التنصير فكرا وواقعا وخطرا
يحيي البوليني - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 4863
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بين طوفان عارم وارد من المذاهب الفكرية المخالفة للفكرة الإسلامية يسبح الناس , وتتقاذفهم الأمواج يمنة ويسرة يتخبطون , فمنهم من يثبته الله فيعتصم به سبحانه ويتمسك بحبل الله المتين بالمعين الصافي النقي , ومنهم من تستغرقه تلك الأهواء فلا يدري إلى أي نهاية تورده , ومنهم من يعجبه سيره ويغتر بعقله فيكون ممن " ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " .
وفي ظل حالة التيه التي يحياها الكثير من البشر , والتي لا يميزون فيها بين غث وسمين , أو بين ما هو حقيقي وزائف , ولا يوجد معيار ثابت يحكم الناس به على المذاهب والأفكار والرؤى , فيكثر المزيفون السراق الذين يحاولون طمس الحقائق وتزييف النتائج والأحكام , ويزينون للناس حديثهم ويكثرون في ترديدها لكي تكون الفتنة ظلماء دهماء " إذا أخرج يده فلا يكد يراها " , فلا يكاد يصدق المسلم أن كثيرا جدا مما تردده الإذاعات والقنوات والمواقع الإخبارية والجرائد الرسمية هراء كاذب لا أصل له ولا وجود , فيتصوره لفرط الدعاية له حقا صراحا لا لبس فيه .
وللمذاهب القضايا الفكرية خطورتها الشديدة على واقع الناس بل على دينهم , وقد لا يشعرون بخطرها الكبير إلا بعد فترة طويلة من الزمن , فالفكرة التي تلقى في الطريق ولا يلتفت لها أحد قد تعاني في إزالتها عدة أجيال حتى تستطيع أن تزحزحها من الوجود – إن استطاعت - , فمجرد فكرة صغيرة مثل " حاجة الناس للتجديد في الدين وأن الدين قد نزل منذ خمسة عشر قرنا " , فهذه الفكرة التي يختلف باطنها عن ظاهرها المعلن , والتي نبتت بها العلمانية في بلادنا المسلمة , لازلنا نعاني منها ومن آثار تفريط جيل لم ينتبه لها ولم يدرك حجم خطورتها , ولا زالت إلى الآن معاناة المسلمين في كثير من البلدان الإسلامية في وضع مادة في دساتيرهم تؤكد أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع .
والحرب الفكرية أشد خطورة من الحرب العسكرية بالجيوش , وهي أكثر فعالية لهم وأجدى من الحرب بالأسلحة التقليدية , فقد جرب الغرب مرارا الدخول في حروب عسكرية مع المسلمين وفشل , حتى نصحهم قائدهم العسكري المأسور في المنصورة والذي سمي بالقديس لويس وذلك في وثيقة لا تزال محفوظة في دار الوثائق القومية بباريس " لا سبيل إلى النصر والتغلب على المسلمين عن طريق القوى الحربية لان تدينهم بالإسلام يدفعهم إلى المقاومة والجهاد وبذل النفس في سبيل الله لحماية ديار الإسلام وصون الحرمان والأعراض به , والمسلمون قادرون دوما للانطلاق من عقيدتهم إلى الجهاد ودحر الغزاة وانه لابد من سبيل آخر وهو تحويل التفكير الإسلامي وترويض المسلمين عن طريق الغزو الفكري بان يقوم العلماء الأوربيون بدراسة الحضارة الإسلامية ليأخذوا منها السلاح الجديد الذي يغزون به الفكر الإسلامي " .
وأسست تلك الوصية لرؤية فكرية جديدة , بدأت في الدعوة لغزو فكري جديد لبلاد الإسلام , فيقول أحد مفكريهم وهو "فرانسوا شاتلي " وهو مستشرق ومنصر وذلك في كتاب شهير له يسمى " غزو العالم الإسلامي " : " إذا أردتم أن تغزوا الإسلام وتخضدوا شوكته ، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها ، والتي كانت السبب الأول والرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم ، وسبب سيادتهم وغزوهم العالم ، عليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية ، بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وتاريخهم ، وكتابهم القرآن ، وتحويلهم عن كل ذلك بوساطة نشر ثقافتكم وتاريخكم ونشر ورح الإباحية ، وتوفير عوامل الهدم المعنوي ، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم ، والسذج البسطاء لكفانا ذلك ، لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها " .
وعلى الرغم من اختلاف أعداء الإسلام في الكثير من العقائد والأفكار والرؤى إلا أنهم اتحدوا في مواجهة الإسلام فكريا بعد أن اتفقوا عسكريا مرارا , فبعد هزيمة جيش الحملة الفرنسية وجلائها عن مصر عام 1801 م , توجه رفقاء المعلم يعقوب القبطي المصري إلى مرسيليا وكتبوا إلى بونابرت مراسلات يعرضون عليه فيها التعاون للعمل المشترك على إحلال القانون الفرنسي محل الشريعة الإسلامية في مصر كما عرضوا التعاون مع اليهود ضد الإسلام وأهله , فطلبت فرنسا المعاونة من كثير من الطوائف اليهودية كي تساعدها في مشروعها الاستعماري في الشرق المسلم مقابل مساعدة لليهود لإقامة وطن في أرض فلسطين .
ثم أغار على العالم الإسلامي ما سمي بالاستعمار الأوروبي ومن قبله الحروب الصليبية مغلفين بمسوح دينية كنسية ومطامع دنيوية ومن بعدهم انتشرت جمعيات التنصير في المجتمعات الإسلامية مصحوبة بالعديد من الإمكانيات المادية والبشرية وبالكثير من الوسائل الاتصالية التي تتطور يوما بعد يوم .
ولم يكن هدف التنصير دوما إدخال المسلم في النصرانية أو إدخالهم " ملكوت الله " كما يزعمون , بل كان الهدف دوما هو إخراج المسلم عن دينه وهذا ما صرح به أكابر منصريهم مثل صموئيل زويمر عام 1910 م " لقد جربت الدعوة إلى النصرانية فى أنحاء الكرة من الوطن الإسلامي ؛ وأن تجاربى تخوّلنى أن أعلن بينكم على رؤوس الأشهاد ، أن الطريقة التى سرنا عليها إلى الآن لا توصلنا إلى الغاية التي ننشدها , فقد صرفنا من القوت شيئاً كثيراً ومع ذلك فإننا لم ننقل من الإسلام إلى النصرانية إلا عاشقاً بنى دينه الجديد على أساس الهوى ، أو نصاباً سافلاً لم يكن داخلاً فى دينه من قبل ، حتى نعده قد خرج عنه بعد ذلك ، ولا محل لديننا فى قلبه حتى نقول إنه دخل فيه , ومع ذلك فالذين تنصّروا ، لو بيعوا بالمزاد لا يساوون ثمن أحذيتهم , يجب علينا قبل أن نبنى النصرانية في قلوب المسلمين أن نهدم الإسلام من نفوسهم ، حتى إذا أصبحوا غير مسلمين سهل علينا ، أو على من يأتى بعدنا أن يبنوا النصرانية فى نفوسهم أو فى نفوس من يتربون على أيديهم " .
جانب آخر من المهم ملاحظته , وهو الإجابة على تساؤل يقول هل نحن أمام دعوة أمرت بالعالمية ؟ أم أنها كدعوة كثير من الأنبياء خاصة لقوم معينين ؟!
إن الإجابة على هذا التساؤل وهي التي تفسر لنا أن هؤلاء المتنصرين لا يسعون بالفعل لتنصير غير النصارى من دافع ديني بل هو بهدف صرفهم فقط عن ديانتهم تكمن في كتابهم الذي ينعتونه بالمقدس ونحن نؤمن أن الكثير منه بل الأغلب محرف ومزور , ففي انجيل متى تأتي امرأة للمسيح عليه السلام لتطلب معونته فيرفض " ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا. * وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود.ابنتي مجنونة جدا.* فلم يجبها بكلمة.فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين اصرفها لأنها تصيح وراءنا.* فأجاب وقال لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.* فأتت وسجدت له قائلة يا سيد أعنّي.* فأجاب وقال ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكــلاب.* فقالت نعم يا سيد.والكلاب ايضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها " . (متى 15 : 21 – 28) وأيضا (مرقص 7 : 24 – 30) .
وفي نص آخر بانجيل متى أيضا في إرساله لتلامذته " قاله فى الإصحاح العاشر من نفس إنجيل متّى : "هؤلاء الإثنى عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا : إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل إذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة " (متى : آية 5 و 6 ).
فهذه هي نصوصهم التي يؤمنون به , وهي واضحة في أن النصرانية لا تُبذل ولا يُتقدم بها كديانة إلا لبني إسرائيل جنسا ولليهود ديانة فقط , وان ما يفعلونه الآن من إقامة تلك الشبكات الهائلة من المنصرين والمنصرات تحت كل المسميات والخدع الإنسانية لهو من السيطرة السياسية التي ترتدي ثوب الدين زيفا .
ومن العجيب أنه لا توجد للمنصرين تلك الشبكات التنصيرية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بين اليهود بقدر نسبتها وكثافتها بين المسلمين في كل أرجاء العالم بل وداخل فلسطين نفسها , وهناك جماعات يهودية منها حركة شاس تقدمت بقانون لأكثر من مرة يجرم ويعاقب قانونا على التبشير بالنصرانية بين أوساط اليهود في " إسرائيل " .
السياسة الغربية مخلب الكنيسة
ظلت السياسة الغربية مرهونة بالكنيسة علنا بلا صدام لفترات طويلة في التاريخ ثم باتت مخفاة ظاهريا فقط في الفترات التي تلتها , وقد اقترنت السياسة الاستعمارية بالنشاط التنصيري في كل مكان حل به أحدهما , فكان كل منهما معينا للآخر وجالبا له وداعما على كل المستويات , ولهذا كان التخلص من أيهما سلما للتخلص من ويلات الآخر , وهذا ما أكدته كل الحوادث أمثال ما قاله الجنرال غورو عندما دخل سوريا بعد وقوعها تحت الاحتلال الفرنسي , فكان أول ما فعله أن ذهب إلى المسجد الأموي في دمشق حتى وصل إلى قبر البطل صلاح الدين الأيوبي ليرفسه بقدمه ثم يقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين .
ويقر قس نصراني يدعى " مايكل بريور " معترفا بالدور الكبير للإنجيل في مساندة الاستعمار الغربي, فقال في كتابه " الكتاب المقدس والاستعمار " والذي طبع لأول مرة بالانجليزية عام 1995 وبالفرنسية عام 2001 , وجعله لبحث علاقة كانت خافية عليه بين النشاط الاستعماري ونصوص والكتاب المقدس , فقال : " قدمت الحروب الصليبية مثالا صارخا عن العلاقة بين الدين والسلطة السياسية ووضحت بشكل جلي كيف استخدم الكتاب المقدس في قمع الشعوب، ويرجع التفسير البابوي لهذا العنف إلى القديس " أوغسطين " الذي يعتمد على العهد القديم ليثبت أن الله يمكن أن يأمر بذلك , فالحرب التي تقوم باسم الله هي المثل الأفضل عن حرب عادلة، وأعلن البابا “أوربان الثاني” الحرب الصليبية الأولى في كنيسة “كليرمون” يوم 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1095م باسم المسيح وضمن للجنود المغفرة لجميع خطاياهم، فقد كانوا يفعلون ذلك وفقا للرغبة الإلهية " من لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني ".
ولا تزال السياسة الغربية لا تنفك عن نصوص كتابهم المقدس وليس أدل عليها من الجملة الشهيرة التي خرجت من فم جورج بوش إبان الحرب العراقية والتي سماها بالحرب الصليبية الجديدة , ولم تتغير تلك السياسة في عهده ولا عهد الذي تلاه وأظنها لن تتغير .
الغرب وتصدير فهم للعلمانية خاص بالمسلمين
للعلمانية فهم لمصطلحها حاول كل المنتسبين لها تثبيته في اذهان الجميع , ألا وهو فصل الدين عن واقع الحياة وبالمفهوم الكنسي النصراني " دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله " , وبمفهوم البلاد الإسلامية أن الدين الإسلامي لا يخرج أبدا من حيز أربعة جدران وهي المسجد وينبغي ألا يتدخل في أي شأن من شئون الناس فهم أعلم بما يصلحهم ولهم أن يستوردوا أي مذهب من شرق أو من غرب ليحكموا به حياتهم وواقعهم .
وبالتالي فالمتدين في نظرهم هو الذي يتمسك ويتفاعل مع الدين داخل هذه الجدران فقط وأن كل من يخرج بها خارج الجدران ينبغي محاربته لمحاربته للعلمانية والتقدم – كما يدعون – ويرمى بالجهل والسطحية والظلامية والتخلف وغيرها من التهم المعلبة الجاهزة والتي تنتهي للاسم الجديد الذي رافق كل المتدينين في العالم الإسلامي وهو " الإرهابيين " .
لكن الغرب لا يتعامل بهذه الطريقة ولا ينظر هذه النظرة للمتدين الغربي , فالمتدين عندهم يلقى قبولا واحتراما , بل إن كل الساسة الذين يريدون أن يكسبوا أصواتا انتخابية فلابد وان تمر عبر بوابة الدين والتدين ولا يمكن لأي مرشح في أي انتخابات أن يتجاهل دور الدين والتدين في حياته .
والمواقف الدالة على ذلك كثيرة ومتنوعة ومنها ما قالته هيلاري كلينتون حين ترشحت كمنافسة أمام أوباما فقال مادحة تدينها وهي تذم في نفس الوقت غريمها فقالت في تصريحات دعائية لها : " الله معي , وأوباما لا يحترم الدين " , وفي الانتخابات الفرنسية الأخيرة حاول كل من المتباريين الولوج للناخب الفرنسي عبر الدين والتدين فقال ساراكوزي " إن فرنسا تعاني نقصا في أعداد القساوسة الشباب القادرين على تقديم الإجابة على الكم الهائل من تساؤلات الشباب " , وكذلك كان شان كل المرشحين الآخرين فكانت كلماتهم مثل فرانسوا بايرو الذي قال " أنه مسيحي ممارس لشعائره الدينية " وقالت مرشحة أخرى " أن بعض القيم التي تؤمن بها تعود إلى تعليمها الكاثوليكي الذي تلقته في الصغر " .
وهكذا فان الغزو الفكري الذي قام به الغرب على ديار الإسلام كان بدفع ديني من الكنيسة لا لتنصير المسلمين بل لإبعادهم عن دينهم وتركهم مسخا لا روح فيه , وكان أيضا ماديا بحتا لسرقة واغتصاب كل الثروات ومنعهم من تنمية مواردهم وثرواتهم التي تجعلهم لو استغلوها أمة ناهضة في يوم من الأيام .
18-09-2012
|