المقومات المهنية للخدمة الاجتماعية – الحلقة السادسة
د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10715
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
3 - القيم والاخلاقيات المهنية Values & Ethics
سبق وأن أشرنا إلى أن القيم والمعايير والقواعد الأخلاقية تشكل أساسا هاما وشرطاً ضرورياً من شروط " العمل المهنى " أياً كان نوعه، وأيا كانت طبيعته، وبوجه خاص فى مهن المساعدة الإنسانية Humanitarian assistance professions ومن بينها مهنة الخدمة الاجتماعية،
وقبل الولوج إلى مناقشة مقوم " القيم والأخلاقيات " كمكون أساسي للممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية، وكشرط ضروري من شروطها المهنية، يجدر بنا بداية أن نحدد بإيجاز مفهوم "القيم" Value
مفهوم القيم :
تتعدد معاني وتعريفات " القيم " بتعدد مجالات استخدامها في النشاطات الإنسانية والتخصصات العلمية والمعرفية المختلفة، كما أن لكل معنى من هذه المعاني المتعددة خاصية المعيار الذي استخدم فيه وهكذا حتى ظهر ما يعرف " بنظرية القيم " Value Theory أو "علم القيم" Axiology،
ونود الإشارة إلى أن الدخول في تفاصيل تلك الآراء والاتجاهات المتعددة والمتباينة حول تحديد " مفهوم القيم " هو أمر ليس من اهتمامنا الآن، إلا أننا سنشير باختصار إلى أقرب تلك المعاني والتعريفات للموضوع الذي تتم معالجته في هذا الفصل.
وقبل أن نورد تعريفاً محدداً للقيم يتفق مع ما نقصده بها هنا، نشير بوجه عام إلى أنه يمكن النظر إلى " القيمة " (1) باعتبارها فكرة مجردة أو معيار ثقافي نقارن على أساسه الأشياء أو الأفعال فتحظى بالقبول أو الرفض نسبة لبعضها البعض، باعتبارها من الأمور المستحبة أو غير المرغوبة، الصحيحة أو الخاطئة، وبناء على هذا المعيار يمكن تقييم كل الأشياء في المجتمع من المشاعر والأفكار والأعمال والصفات، والأشخاص والجماعات والأهداف والوسائل ... إلخ، هذا ويرتبط الناس في المجتمع، أفرادا وجماعات بهذه القيم ارتباطاً عاطفياً فهم يتقبلونها ويتمثلونها ويسيرون على هديها في توجيه حياتهم وفى اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤونها وفى الحكم على الاشياء، (2)
وعلى هذا المعنى فان القيم تعد مجموعة من " التفضيلات المجتمعية " Societal preferences التي تحدد ماهو مرغوب فيه، وما هو عكس ذلك اجتماعيا، وهى موجهات سلوك Guides behavior، أوهى "الأساس الكيفى Qualitative basis الذي يوجه التفاعلات والتعاملات الإنسانية في المجتمع " (3)،
النسق القيمى للخدمة الاجتماعية (4) The Value System Of Social Work
أشرنا إلى أن القيم هي أحد مقومات النشاط المهني في أى مجتمع من المجتمعات، ومن ثم فهي ذات صلة وثيقة بكافة المهن العاملة في المجتمع، ومهن المساعدة الإنسانية بوجه خاص، ومهنة الخدمة الاجتماعية بدرجة أكثر خصوصية، حيث تستمد تلك الخصوصية للقيم والأخلاقيات في الخدمة الاجتماعية وأهميتها من عدة جوانب يمكن الإشارة إلى بعضها بإيجاز على النحو التالي :
- أن الخدمة الاجتماعية بطبيعتها وخصائصها هي لون من النشاط المهني القائم على التدخل ( المباشر أوغير المباشر) في حياة الناس والجماعات والمجتمعات لتحقيق أهداف محددة .
- أن عمل الأخصائي الاجتماعي في مجال العلاقات الإنسانية يجعله أشد حساسية للقيم الاجتماعية والدينية على حد سواء مع كافة الوحدات الإنسانية التي يتعامل معها.
- أن الخدمة الاجتماعية كمهنة هي في حقيقتها " أمانة عامة " حملها المجتمع للمتخصصين فيها، وكلفهم بأدائها على الوجه الأكمل، الأمر الذي يتطلب منهم الالتزام بمجموعة القيم والقواعد الأخلاقية التي يتطلبها أداء تلك الأمانة كالاستقامة والنزاهة واحترام الإنسان والإيمان بقيمته وكرامته، والشفقة والإحساس بالآخرين، واحترام الحقوق الفردية، والتعهد بأداء الخدمة على الوجه المطلوب، وتكريس أنفسهم من اجل الحقيقة .. وبعبارة جامعة أداء الخدمة بأمانة وكفاءة وإخلاص وتجرد .
- أن إنسانية المهنة، وقوة صلتها والتصاقها بالإنسان ساعد على تكوين نسقها القيمي الخاص بها، وتشكيل أساس مشترك من تلك القيم يدين به العاملين بها والممارسين لها،
وتأسيسا على ما سبق فإن للخدمة الاجتماعية " نسقها القيمي الخاص " والموجه لمجتمع الخدمة الاجتماعية، ويطلق عليه في الولايات المتحدة الأمريكية " ميثاق الشرف للخدمة الاجتماعية " Social Work Code of Ethics، وجاء هذا الميثاق كنتيجة طبيعية للتطورات المتلاحقة التي مرت بها الخدمة الاجتماعية، ولقد وضعت هذا الميثاق الجمعية القومية للأخصائيين الاجتماعيين في أمريكا National Association of Social Workers (NASW) وكان ذلك عام 1960م، وبالتحديد تم إعلانه في 13 أكتوبر من هذا العام، ثم تم تعديله في 11 أبريل عام 1967م، وفي العام 1979م أدخلت عليه بعض المواد الجديدة، وهو خاضع للتعديل والتطوير كلما اقتضى الأمر ذلك، ولأهمية هذا الميثاق الأخلاقي فان الجمعية القومية للأخصائيين الاجتماعيين في أمريكا (NASW) تحافظ على تعميمه ونشره في كل مطبوعاتها وإصداراتها المتتابعة، كما أن حفلات تخريج الأخصائيين الاجتماعيين هناك تشهد في كل عام ( القسم ) على احترام وتبنى هذا الميثاق والعمل بموجبه . (5)،
وينص هذا الميثاق الأخلاقي على أن الخدمة الاجتماعية كمهنة تنبع – في الأصل - من المثل العليا الدينية والإنسانية والديمقراطية، لإشباع الاحتياجات وتنمية القدرات الإنسانية، وينبغي أن يكرس الأخصائيون الاجتماعيون جهودهم لصالح رفاهية الإنسان ولتنمية المعرفة العلمية واستخدامها لصالح الإنسانية والمجتمع، كما يجب العمل من اجل تنمية الموارد لإشباع احتياجات الأفراد والجماعات والمجتمعات المحلية والقومية والمجتمع العالمي بأسره، والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين .
ومن أمثلة القيم التي تشكل أساس الممارسة المهنية في المجتمع الأمريكي اليوم قيم : العدالة الاجتماعية، المدافعة، العمل الاجتماعي، قضايا العلاقة بين المرأة والاستقلالية، الحصول على الحقوق .... وغيرها من القيم،
ويضم الميثاق الأخلاقي للخدمة الاجتماعية في الولايات المتحدة (15) مادة يلتزم بها ممارسي الخدمة الاجتماعية في المجتمع، وبتحليل تلك المواد نجد الارتباط الوثيق بينها وبين مجموعة من القيم الإنسانية Human Values والتي تتمثل في : نشر العدالة Spread Justice احترام الفروق الفردية Respect For Individual Differences المحافظة على أسرار العملاء client secrets Maintain، وتحقيق التعاون مع بقية المهن، Cooperation with other professions، إثراء الممارسة المهنية، مساعدة المجتمعات، إعطاء الأولوية للخدمات العامة، public services Priority، وضوح الدور في التعليم المستمر، تحسين العلاقة بين المنظمات، المساهمة في برامج الرعاية الإنسانية، (6)
إن القيم والمعايير الأخلاقية للخدمة الاجتماعية هي – في حقيقة الأمر – إلتزام أخلاقي يتم غرسه وتضمينه وتطويره في روح ووجدان ممارسي الخدمة الاجتماعية، ولا مجال للخروج عنه، وعن مضمونه ومحتوياته، ويعمل الممارسون على الإلتزام به نحو عملائهم، ونحو المؤسسات التي يعملون من خلالها، ونحو المجتمع بوجه عام، ولذلك كان من الطبيعي أن تتضمن قائمة الأخلاقيات التي ينبغي أن يلتزم بها الممارسون المهنيون أثناء تأديتهم لعملهم المهني العناصر والجوانب التالية :
- سلوكيات الأخصائي الاجتماعي وتصرفاته كأخصائي .
- التزامات الأخصائي الاجتماعي نحو العملاء والمستفيدين .
- التزامات أخلاقية للأخصائي الاجتماعي نحو زملاء المهنة .
- التزامات أخلاقية نحو مهنة الخدمة الاجتماعية .
- التزامات أخلاقية تجاه المجتمع الذي تمارس فيه المهنة .
- التزامات أخلاقية تجاه أصحاب العمل، والمنظمات الاجتماعية التي تمارس فيها المهنة .
هذا ومن بين القيم التي تتميز بها مهنة الخدمة الاجتماعية، وتوجه السلوك المهني للممارسين والمتخصصين في الخدمة الاجتماعية، كما توجه كافة التفاعلات والتعاملات الإنسانية التي تتم في محيط المهنة بين الممارس وبين الأنساق المختلفة للممارسة المهنية، نوجز مجموعة القيم التالية والتي تناولتها أدبيات الخدمة الاجتماعية :
1- قيمة كرامة الإنسان : Human dignity
حيث يعد الاعتراف بكرامة الإنسان وقيمته وعلو قدره ومكانته في الوجود، واحترام كل ذلك ووضعه في الاعتبار عند التعامل مع الإنسان أيا كان من القيم الجوهرية والمحورية لمهنة الخدمة الاجتماعية التي ظهرت وتطورت مرتبطة إلى حد كبير بمعاناة الإنسان، وبمشاكله في الحياة وبآلامه وآماله، ومن ثم فلا غرابة في أن يصبح الإنسان هو جوهر القيم في ممارسة الخدمة الاجتماعية، وأن تصبح كرامة الإنسان كإنسان هي القيمة الكبرى في هذا المجال، وكذلك فإن الخدمة الاجتماعية ترفض رفضاً قاطعاً إمكانية التغاضي – أو غض الطرف - عن تلك القيمة الأساسية أثناء العمل والممارسة بدعوى أن أهداف الجماعة أو الدولة يمكن أن تطغى على كرامة الإنسان وتكون لها الأولوية،
وقضية كرامة الإنسان حقيقة قرآنية، تؤكد أن الإنسان خلق مكرماً من خالقه جل وعلا، قال تعالى : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }( الإسراء : 70 )، وفى هذا إعلاء لقيمة الإنسان وكرامته وعلو آدميته كائناً ما كان لونه أو جنسه أو عقيدته أو عرقه أو مذهبه السياسي ... إلخ، وأيا كان وضعه الطبقي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، لان تلك الاعتبارات جميعها لا تمس جوهر الإنسان وبالتالي ينبغي ألا تؤثر على طريقة معاملته، ولا تؤثر على حقوق الإنسان وفى مقدمتها الحرية والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص ... وغيرها من الحقوق، وهو ما ينبغي أن تؤمن به الخدمة الاجتماعية وتتأسس عليه ممارستها المهنية في شتى المجالات المتنوعة ، على أن مفهوم الكرامة الإنسانية هو بالضرورة مفهوم دقيق ولا بد من توافر جملة من الشروط الأخلاقية والاجتماعية اللازمة لتحديد ماهيته تحديداً علمياً يجعل من الإنسان – كما أراد له خالقه جل جلاله – قيمة مركزية تسخر له كافة المهن الإنسانية، وعلى رأسها الخدمة الاجتماعية، وكذلك تسخر له كافة المؤسسات الاجتماعية في المجتمع لخدمته ورعايته، وضمان حقوقه الأساسية بما يجسد الإيمان بتلك الكرامة، والمكانة التي يتميز بها الإنسان .
2- حرية الاختيار والتوجيه الذاتى : Freedom of choice and self-direction
فحرية الاختيار خاصية أساسية من خواص الإنسان، وهى قيمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقيمة " كرامة الإنسان " وتتمثل " حرية الاختيار" في منع الإكراه والإجبار لما في الإكراه من تدمير لأهم خصوصيات التكوين الإنساني، فمن الطبيعي ألا تكون هناك أية مسئوليه مع الإكراه ولا كرامة لمكره، ولا معنى لفعل إنساني إذا انتفت منه الحرية أى القصد الواعي للفعل والعزم على إتيانه، على أننا نعنى بالحرية هنا حق الإنسان في توجيه حياته واختياراته الخاصة دون ضغط أو إكراه أو إلزام، وتبعاً لذلك فالخدمة الاجتماعية ينبغي أن تسعى إلى مساعدة الإنسان على تحمل مسئوليته إزاء نفسه، وإزاء أسرته ومجتمعه،
3- مسئولية المجتمع نحو رعاية مواطنيه : Responsibility of society to care for its citizens
تؤمن الخدمة الاجتماعية بأن المجتمع والجماعة الإنسانية مسئولة عن توفير الرعاية الاجتماعية بمفهومها الشامل لكافة أعضائه، وبخاصة فى حالات العوز والاحتياج، وهى قيمة تتناقض مع ما تدعو إليه بعض الأفكار والنظريات الاجتماعية التي تعفى الجماعة والمجتمع من أن يكون مسئولاً عن مواطنيه كما ذهبت " الدار ونية الاجتماعية " Social Darwinism التي تبنت فكرة " البقاء للأصلح " Survival of the fittest (7) بينما نجد أن الإسلام أكد على تلك القيمة على النحو الذي مثلته مقولة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الشهيرة : " لو أن بغلة عثرت بالعراق ( على أطراف الدولة الإسلامية يومئذ ) لسألني الله عنها لم لم تمهد لها الطريق يا عمر " وعمر هنا هو ولى الأمر الممثل للمجتمع والدولة، والمسئول عن رعاياها، وذلك تطبيقاً للحديث الشريف : " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " (8) فالإمام ( أى الحاكم أو ولى الأمر) راع وهو مسئول عن رعيته ... الحديث .
4- الإيمان بحق الإنسان في إشباع احتياجاته : Belief In The Right To Satisfy Human Needs
تؤمن الخدمة الاجتماعية بحق الإنسان ( كل إنسان ) فى إشباع احتياجاته البيولوجية ( الغذاء، الكساء، المأوى ...) والاجتماعية ( كالحاجة إلى الأمن، والحب، والتقبل ...)، ومن ثم فان من الوظائف الهامة للخدمة الاجتماعية المساهمة مع غيرها من المهن في تجسيد تلك القيمة بما يحقق الإشباع المرضي لتلك الاحتياجات الإنسانية (9)،
5 - الإيمان بأن التغير في الحياة الإنسانية من السنن الجارية :
حيث تعترف الخدمة الاجتماعية بأهمية التغير وحتميته باعتباره قانوناً سارياً، وسنة جارية في الحياة الإنسانية، فالإنسان قابل للتغير وقادر على إحداثه، كما أن الحياة نفسها متغيرة ولا تسير على وتيرة واحدة.
والتغير منه ما هو إيجابي ( لصالح الحياة والإنسان )، ومنه ما هو سلبي وإذا كان التغير سنة عامة منذ بدء الخليقة والى قيام الساعة، فان هناك فترات تزداد فيها سرعته، وتتعمق فيها آثاره وتداعياته كالعصر الذي نعيشه اليوم والذي يشهد تغيرات متسارعة نتيجة للاتصال السريع والتقدم العلمي والتكنولوجي وسهولة التزاوج بين الثقافات ونمو الوعي ، وحدوث الثورات والحروب والصراعات .... الخ .
6- التفاعل الموضوعي مع الاختلافات بين الجماعات الإنسانية :
فالخدمة الاجتماعية كمهنة تنطلق في ممارساتها من الإعتراف بأن الاختلاف بين البشر سنة جارية، وهو أمر حتمي، ومن ثم فهي تتعامل مع تلك الاختلافات والتباينات تعاملاً يتسم بالموضوعية والحيادية وبقدر كبير من التسامح، وتحرص على ألا تكون تلك الاختلافات مبعثاُ للتعصب والنزاع .
ذلك أن الاختلاف بين البشر ( أفرادا وجماعات ) حقيقة واقعة وسنة ماضية، تأسست عليها دنيا الناس وفطر عليها الناس، قال تعالى : {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ .....}هود118 – 119 )، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم ( لغاتهم ) وأعرافهم وأجناسهم، وأديانهم وعقائدهم وأفكارهم ، ومزاجهم وآرائهم ....إلخ . وهو اختلاف تنوع لا تضاد، وهو ما تؤمن به الخدمة الاجتماعية، وتعمل في إطاره مستخدمة أساليبها الفنية، وطرقها المهنية المختلفة لفهم هذا الاختلاف واستيعابه ومواجهة تداعياته السلبية .
7- للسلوك الإنساني مسبباته وإمكانية تغييره :
حيث تعترف الخدمة الاجتماعية بوجود مسببات للسلوك الإنساني، وعوامل تحدد نوعه وطبيعته وتدفع إليه، سواء تعلقت تلك الأسباب والعوامل بذات الإنسان نفسه، أو بالمحيط والبيئة التي يعيش فيها .
فالذي يدفع البشر إلى السلوك والتصرف بطرقة ما هو محتواهم الداخلي ( رؤيتهم للأشياء والوقائع والأشخاص والمفاهيم والقيم والأفكار والمعتقدات والتصورات التي تشكل هذه الرؤية، والتطلع إلى تحقيق الأهداف التي رسخوها، أو التي رسمت أذهانهم ....إلخ ) والى جانب ذلك هناك الدوافع والعوامل الخارجية المرتبطة بالبيئة والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية السائدة فيها .
إن هذه الحقيقة تتيح إمكانية تغيير السلوك الإنساني تبعاً للتغيرات التي يمكن إحداثها سواء في المحتوى الداخلي أو البيئة والظروف الخارجية، ولا شك أن الإيمان بهذه الحقيقة والإقرار بها يتعارض مع الاعتقاد بان هناك ثوابت في الطبيعة الإنسانية كالاعتقاد في وراثة السلوك والأخلاقيات .
8- المسئولية المتبادلة بين أعضاء المجتمع :
بمعنى الإيمان بالتساند المتبادل بين أعضاء المجتمع الواحد تسانداً وتعاضداً يتولد عن الشعور بالمسئولية المتبادلة بين أعضاء الجماعة، وهى سمة من سمات الحياة الاجتماعية التي هي ضرورة للإنسان بحكم الطبع والفطرة، فما دام الإنسان لا يستطيع أن يشبع احتياجاته الأساسية معتمداً على نفسه فقط (10)، بل إن هذا الإشباع لا يتم إلا داخل الجماعات الإنسانية المنظمة، وتبادل المنفعة بين أعضاء تلك الجماعات، ومن هنا كانت تلك المسئولية الاجتماعية المتبادلة من الأهمية بمكان في حياة الناس أياً كان وطنهم أو جنسهم أو دينهم أو انتماؤهم المذهبي، وما تفرضه تلك المسئولية من تحمل القادرين من أبناء المجتمع لبعض الأعباء التي تنوء الفئات الأخرى بتحملها ولا سيما فى أوقات الشدائد والحاجة والأزمات .
9- إحترام الفروق الفردية : (11)
فالخدمة الاجتماعية تعتقد بفردية كل إنسان، وتتعامل مع أنساقها المختلفة انطلاقاً من هذا الاعتقاد الراسخ، فلا يوجد اثنان من البشر متماثلان تماماً، كما لا يمكن أن تتماثل بصمات شخص مع شخص آخر، وكذلك فيما يختص بكافة الخصائص والسمات النفسية والجسمية والفعلية والاجتماعية، والفروق الفردية حقيقة واقعة تراعيها كافة المهن الإنسانية والأديان والقوانين ...، والتخصصات العلمية الإنسانية وتحاول دائماً آلا تتجاهلها، ويترتب على الإقرار بمبدأ الفروق الفردية حقيقة أخرى وهى : أن من المتعذر تصنيف الناس في قوالب جامدة، أو تصميم برامج نمطية لمساعدة الناس دون مراعاة لما بينهم من فروق وتباينات .
وصفوة القول : فإن من الأمور التي يجدر التنويه عنها فيما يتعلق بالنسق القيمى للخدمة الاجتماعية ، أنه لما كانت القيم الاجتماعية تصدر عن تراث المجتمع، وعن تجربته الوطنية التاريخية، والأيديولوجية السائدة فيه، وتطلعاته في المستقبل، وآماله وطموحاته (12) .. لذا فهي تختلف بطبيعة الحال من مجتمع إلى آخر تبعاً لثقافة المجتمع، وتاريخه وظروفه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية (13)
ولما كانت الخدمة الاجتماعية كمهنة قد نشأت في الأصل في مجتمع رأسمالي غربي، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، ثم انتشرت من هناك إلى الكثير من المجتمعات والدول التي - لا شك - تختلف عنها في الإطار الأيدولوجى، والسياق الثقافي والاجتماعي، كان لا بد من الحذر والحيطة فيما يتعلق بقيم الخدمة الاجتماعية، إذ أن بعض القيم التي نشأت الخدمة الاجتماعية في ظلها قد لا تنسجم بل قد تتعارض مع القيم الاجتماعية في الدول التي انتقلت إليها، فإذا كانت قيمة كرامة الإنسان كانسان – مثلا - لا تعرف حدوداً وطنية، فان هناك قيماً أخرى للممارسة تنبثق عن النظام الاجتماعي والاقتصادي القائم .
يتبـــع
===========
الهوامش :
======
(1) - تشير الدلالة اللغوية لمصطلح " القيم" فى لغة العرب إلى : الاستقامة والاعتدال، حيث ورد فى المعجم الوسيط : قوم المعوج أي عدلة وأزال عوجه، وقيم الشيء تقييما : قدر قيمته، والقيم : المستقيم، قال تعالى " فيها كتب قيمة " أي مستقيمة تبين الحق من الباطل، انظر : لجنة مجمع اللغة العربية بالقاهرة : المعجم الوسيط " مكتبة الصحوة، بدون تاريخ .
(2) - الفاروق زكى يونس : مرجع سبق ذكره، ص : 148.
(3) - عبد الحليم رضا عبد العال : مرجع سبق ذكره،ص : 243.
(4) - يشير مفهوم النسق : إلى ذلك الكل المنظم ويتكون من مجموعة من الوحدات أو العناصر بينها درجة عالية من الترابط والتفاعل والتساند والاعتماد المتبادل، والعناصر في النسق القيمي هي مجموعة القيم سواء الاجتماعية أو الدينية التي تمتزج معاً لتشكل معاً كلا واحدا، وهو ما يمكن أن يطلق عليه (النسق القيمي) .
(5) – مدحت فؤاد فتوح حسين : " الخدمة الاجتماعية "، الثقافة المصرية للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، 2000م، ص : 113- 114،
(6) – Suanna J. Wilson, : " Confidentiality In Social Work ," Lndon : Coflier Macmillan Publishers ,1978, p: 232.
(7) - إشارة إلى اقتحام " الدار ونية " للحياة الاجتماعية على يد (هربرت سبنسر) مؤسس مدرسة الدار ونية الاجتماعية والتي أكدت على أن التنافس هو قانون الحياة الاجتماعية، وأن البقاء هو للأصلح، وأن حماية المجتمع للفقراء من مواطنيه هو في واقع الأمر عملية ضارة بالمجتمع .
(8) - حديث صحيح متفق عليه فى البخارى ومسلم،
(9) - الحاجات الإنسانية Human needs هي كل ما يتطلبه الإنسان لبقائه واستمرار حياته، سواء لسد ما هو ضروري من رغبات ومتطلبات أو لتطوير ما هو مفيد لتطوره ونموه، وهى متعددة ومتنوعة ( بيولوجية، ونفسية، واجتماعية، واقتصادية، وروحية )، ومتجددة ونسبية،.
(10) - وهو أمر أصبح حقيقة لا يعتريها الشك، بل أصبح من المعلوم في ميدان العلوم الاجتماعية والإنسانية بالضرورة، فالإنسان – كائن مدني بطبيعته (بتعبير أرسطو) أوكائن اجتماعي بطبعه (بتعبير ابن خلدون) .
(11) - المعنى العام للفروق الفردية يشير الى اختلاف كل فرد عن سائر الافراد فى الخصائص النفسية والجسمية و الفعلية .
(12) - " القيم الاجتماعية" يمكن النظر إليها على أنها – فى الحقيقة – تركز وتلخص وتجرد أثمن ما في خبرات المجتمع وتجاربه في المعيشة المشتركة، التي تتضمن تحقيق أهداف المجتمع الإنساني .
(13) - الفاروق زكى يونس : مرجع سبق ذكره، ص : 151.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: