د. أحمد يوسف محمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7479
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعــــــــــــــــــــد :
لاشك أن مطالعة سير ومناقب السلف الصالح لهذه الأمة وتدبرها، وتأمل أحوالهم ومواقفهم باعتبارهم نماذج نتأسى بها ونقتدي بنهجها، لهو زاد كبير للمسلم، المتعطش للأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة، بل إن ذلك يعد من أهم أسباب الثبات على هذا الدين الحنيف , فتاريخ أمتنا يذخر بما لا يحيط به العد والحصر من النماذج الفذة التي تعد منارات يهتدى بها، سواء كانوا من الرجال أو من النساء الذين تربوا على مائدة القرآن، وهدي النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، وما أحوج شباب هذه الأمة اليوم – في عصر ساد فيه القلق والحيرة واكتنفه الغموض والإضطراب - إلى مطالعة سيرهم، والتعرف على شخصياتهم كما صاغها الإسلام الحنيف، وصدق فيهم قول الله تعالى : {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }( الأحزاب23 )، ولله در من قال :
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ** إن التشبه بالرجال فلاح
وفيما يلي محاولة متواضعة لإلقاء الضوء على أحد تلك النماذج الغراء وهو التابعي الجليل : " ثابت بن أسلم البناني "، البُناني : بضم الباء الموحدة، وتخفيف النون الأولى،
وهو أبو محمد ثابت بن أسلم البناني البصري الإمام القدوة , تابعي من أعلام أهل البصرة وثقاتهم، ولد في خلافة أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه، حدث عن جمع من الصحابة كعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، وعن خلق كثير من التابعين، وحدث عنه كثيرون، وقد روى له الجماعة , وكان من أئمة العلم والعمل رحمه الله، مات سنة ( ثلاث وعشرين ومئة )، وقيل : ( سبع وعشرين )، وله ست وثمانون سنة.
قالوا عنه :
- قال عنه الإمام أحمد - رحمه الله - : ثابت تثبت في الحديث... وقال عنه أيضا:ً صحيح الحديث،
- وقال عنه أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس بن مالك - رضي الله عنه - الزهري ثم ثابت ثم قتادة،
- ويروى أن أنس بن مالك قال عنه يوما " إن للخير مفاتيح وإن ثابتا مفتاح من مفاتيح الخير "،
وعرف ثابت باجتهاده في العبادة وصبره عليها :
- فقال عنه هشام - رحمه الله - : ما رأيت قط أصبر على طول القيام والسهر من ثابت البناني، صحبناه مرة إلى مكة فكنا إن نزلنا ليلاً فهو قائم يصلي...وإلا فمتى شئت أن تراه أو تحس به مستيقظاً ,...... ونحن نسير إما باكياً وإما تالياً،
- وقال ثابت - رحمه الله - :" كابدت الصلاة عشرين سنة , وتنعمت بها عشرين سنة "،
- وقال عنه بكر المزني: من أراد أن ينظر إلى أعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت،
- البكاء من خشية الله : وكان ثابت - رحمه الله - شديد البكاء من خشية الله حتى كادت عيناه تذهب من شدة البكاء فجاءوا بطبيب يعالجها فقال له الطبيب: أعالجها على أن تطيعني , فقال في أي شيء قال الطبيب : على أن لا تبكي بعدها لأن البكاء يضرهما، فقال : فما خيرهما إن لم تبكيا وأبى أن يعالج رحمه الله،
- صحبة الصالحين : ومن أقواله رحمه الله، صحبت أنس بن مالك أربعين سنة , فما رأيت أعبد منه، مما يدل دلالة واضحة على أثر صحبة العلماء العاملين والصالحين والعباد على المرء، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : " الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " ( رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح وقال الترمذي : حديث حسن )،
- ومن أقواله - رحمه الله ـ أيضا :
ـ الصوم والصلاة : لا يسمى عابد أبداً عابداً وإن كانت فيه كل خصلة حتى تكون فيه هاتان الخصلتان : الصوم والصلاة , لأنهما من لحمه ودمه.
- التي تطلع على الأفئدة : وعنه أنه قرأ قوله تعالى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ }( الهمزة : 7 ) فقال: تأكله النار إلى فؤاده وهو حي , لقد بلغ فيهم العذاب , ثم بكى - رحمه الله- وأبكى من حوله، وهكذا فإن تلاوة القرآن بوعي وتدبر والتذكير به، من أنفع ما يكون للعابد الخاشع،
- فضل الذكر : وقال يحض على فائدة الذكر وضرورة الإكثار منه : ما على أحدكم أن يذكر الله كل يوم ساعة فيربح يومه،
- ذكر الموت : وقال عن ذكر الموت : ما أكثر أحد ذكر الموت إلا رؤي ذلك في عمله،
- متى يذكرني ربي : ومن روائع كلمه أنه قال يوماً لأصحابه : إني لأعلم متى يذكرني ربي عز وجل , ففزعوا من ذلك وتعجبوا لقوله , وقالوا متى!!! ؟ قال : إذا ذكرته ذكرني،
- وأما بنعمة ربك فحدث : وكان - رحمه الله – يحب لبس الثياب الثمينة، والطيالس العمائم، وفي ذلك أبلغ دليل على أن التعبد والزهد الحقيقي لم يكن أبدا بالمظاهر واللباس الخشن،
- تلاوة القرآن : وروي عن ولده محمد بن ثابت أنه قال : ذهبت ألقن أبي وهو في الموت (يحتضر ) , فقال: يا بني دعني فإني في وردي السادس أو السابع، أي أن كان مشغولا بتلاوة ورده اليومي من القرآن الكريم، فما أروعه من تطبيق عملي لقول الله تعالى : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }( الحجر: 99 )،
- صلاته في قبره : وحدث ابن شوذب قال سمعت ثابتا البناني يدعو ويقول : اللهم إن كنت أعطيت أحد من خلقك أن يصلي لك في قبره فأعطني ذلك، وقال يوسف بن عطية سمعت ثابتا يقول لحميد الطويل هل بلغك يا أبا عبيد أن أحدا يصلي في قبره ( إلا الأنبياء ) قال لا، فقال ثابت اللهم إن أذنت لاحد أن يصلي في قبره فأذن لثابت أن يصلي في قبره، قال وكان ثابت يصلي قائما حتى يعي فإذا أعيى جلس فيصلي وهو جالس، ويحتبي في قعوده ويقرأ فإذا أراد أن يسجد وهو جالس فتح حبوته،
- وحدث شيبان بن جسر عن أبيه قال أنا والله الذي لا إله إلا هو أدخلت ثابتا البناني لحده ومعي حميد الطويل أو رجل غيره ( شك محمد ) قال فلما سوينا عليه اللبن سقطت لبنة فإذا أنا به يصلي في قبره فقلت للذي معي ألا ترى قال اسكت فلما سوينا عليه وفرغنا أتينا ابنته فقلنا لها ما كان عمل أبيك ثابت فقالت وما رأيتم فأخبرناها فقالت كان يقوم الليل خمسين سنة فاذا كان السحر قال في دعائه اللهم إن كنت أعطيت احدا من خلقك الصلاة في قبره فأعطنيها فما كان الله ليرد ذلك الدعاء
- فضل الصلاة : وكان يقول الصلاة خدمة الله في الأرض لو علم الله عز و جل شيئا أفضل من الصلاة لما قال فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب
- ثابت في مرضه وشغفه بالعبادة : وقال ابن فضالة دخلت على ثابت البناني في مرضه وهو في علو له وكان لا يزال يذكر أصحابه فلما دخلنا عليه قال يا إخوتاه لم أقدر أن أصلي البارحة كما كنت أصلي ولم أقدر أن أصوم كما كنت أصوم ولم أقدر أن أنزل إلى أصحابي فأذكر الله عز و جل كما كنت أذكره معهم ثم قال اللهم إذ حبستني عن ثلاث فلا تدعني في الدنيا ساعة أو قال إذا حبستني أن أصلي كما أريد وأصوم كما أريد وأذكرك كما أريد فلا تدعني في الدنيا ساعة فمات من وقته رحمه الله،
- قيام الليل : وروي أنه قال يوما : كان رجل من العباد يقول إذا نمت واستيقظت ثم ذهبت أعود إلى النوم فلا أنام الله عيني قال جعفر كنا نرى ثابتا إنما يعني نفسه،
- قضاء الحوائج : وروي أن رجلا استعان بثابت البناني على القاضي في حاجة فجعل لا يمر بمسجد إلا نزل فصلى، حتى إنتهى إلى القاضي فكلمه في حاجة الرجل فقضاها، فأقبل ثابت على الرجل فقال لعله شق عليك ما رأيت قال نعم، قال ما صليت صلاة الا طلبت إلى الله تعالى في حاجتك
- دعاءه : وكان يقول في دعائه يا باعث يا وارث لا تدعني فردا وأنت خير الوارثين
- فضل الدعاء والذكر : ومما يروى عنه أنه قال : " بلغنا ان العبد المؤمن يوقف يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، فيقول الله له يا عبدي أكنت تعبدني فيمن يعبدني قال فيقول يا رب نعم، قال فيقول له أكنت تدعوني فيمن يدعوني فيقول يارب نعم، فيقول أكنت تذكرني فيمنن يذكرني قال يقول يارب نعم، قال فيقول له وعزتي ما ذكرتني في موطن قط إلا ذكرتك فيه، ولا دعوتني بدعوة قط إلا استجبتها لك، ثم قال ثابت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " إن العبد المسلم لا ترد له دعوة إما أن تعجل له في الدنيا وإما أن تدخر له في الاخرة وإما أن يكفر عنه بها خطاياه "
- حين يستجيب لي ربي دعائي : ومن روائع أقواله : " وإني لأعلم حين يستجيب لي ربي قال فعجبوا من قوله قالوا تعلم حين يستجيب لك ربك عز و جل قال نعم قالوا وكيف تعلم ذلك قال إذا وجل قلبي واقشعر جلدي وفاضت عيناي وفتح لي في الدعاء فثم أعلم أن قد استجيب لي قال فسكتوا "،
- أهل ذكر الله عز وجل : وقال أيضا : " ثابتا يقول إن أهل ذكر الله ليجلسون إلى ذكر الله وأن عليهم من الآثام كأمثال الجبال وإنهم ليقومون من ذكر الله عطلا ما عليهم منها شيء "،
- الموت والمصير : وقال أيضا – رحمه الله – يوما " وأي عبد أعظم حالا من عبد يأتيه ملك الموت وحده، ويدخل قبره وحده، ويوقف بين يدي الله وحده، ومع ذلك ذنوب كثيرة، ونعم من الله كثيرة "،
- القبر والعمل الصالح : ومن أقواله : " إذا وضع العبد المؤمن في قبره احتوشته أعماله الصالحة "،
- البعث والنشور : وروي عن جعفر أنه قال : " سمعت ثابتا قرأ القرآن فبدأ بسورة حم فصلت، حتى بلغ قول الله تعالى : " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا............. الآية " فوقف فقال بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعث من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له لا تخف ولا تحزن وأبشر بالجنة التي كنت توعد قال فيؤمن الله خوفه ويقر الله عينه فما عظيمة تغشى الناس يوم القيامة إلا والمؤمن في قرة عين لما هداه الله له ولما كان يعمل له في الدنيا "،
- نية المؤمن : وقال يوما : " نية المؤمن أبلغ من عمله إن المؤمن ينوي أن يقوم الليل ويصوم النهار ويخرج من ماله فلا تتابعه نفسه على ذلك فنيته أبلغ من عمله "،
- حسن الظن بالله عند الموت : ومما يروى عنه أنه قال : " قال كان شاب به زهو فكانت أمه تعظه يا بني إن إن لك يوما فاذكر يومك، فلما نزل به أمر الله أكبت عليه أمه فجعلت تقول قد كنت أحذرك مصرعك هذا يا بني فأقول إن لك يوما فاذكر يومك، فقال يا أمه إن لي ربا كثير المعروف وإني لأرجو أن لا يعذبني اليوم بفضل معروفه ويلي إن لم يغفر لي قال يقول ثابت رحمه الله حسن ظنه بالله عز و جل في حالته تلك "،
- ومن المواقف التي تنسب له أنه " تزوج امرأة فحمله رجل على عنقه إلى امرأته ليلة دخل بها فجعل الناس يقولون لو كان أمر الرجال في لحم ثابت ودمه لذهب ولكن إنما ذلك في عظمه "،
- حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم : وعن جميلة - مولاة أنس - قالت : " كان ثابت إذا جاء قال أنس يا جميلة ناوليني طيبا أمس به يدي فان ابن أم ثابت لا يرضى حتى يقبل يدي ويقول قد مست يد رسول الله صلى الله عليه و سلم "،
- صلاة داوود عليه السلام : قال ثابت : " كان داود نبي الله عليه السلام يطيل الصلاة ثم يركع ثم يرفع رأسه ثم يقول إليك رفعت رأسي يا عامر السماء، نظر العبيد إلى أربابها ياساكن السماء "،
- آل داوود عليه السلام : وقال ثابت أيضا " كان داود عليه السلام قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن ساعة من الليل إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي قال فعمهم الله في هذه الآية : " اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور "،
- بكاء داوود عليه السلام : وقال رحمه الله : " اتخذ داود سبع حشايا من شعر وحشاهن من الرماد، ثم بكى حتى أنفذها دموعه ولم يشرب داود شرابا إلا ممزوجا بدموع عينيه "،
وبعـــــد......... رحم الله ثابت بن أسلم البناني، فقد كان نعم القدوة ونعم الأسوة، وأسأل الله أن يجمعنا به وبأسلافنا العظام الصالحين في مستقر رحمته آميــــــــــــــن .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: