كتاب منظومة حقوق الإنسان من منظور الخدمة الاجتماعية (2)
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5503
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الوحدة الأولى
مدخل تمهيدي : لماذا حقوق الإنسان ؟
" الإنسان لا يزال في المرحلة الوصفية . . فهو كل لا يتجزأ
وفي غاية التعقيد ، وليست هناك طريقة لفهمه في مجموعــه
أو في أجـزائه في وقـت واحد ، كما لا توجـد طريـقة لفــهم
علاقاته بالعالم الخارجي . .........................."
( أليكسس كاريل )
(1) – مقدمة الوحدة
1-1 تمهيــــــد
لما كان الإنسان يمثل محور هذا الكون ، من حيث كونه العنصر الأساس الذي تدور حوله كافة عناصر ومكونات الكون الأخرى ( العناصر والمكونات الحية وغير الحية ) Living and Non-Living Elements ، ولما كان الإنسان - أيضا - هو المحور الذي تدور حوله كافة العلوم الاجتماعية والإنسانية والسلوكية Social, Human, And Behavioral Sciences ، حيث يمثل موضوعها الأساس ، كان من الطبيعي عندما نتعرض بالحديث لقضية " حقوق الإنسان " ، أن تكون نقطة البداية والانطلاق من " الإنسان " نفسه ماهية وطبيعة ، تكوينا ومكانة ، وظيفة وغاية ، إذ أنه على قدر فهمنا الموضوعي والواقعي والصحيح للإنسان يتحقق الفهم الصحيح والواقعي لحقوق ذلك الإنسان ، فهو موضوع تلك الحقوق منه تبدأ ، وإليه تنتهي ، وحوله تدور ، ومن أجله تقرر وتقنن ، ومن هنا تأتي مناقشتنا في هذه الوحدة لعرض الجوانب المرتبطة بالإنسان كمدخل لابد منه ، وكأساس ومنطلق للولوج إلى كافة موضوعات الوحدات الأخرى التي تشكل قوام هذا الكتاب ، ومن هنا نتعرض في هذه الوحدة لماهية الطبيعة الإنسانية ، ومكانة الإنسان في الكون ، وخصائصه المميزة له عن سائر الكائنات ، وكيف نشأت حقوق الإنسان ، ووضعيتها في عالمنا المعاصر ، كل ذلك من أجل محاولة الإجابة على التساؤل الوارد في عنوان هذه الوحدة ،
1-2 أهداف الوحدة :
بعد دراسة هذه الوحدة ، والإجابة على التدريبات والتطبيقات الخاصة بها يكون بمقدور الدارسين ما يلي :
- فهم ماهية الإنسان والطبيعة الإنسان ،
- تحديد خصائص الطبيعة الإنسانية في التصور الإسلامي ،
- تحديد نظرة الإسلام للإنسان وللكرامة الإنسانية ،
- فهم كيفية نشأة حقوق الإنسان تاريخيا ، وتنامي الاهتمام بها ،
- تحديد واقع حقوق الإنسان في المجتمعات العربية والإسلامية اليوم ،
- فهم أسس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ،
- تحديد مبررات وأهمية برامج تعليم حقوق الإنسان ،
1-3 القراءات المساعدة
- محمد عمارة : " الإسلام وحقوق الإنسان – ضرورات لا حقوق " ، سلسلة عالم المعرفة ، العدد (89) ، المجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب ، الكويت ، مايو : 1985م ،
- عفاف ابراهيم الدباغ : " المنظور الإسلامي لممارسة الخدمة الاجتماعية " ، مكتبة المؤيد ، الرياض ، (د.ت.) ،
- أحمد يوسف محمد بشير : " الإنسان وعلاقته بالبيئة من منظور إسلامي " ، بحث قدم لندوة التأصيل الإسلامي للخدمة الإجتماعية ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، 1991م ،
- Anderson, Ralph & Carter Irl,: " Human Behavior In The Social Environment " , Chicago, : Aldine, 1974.
********
(2) - مكانة الإنسان في الوجود وقضية حقوق الإنسان
2-1 العلوم الاجتماعية وماهية الإنسان والطبيعة الإنسانية :
Social Sciences, Human essence, And Human Nature
بادئ ذي بدء لابد أن نقرر حقيقة هامة مؤداها أنه لم يعد " الإنسان " بفضل التقدم المضطرد الذي أحرزته وتحرزه العلوم الإنسانية والاجتماعية في عالمنا المعاصر موضوعا " للتفكير " Thinking فحسب ( حيث يتميز " التفكير " بقصوره عن تقديم تعريف نهائي و قطعي ، و بمساءلته المستمرّة و الدائمة لمواضيعه التي يتناولها ) ، بل موضوعا " للمعرفة والعلم " Science & Knowledge ( الذي يتميز بزعمه الوصول إلى الحقائق والنظريات المفسرة ، والقواعد الضابطة والمتحكمة في سلوكيات هذا الكائن ، وإمكانية التنبؤ به قبل صدوره عنه ).
ولما كان " الإنسان " هو الموضوع المحوري لقضية حقوق الإنسان ، منه تبدأ وإليه تنتهي وحوله تدور ومن أجله تطورت وتقررت وتم تقنينها في تشريعات ملزمة محليا ودوليا ، ولما كان الإنسان تتجسد فيه العلاقة الجدلية بين غاية حقوق الإنسان ووسيلتها ، لذا كان من الأهمية بمكان التوقف أمام ماهية الطبيعة الإنسانية Human Nature Essence ومحاولة التعرف عليها وتحديدها بالدقة المطلوبة ، لنعرف عن أي موضوع نتحدث ، وما هو الإنسان الذي تستهدفه تلك الحقوق الإنسانية التي هي جوهر موضوع هذا الكتاب ،
إن النظر في الطبيعة الإنسانية – وبخاصة بالنسبة للمشتغلين بالعلوم الاجتماعية ومهن المساعدة الإنسانية - ومحاولة الوصول إلى تصور له يطابق – بقدر الإمكان - حقيقته وما هو عليه في الواقع ، ينبغي – منطقيا – أن يسبق كل محاولة للنظر في المبادئ الاقتصادية ، أو النظم الاجتماعية ، وبرامج الرعاية الاجتماعية ، والتنمية الاجتماعية ، ومبادئ حقوق الإنسان ....... وغيرها من البرامج والنظم والخدمات المستهدفة للإنسان ، لأن معيار صلاحية هذه المبادئ والنظم والبرامج الخطط والمشروعات إنما يتمثل في المقام الأول في مدى صلاحيتها للإنسان ، ولا يمكن أن نعرف مدى صلاحيتها له إلا إذا عرفنا أولا ما هو الإنسان ، وما هي طبيعته وما هي مكوناته (1)
وعلى الرغم من الجهود المتواصلة التي بذلها الباحثون في العلوم الإنسانية والاجتماعية في دراسة الإنسان والطبيعة الإنسانية ، إلا أن ما أحرزته هذه العلوم من تقدم – في هذا الإطار - يعتبر ضئيلا جدا إذا تم مقارنته بما أحرزته العلوم الطبيعية ، وتكاد تجمع الآراء على أن ذلك قد يرجع – ضمن ما يرجع – إلى مجموعة من العوامل يمكننا أن نوجزها فيما يلي :
1- الطبيعة المعقدة – غاية التعقيد - للإنسان ، Complicated Nature وأنه كل لا يتجزأ ، ولا يمكن فهم تلك الطبيعة أو تفسيرها بسهولة ، ولذلك لا زالت تلك العلوم الاجتماعية عاجزة عن فهمه كوحدة واحدة وكل متكامل لا يتجزأ ،
2- وجود مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية Internal Life غير معروفة ولا يمكن الوقوف عليها بدقة وموضوعية لأنها غير خاضعة للحواس ، ولا يمكن أن يتوصل إليها العقل مستقلا ،
ولقد أشار إلى ذلك " ألكسيس كاريل " (2) بقوله : " لم يستطع العلم الحديث التوصل إليها – أي إلى تلك المناطق الباطنية الخفية في الإنسان - نظرا لأنه تحت تأثير " المادية العلمية "Sientific Materialism أصبح كل شيء لايرى بالعين أو لا يلمس باليدين ( أي لا يخضع للحواس ) مشكوكا فيه ، بل إن هذه الأشياء ( غير المنظورة أو غير الملموسة ) أصبحت مدعاة للسخرية بسبب صلتها المفترضة بـ " الميتافيزيقا " Metaphysics ، فلا شيء علمي أو حقيقي – في نظر تلك المادية العلمية - إلا أن يدرك بالحواس ، أو يرد إلى أسباب فيزيائية Physical Causes ، وبناء على ذلك أصبح من غير الممكن الوصول إلى نتائج وحقائق ذات معنى وقيمة عن الإنسان ، لما فيه من جوانب لا يمكن التحقق منها باستخدام ذلك المنهج المادي ، ومن هنا كان من الطبيعي أن تختلف الآراء ، وتتعدد النظريات ، وتتناقض الرؤى والتفسيرات حول طبيعة الإنسان وتكوينه وماهيته ، وهو الأمر الذي يفسره ( كاريل ) في كتابه الشهير " الإنسان ذلك المجهول " (3) بقوله : " ...... كل آرائنا عنه ( أي الإنسان ) مشربة بالفلسفة العقلية Rational Philosophy ، وهذه الآراء والنظريات والأفكار جميعا تنهض على فيض من المعلومات غير الدقيقة ، بحيث يراودنا إغراء عظيم لنختار من بينها ما يرضينا ويسرنا فقط ، ومن ثم فإن فكرتنا عن الإنسان تختلف تبعا لإحساساتنا ومعتقداتنا ،
وثمة رأي آخر يقول أن إخفاق العلوم الإجتماعية والإنسانية الحديثة في التوصل إلى التصورالدقيق والواقعي للطبيعة الإنسانية - المطابق لما هي عليه في الحقيقة والواقع – إنما يرجع إلى الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها نظريات تلك العلوم ، وهو ما أشار إليه (رجب ) بقوله (4) : " لو أننا قمنا بتحليل الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها نظريات علم النفس الحديث فيما يتصل بالطبيعة البشرية ، لوجدنا مع " كارل روجرز " أن لكل تيار في علم النفس فلسفته الضمنية الخاصة به عن الإنسان ، وهذه الفلسفات وإن كانت في الأغلب لا تطرح بصراحة ، فإنها تمارس نفوذها بأساليب خفية ، فالإنسان عند السلوكي ( أي أصحاب النظرية السلوكية Behavioral theory في علم النفس ) مجرد آلة ، آلة معقدة Complex Machine ولكنها مع ذلك قابلة للفهم ، وفي وسعنا أن نتعلم كيف نؤثر فيه ليفكر ، ويتحرك ويتصرف بالطرائق التي نختارها له ، والإنسان عند الفرويديين ( أصحاب نظرية فرويد Freud's theory ) كائن غير عقلاني ، رهين ماضيه بلا فكاك ، وحصيلة لذلك الماضى ، أي حصيلة عقله اللاواعي "
من كل ما سبق نستنتج أن العلوم الاجتماعية لم تتمكن بعد من التوصل إلى فهم حقيقي للإنسان وطبيعته وماهيته ، وكل ما أسفرت عنه وتوصلت إليه في هذا الصدد هو – كما رأينا – تصور مبتسر للإنسان لم يتمكن إلى اليوم من الوصول إلى حقيقته ، لذا كان لابد أن نعرض للرؤية الإسلامية للطبيعة الإنسانية ، وما الذي يمكن أن تضيفه إلى الرؤية الوضعية للعلوم الاجتماعية والانسانية ،
2-2 الطبيعة الإنسانية في التصور الإسلامي : Islamic Conception
يخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض ، يعمرها وفق منهج الله تعالى ، وجعل له مكانة متميزة تتناسب وخطورة المهمة والرسالة التي ألقيت على كاهله ، وطلب منه أداءها على الوجه الأكمل قدر استطاعته ، قال تعالى :
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }(البقرة30 ) ،والمعنى – والله أعلم بمراده – كما جاء في (التفسير الميسر ) هو ( إني جاعل في الأرض قومًا يخلف بعضهم بعضًا لعمارتها ) (5)
فالإنسان في التصور الإسلامي كما نستشفه من الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية الصحيحة يمكن تلخيصه فيما يلي :
- أن الإنسان هو ذلك الكائن ( المخلوق لله تعالى ) الفريد ، ثنائي التكوين Double Origination ( حيث أنه مخلوق من عنصرين : " جسد " من طين ، و " روح نورانية " من أمر الله تحل في الجسد فتحييه ) ، قال تعالى : " وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " (الحجر : آية : 29) ، وينتج عن اندماج الروح بالبدن " نفس " تدبر هذا المخلوق وتعطيه وحدته وتكامله وتميزه ،
لذا فالإنسان في التصور الإسلامي : مخلوق فريد ، عاقل ، مكرم ، مكلف ، مريد ، مختار ، مسئول ، مخلوق لغاية سامية ووظيفة رئيسة تتمثل في عبادة الله ، تلك العبادة المتضمنة لمعرفته وتوحيده وتعظيمه وطاعة أمره ، والقيام بما شرع لعمارة الأرض التي استخلفه فيها ، وبتعبير متكافئ خلق الله الإنسان لعبادته ، وجعله خليفة له في الأرض ، وأمره بعدة تكاليف في الدنيا هدفها الحفاظ علي حياته واستمرار النوع وتعمير الأرض ، فإن أحسن القيام بها وأداها في حدود ما شرع الله ، استمتع بالحياة وعاش آمنا مطمئنا في علاقته بالله وبنفسه وبالناس من بني جنسه ، وبالكون الذي يحيط به ، وإلا فالعكس صحيح ،
وهكذا فإن نظرة الإسلام إلي الإنسان والطبيعة الإنسانية بسيطة وواضحة ، وعنها يتفرع كل ما علي الإنسان من فرائض وتكاليف وواجبات ، وما له من حقوق ، فالمطلب الحقيقي والأساسي في الإسلام هو أن يخلق في نفس الإنسان حالة العبودية والخضوع لله عز وجل ، والعبودية في التصور الإسلامي هي التوجه بكل نشاط حيوي إلي الله ، ومراعاة ما يرضي الله في هذا النشاط وما يغضبه ، وتوقي هذا الغضب ، والإخلاص لله والعمل علي نيل رضاه ، فعبودية الإنسان تفرض عليه أن يأتمر بما يأمره الله به ، وينتهي ويمسك عما ينهاه عنه ، لقوله تعالي: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }( الشورى : آية : 10 ) ، كما أن عبودية الإنسان لله – بهذا المعنى الشامل - تعتبر قمة التحرر من شهوات نفسه ونوازعها ، ووساوس الشيطان ،
هذا وثمة مجموعة من المفاهيم الأساسية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ، ذات الأهمية الخاصة فيما يتعلق بماهية الإنسان والطبيعة الإنسانية لابد من الوقوف عندها – بالذكر والبيان والإيضاح - في محاولتنا للتعرف على حقيقة وجوهر تلك الطبيعة في منظور الإسلام ، ونوجز فيما يلي بعض تلك المفاهيم - بما يخدم القضية التي نحن بصددها وهي قضية حقوق الانسان - والتي يتمثل أهمها في المفاهيم التالية :
- مفهوم الكرامة الإنسانية ( التكريم الإلهي للإنسان كمخلوق فريد ومتميز ) ، ( ولقد كرمنا بني آدم ..... ) ( الإسراء : آية : 70) ،
- مفهوم الإستخلاف للإنسان في الأرض والكون ، ( إني جاعل في الأرض خليفة ..... ) ( البقرة : آية : 30) ،
- مفهوم الإعمار للأرض والكون : ( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) ( سورة هود : آية 61) ،
- مفهوم العبادة لله ، وتحقيق العبودية الكاملة – الخالصة والمجردة - له سبحانه بالمعنى الشامل للعبادة والعبودية ، قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ( الذاريات : آية : 56) ، وقال عز من قائل : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، وبذلك أمرت ....الآية )
- مفهوم الإبتلاء والاختبار كسنة ماضية ومبدأ هام تقوم عليه الحياة الدنيا : (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ( الملك : آية : 2) ،
وخلاصة القول فإن ثمة أمور رئيسية توضح مفهوم الطبيعة الإنسانية من وجهة النظر الإسلامية ، وهذه الأمور تتعلق بأهمية صلة الإنسان بربه وخالقه ( إنطلاقا من المكانة التي يحتلها البعد الروحي في تكوين الإنسان ) ، وتتعلق بجوهر الإنسان وتكوينه ، وبإرادة الإنسان وحريته في الإختيار ، وبجانب الشر والخير فيه ، وبجوانب شخصيته المتعددة والمتنوعة ، وأخيرا باختلافه المتميز عن سائر الأجناس الأخري التي تشاركه الحياة في هذا الكون ،
ونعتقد – ونحن بصدد الحديث عن الحقوق الإنسانية – أن من الأهمية بمكان أن نفصل قليلا فيما يتعلق بمفهوم الكرامة الإنسانية، والتكريم الإلهي للإنسان في المنظور الإسلامي ، باعتبار أن تلك الكرامة تعد الركيزة الأساسية التي تأسست عليها فكرة حقوق الإنسان ،
2-3 الإسلام والكرامة الإنسانية : Human Dignity
لقد ميز الله الإنسان بالعديد من الخصائص والسمات التي لم تكن لغيره من المخلوقات ، وأسبغ عليه من الكرامة والتفضيل ما لم ينله كثير ممن خلق الله تعالى ، ومنحه من الحقوق ما يكفل له الأمن والاستقرار ، وما يحفزه إلى القيام بتلك المسؤولية الخطيرة المنوطة به ، وما يدفعه ويعينه على الاضطلاع بمهامه ورسالته في الحياة ، وتتمثل أنواع ومظاهر هذا التكريم الإلهي للإنسان في العديد من المظاهر مثل : تكريمه بالخلق والإيجاد والتكوين ، وتكريمه في الحياة الدنيا ، وتكريمه عند الموت وبعده ، وتكريمه في الدار الآخرة ، ولقد سجل القرآن الكريم تلك المكانة المتميزة والمحترمة للإنسان – بالشمول والإحاطة - في قوله تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } (الإسراء : آية : 70 ) ، والمعنى كما قال بعض المفسرون من أهل العلم ( 6 ) " ولقد كرَّمنا ذرية آدم بالعقل وإرسال الرسل، وسَخَّرنا لهم جميع ما في الكون، وسَخَّرنا لهم الدواب في البر والسفن في البحر لحملهم، ورزقناهم من طيبات المطاعم والمشارب، وفضَّلناهم على كثير من المخلوقات تفضيلا عظيمًا " ، وفي تفسير الجلالين : " (ولقد كرمنا) فضلنا (بني آدم) بالعلم والنطق واعتدال الخلق وغير ذلك من مظاهر التكريم ، ومنه طهارتهم بعد الموت (وحملناهم في البر) على الدواب (والبحر) على السفن (ورزقناهم من الطيبات ، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا) كالبهائم والوحوش (تفضيلا) فـ من في قوله (ممن ) بمعنى ما أو على بابها ، وتشمل الملائكة ، والمراد تفضيل الجنس ولا يلزم تفضيل أفراده ، إذ هم أفضل من البشر غير الأنبياء " ، مما يعني أن هذه الكرامة والمكانة إنما هي للإنسان – مطلق جنس الإنسان – بصرف النظر عن نوعه (ذكرا كان أم أنثى ) ، أو لونه ، أو لغته ، أو معتقده ، ولا شك أن من كرمه الله تعالى فلا يجوزلأحد أو جهة أيا كانت أن تمتهن تلك الكرامة التي شاء الله أن يجعلها لهذا المخلوق العجيب العظيم ، الذي استحق – وعن جدارة - وصف الشاعر العربي :
دواؤك فيك وما تبـــــصر *** وداؤك منك وما تشـــــعر
وتحسب أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
ولم يكتف الإسلام بتقدير واحترام الإنسان وكرامته عند خلقه وحال حياته فحسب ، بل امتد هذا الاحترام وتلك الكرامة للإنسان عند وبعد مماته أيضا ، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس مع بعض صحابته حينما مرت بهم جنازة ، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم واقفا احتراما للميت ، فقال الصحابة : إنها جنازة يهودي يا رسول الله ، فرد – عليه الصلاة والسلام – بلهجة حاسمة ، " أليست نفسا ؟ " (7) ، إلى هذا الحد يحترم الإسلام ويكرم النفس الإنسانية أيا كانت ، ويحافظ عليها ويؤمنها بكل أشكال الأمان ما دامت تلك النفس لم تقدم شرا أو إساءة للإسلام والمسلمين ، ذلك أن من خصائص الإسلام – التي لا تخفى على لبيب ، ولا ينكرها منصف - أنه دين يحمل في تشريعاته وأحكامه وتوجيهاته " النزعة الإنسانية ألأصيلة " وذلك من خلال ما أقره القرآن الكريم في العديد من الآيات القرآنية الكريمة ، والتي منها قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }(الحجرات13) ،
وفضلا عن ذلك فإن الشريعة الإسلامية قد ضمنت لكل فرد من الأفراد حقوقه الأساسية – منذ أكثر من أربعة عشر قرنا – تلك الحقوق التي تتمثل في الكليات الخمس ( الضرورات الخمس ) المتمثلة في : حفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ الدين ، وحفظ المال ، وحفظ النسل ، ولاشك أن أول هذه الحقوق الأساسية حق الحياة لكل إنسان ، ويؤكد ( محمد عمارة ) على تفرد الرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان عن غيرها من الأفكار والرؤى الوضعية بقوله : " للرؤية الإسلامية لمبحث حقوق الإنسان تميزا يتجاوز الأسبقية الزمنية التي جاء بها الإسلام في تلك الحقوق قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومقدماته الغربية – ( الفرنسية 000 والأمريكية ) – بنحو أربعة عشر قرنا ، للرؤية الإسلامية في حقوق الإنسان تميز يتجاوز السبق الزمني 00 عندما ترتفع هذه الرؤية الإسلامية بهذه " الحقوق " الى مرتبة " الضرورات " Necessities ودرجة " الفرائض والواجبات " Obligations and duties ، ثم يعقب على ذلك قائلا : فهذا الذي عرفته فكرية الحضارة الغربية ، حديثا في باب " حقوق الإنسان " ، قد عرفته الحضارة الإسلامية ، بل ومارسته قديما لا كمجرد " حقوق " للإنسان وإنما " كفرائض إلهية وتكاليف وواجبات شرعية " ، لا يجوز لصاحبها – الإنسان – أن يتنازل عنها أو يفرط فيها أو يهملها ، حتى بمحض اختياره - إن هو أراد – وتلك زاوية لرؤية القضية ، ودرجة في تناولها تمثل إضافة " نوعية وكيفية " تزيد الرؤية الإسلامية غنى وأصالة وعمقا ، وتوفر المزيد من الفعالية والتأثير لهذه "الحقوق " كي تحقق المزيد من الأمن الاجتماعي للإنسان " (8) ،
يتبـــــع :
***************
الحواشي والمراجع :
===========
(1) - جعفر شيخ إدريس : " التصور الإسلامي للإنسان أساس لفلسفة الإسلام التربوية " ، مجلة المسلم المعاصر ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، القاهرة ، العدد (12) ، 1977م ، ص ص : 61-80
(2) – عفاف بنت ابراهيم الدباغ : " المنظور الاسلامي لممارسة الخدمة الاجتماعية " ، مكتبة المؤيد ، الرياض ، ص : 66
(3) – أليكسيس كاريل : " الإنسان ذلك المجهول " ، ترجمة : شفيق أسعد فريد ، بيروت ، مكتبة المعارف ، 1986م ، ص : 17
(4) - ابراهيم عبد الرحمن رجب : " الإسلام والخدمة الإجتماعية " ، الثقافة المصرية للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1421هـ /2000م ، ص : 80 ،
(5) - عدد من أساتذة التفسير تحت إشراف الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي : " التفسير الميسر " ، نقلا عن :
موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
www.qurancomplex.com
(6) – " نفس المصدر السابق " ،
(7) - رواه البخاري في صحيحه – ( كتاب الجنائز ) ،
(8) – محمد عمارة : " الإسلام والأمن الاجتماعي " ، دار الشروق ، القاهرة ، ط1 ، 1418هـ - 1998م ، 83-84 ،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: