر : رافع بن عاشور : " مفهوم الحريات العامة في الدول الدّيمقراطية " ، نقلا عن :
http://www.wasatiaonline.net/news/details.php?data_id=1072
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: