ومن الحديث الشريف :
- روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول " ما أطيبك وما أطيب ريحك ما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك ماله ودمه "
( اللفظ لابن ماجه، وصححه الألباني )
- (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، " قالها عمر بن الخطاب في ندائه المشهور يخاطب فاتح مصر وداهية العرب عمرو بن العاص "
" إن الأمة المستـــعبدة بروحـــها وعقليتـــها،
لا تستطيع أن تكون حرة بملابسها وعاداتها "
الإنسان وما أدراك ما الإنسان، هو محور الوجود كله، وهو سيد في هذا الكون، فكل شيء في هذا الوجود - كما قرر القرآن الكريم، وشهد به الواقع المشهود - مسخر له، والديانات كلها جاءت من أجله، والوحي السماوي خطابٌ موجه إليه، وحديث عنه وعن ما ينفعه في دنياه وآخرته، وكل ما في القرآن الكريم – كتاب الله الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - إما حديث عن الإنسان خلقا وتكوينا وصفاتا وسلوكا، أو حديث إليه هداية وتوجيها وإرشادا وتكليفا ( إفعل ولا تفعل ) ، أو عن كل شيء مما في الوجود مسخر له، أو يتعلق به بأي شكل من الأشكال.
وهذا يعني أن موضوع الإنسان يعد – دون أدنى مبالغة – قضية القضايا في هذا الوجود كله، ويبدو الأمر كما لو أن العالم بدون الإنسان، لا وجود له، ولا قيمة له، ولا توجد فيه قضية، ولا تعكر صفوه مشكلة من المشكلات.
ولهذا فلا عجب أن كان الإنسان محور اهتمام العلماء والكتاب والمفكرين والفلاسفة ورجال الدين والمناطقة والنقاد منذ القدم وإلى يوم الناس هذا، في محاولات دؤوبة لمعرفة ماهية الإنسان وسبر أغواره، والسعي نحو فهم وإدراك ماهية طبيعته، وتكوينه، وكيف يفكر؟، وكيف يسلك ويتصرف في مواقف الحياة المختلفة ؟، تلك الجهود والمحاولات الدؤوبة التي أثمرت عن تنوع وتعميق فهم الإنسان،، وأثارت من التساؤلات أكثر مما قدمت من الإجابات، وانتهت في كل مرة إلى أن الإنسان – رغم كل ذلك - لا يزال مجهولا، وكلما تعمق البحث في الإنسان كلما ازداد الجهل به أكثر.، كما يشير " أليكسيس كاريل " في كتابه الشهير " الإنسان ذلك المجهول "
ولعلنا نلاحظ بحق أنه كلما أوغل العالم المعاصر في الرقي والرفاه المادي، وحقق طفرات هائلة وغير مسبوقة في التقدم العلمي والتكنولوجي، كلما كانت الحاجة ماسة إلى المزيد من الإهتمام بالإنسان، وكل ما يتعلق به باعتباره وسيلة كل تقدم وغايته في الوقت ذاته، ومن هنا كان من الطبيعى أن تتطور فروع المعرفة المتعلقة بالإنسان في شنى جوانب حياته، وفي هذا الإطار كان من الطبيعي أن تحتل قضية "حقوق الإنسان" مكان الصدارة في إهتمام عالمنا المعاصر، حيث أضحت تلك القضية من أكبر القضايا التي تشغل بال العالم اليوم بمختلف دوله وشعوبه، ودياناته وجنسياته، وفئاته وطبقاته، بين محقّ فيها ومبطل، ومصيب فيها ومخطيء، وبين غال فيها وجاف عنها،
إن قضية الحقوق الإنسانية هي قضية قديمة حديثة في نفس الوقت، قديمة قدم الانسان ذاته في أصل وجودها وفكرتها، حديثة في تطورها وتنظيمها وذيوعها وانتشارها وصياغتها في مواثيق وتشريعات ملزمة دوليا وإقليميا ووطنيا، وكذا في احتلالها مكان الصدارة في اهتمامات عالمنا المعاصر اليوم، فضلا عن أنها حديثة أيضا في استغلالها ورفعها شعارا لتحقيق مصالح خاصة، وأغراض لا شأن لها بالإنسان من قريب أو بعيد، حيث تحولت حقوق الإنسان من رسالة تحريرية للإنسان - كيفما وأينما كان وحيثما وجد -، إلى مشروع أيدولوجي لفرض خصوصيات ثقافة معينة، كما تم توظيفها على نطاق واسع لخدمة سياسات الهيمنة الجديدة للقوى الغربية كما هو مشاهد اليوم، ولعلنا نلاحظ أن غلبة مرجعية معينة ( بذاتها ) لفكرة حقوق الإنسان، وانتصار نظرة إيديولوجية محددة رجحت فهما غير متوازن للحقوق، هما أمران كان لهما الأثر البالغ - إلى جانب اختطاف شعار حقوق الإنسان على يد بعض القوى الدولية - في التنفير من الفكرة وإفراغها من محتواها،
نعم إن حقوق الإنسان هي قضية قديمة في إرهاصاتها وبداياتها الأولى منذ أن وجد الإنسان على الأرض، وجاءت الأديان لتعطيها زخما ودفعة قوية، ويأتي خاتم الأديان السماوية الإسلام ليجعلها بمثابة ضرورات وفرائض لا مجرد حقوق، وفرض الإسلام عدم انتهاكها أو التنازل عنها ، فمنذ أكثر من أربعة عشر قرنا كتب (عمر بن الخطاب ) إلى واليه على مصر (عمرو بن العاص ) : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً "، وهي حديثة في تنظيمها وتقنينها حيث نصت المادة الأولى من (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ) عام 1948م على ما يلي: (يولد جميع الناس أحرارا.................ً). وعلى بعد الشقة بين تاريخي هاتين الجملتين فإنهما تعطياننا فكرة عن كنه حقوق الإنسان الأساسية وتفصحان عن أبرز صفاتها،
لقد باتت " حقوق الإنسان" هي شعار الربع الأخير من القرن العشرين ( القرن الماضي ) بلا منازع، ولا زال هذا الشعار سائدا وبارزا ويفرض نفسه على الجميع ونحن نعيش في بدايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ولقد نشطت حركة الإهتمام والدفاع عن هذه الحقوق منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي نشاطاً فاق كل ما سبق لهذه الحركة أن حققته منذ نشأتها، وأضحى هذا النشاط عالمياً في انتشاره، متغلغلا في كل مجالات الحياة الإنسانية ( الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية .....وغيرها )، غير محدود بحد في موضوعاته، فكل ما يخطر على البال من شأن أو فكرة أو شيء يتصل بحياة الإنسان، تحول في تيار هذا الانتشار إلى صورة الحقوق الإنسانية الجديرة بالحماية والدفاع، وبرزت في هذا الصدد حقيقة لا يعتريها الشك مؤداها : أن " الإنسان بحقوقه " Human By His Rights فإذا كان الإنسان يملك كل حقوقه متمتعا بها حاصلا عليها بيسر وسهولة كان كامل الإنسانية، وإذا انتقص له حق من تلك الحقوق، أو تم إهداره، أو ضيق عليه فيه، كان في ذلك – بلا أدنى شك - انتقاص من إنسانيته، وكلما تعددت الحقوق التي تهدر أوتنتقص أو تسلب من الإنسان، يكون الانتقاص من إنسانيته بنسبة ذلك المقدار المهدر أو المنتقص منها .
ولعل من أهم مظاهر الإهتمام بحقوق الإنسان في العصر الحديث ما حدث من دمج تلك القضية ضمن مناهج التعليم بشتى مراحله ومستوياته ( ما قبل الجامعي، والجامعي، بل والدراسات العليا )، وذلك بهدف تعميق وعي الأجيال المتعاقبة بحقوق الإنسان، ونشر ثقافة تلك الحقوق بين كافة الفئات، ومختلف الأعمار، لذا فقد حرصت كلية الخدمة الاجتماعية بجامعة حلوان أن تتضمن لائحتها مقررا عن " حقوق الإنسان وعلاقتها بمهنة الخدمة الاجتماعية " في مرحلة البكالوريوس، ومقررات في الدراسات العليا بمختلف مستوياتها ( الدبلوم، والماجستير، والدكتوراه )، ولذلك باتت الحاجة ملحة للمؤلفات والدراسات التي تعالج قضية حقوق الإنسان من منظور مهنة الخدمة الاجتماعية، وفي هذا الإطار يأتي هذا الكتاب في محاولة لإلقاء الضوء على بعض الموضوعات التي تمثل – في نظرنا – أهمية خاصة فيما يتعلق بما نريد لطلاب الخدمة الاجتماعية في مجتمعنا المصري أن يلموا به، وأن يتناولوه بالدراسة والبحث والفهم والاستيعاب، وأن يتمكنوا من خلال هذا المقرر من اكتساب المعارف الضرورية المرتبطة بمفهوم حقوق الإنسان ومضامينها ووثائقها، والخبرات والمهارات والقيم وثيقة الصلة بهذا الموضوع، وما يمكن أن تسهم به مهنة الخدمة الاجتماعية في هذا الصدد من تنمية الوعي بحقوق الإنسان، والمساهمة في نشر ثقافتها بين الأجيال، وتصميم السياسات والخطط والبرامج التي تمكن الإنسان من الوعي بحقوقه والمطالبة بها، وعدم التهاون فيها، .....إلى غير ذلك من الأهداف،
فحقوق الإنسان تمثل مركز النظر في هذا الكتاب، وحجر الزاوية الذي تدور حوله كافة الموضوعات التي يتضمنها، فما المقصود بحقوق الإنسان ؟ وكيف نشأت الفكرة وكيف تطورت ؟، وما هي مكونات حقوق الإنسان ؟ وما هو الصريح من هذه الحقوق، وما هي المعاني الضمنية التي ترتبط بها ؟ وما طبيعة العلاقة بين الخدمة الاجتماعية كمهنة مساعدة إنسانية تمارس في العديد من مجالات الحياة الإنسانية، وبين حقوق الإنسان ؟ وما الذي يمكن أن تقدمه المهنة في هذا الصدد ؟ ..... كل تلك التساؤلات وغيرها يعتزم المؤلف أن يحاول الإجابة عليها في هذا الكتاب،
ونظراً للغموض الذي يكتنف التعريفات المختلفة لمصطلح ( حقوق الإنسان )، فقد تناول هذا الكتاب بالتعريف والتحليل مفهوم ( حقوق الإنسان )، وبعض المفاهيم الأخرى المرتبطة بهذا المفهوم، والتعرض للأسس الفلسفية والنظريات التي اعتمدت عليها التفسيرات المختلفة لهذه المفاهيم، بغرض الوصول إلى تعريف موضوعي يقدم معياراً عمليا لهذه الحقوق، كما تناول الكتاب أشكال حقوق الإنسان وتطورها عبر مراحل التاريخ، مع مقارنات لها في الثقافات المختلفة، وبوجه خاص الثقافة الإسلامية، وأخيرا يعرض المؤلف لأوجه العلاقة بين الخدمة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وكيف أن حقوق الإنسان تمثل الركيزة الأساسية التي تستند إليها فلسفة الخدمة الاجتماعية، والمباديء والقيم التي يلتزم بها الأخصائي الاجتماعي في ممارسته المهنية، قي شتى مجالات وميادين الممارسة،
وبعد
فإننا نأمل أن يجد الطلاب ( على مختلف مراحل تعليم الخدمة الاجتماعية )، والممارسون المهنيون المبتدئون للخدمة الاجتماعية في هذا الكتاب ما يعينهم على إدراك ما لقضية حقوق الإنسان من أهمية بالغة، سواء بالنسبة للمهنة أو لمن تتعامل معهم، وبخاصة إذا علمنا طبيعة العلاقة بين الخدمة الاجتماعية وحقوق الإنسان والتي هي – في نظرنا – علاقة تبادلية ذات اتجاهين، حيث تأخذ الخدمة الاجتماعية من حقوق الإنسان دافعا ومبررا لوجودها لممارستها المهنية، وإطارا قيميا لمبادئها المهنية ولفلسفتها التي ترتكز عليها، وضابطا وموجها لأهدافها التي تتوخى تحقيقها في المجتمع الذي تمارس فيه، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإن مهنة الخدمة الاجتماعية بوصفها ضمير المجتمع، ولتعدد المجالات والميادين التي تمارس من خلالها، والتي تكاد تغطي جميع أوجه نشاط الإنسان ومراحل النمو الإنساني، تعد وبحق واحدة من المهن الهامة التي يمكنها أن تلعب دورا هاما في مجال حقوق الإنسان سواء على مستوى إذكاء الوعي والفهم والإدراك عن طريق المساهمة في نشر ثقافة حقوق الانسان، أو على مستوى التطبيق الفعلي لحقوق الإنسان فردا كان أو عضوا في جماعة، أو مواطنا في مجتمع، وسواء كان طفلا أو امرأة، أو شابا أو مسنا، أو كان مريضا أو معاقا، أو حدثا، أو سجينا الخ
والمؤلف يود في ختام هذه المقدمة، أن يؤكد أن ما قدمه في هذا الكتاب لا يعدو أن يكون جهد المقل، خاصة وأن المكتبة العربية تكاد تخلو – إلا من النذر اليسير جدا – من الكتب والمؤلفات المعنية بموضوع حقوق الإنسان وعلاقتها بالخدمة الاجتماعية، حيث لا زالت الكتابة في هذه القضية في مراحلها الباكرة، الأمر الذي قد يرجع إلى الحداثة النسبية للمهنة من ناحية، وحداثة العهد بتدريس هذا المقرر في كليات ومعاهد الخدمة الاجتماعية في مجتمعاتنا العربية بوجه عام من ناحية أخرى، وأسأل الله تعالى أن ينفع بمافيه من صواب، وأن يغفر لي ما فيه من خطأ، ويأبى الكمال إلا أن يكون لله وحده جل جلاله،
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب،
أحمد يوسف محمد بشير
مدينة الشروق : يناير - القاهرة 2011م
يتبع .........
الهوامش :
======
(*) كتاب للمؤلف يعرض في مجموعة حلقات تحقيقا للفائدة لقراء الموقع،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: