د. أحمد بشير - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5087
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
تمهـيـــــــــــد :
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعــــــــــــــــــــــد
في عصر سيطرت فيه المادة – بشكل غير مسبوق - على قلوب الناس وأفئدتهم، وتربعت فيه الدنيا على سويداء القلوب، وأعجب فيه كل امريء ذي رأي برأيه، معتقدا أنه وحده يملك زمام الحقيقة، يأتي حديثنا عن داء الغفلة والنسيان، وأثره الخطير على حياة إنسان اليوم، باعتبار أن تلك الغفلة أضحت اليوم من أهم الآفات والعلل التي ينبغي التنبيه على خطورتها وآثارها المدمرة على دنيا الإنسان ودينه وآخرته، وثمة مجموعة من الإعتبارات والحقائق – نحسب أنها من الأهمية بمكان - يجدر بنا التنويه عنها بين يدي هذا الموضوع، كمقدمات منطقية يمكن أن تساعد في تحفيز الهمم، وإثارة الإهتمام حول أهمية موضوع الغفلة والنسيان، وخطورته في حياة إنسان هذا العصر، نوجزأهمها فيما يلي :
أولا : أن على " المسلم " أن يدرك بيقين أن الله تعالى قضى وحكم بأن يجعل الجنة لمن آمن به وأطاعه واتقاه ولو كان عبدا حبشيا، ويجعل النار لمن كفر به وتمرد عليه وعصاه ولو كان شريفا قرشيا، وعد بالجنة ونعيمها أحبابه وأولياءه، وأوعد بالنار ولهيبها أعداءه، وبين أنوار الوعد ونيران الوعيد ينبغي أن يتحدد اختيار الإنسان .......نعم لقد جعل الله الجنة مكافأة وعطاءا إلهيا خالصا لعباده المؤمنين الصالحين، والجنة سلعة الله الغالية ، يمتن بها على عباده المتقين الأبرار، ولذلك فإننا نستمع إلى جلال الثناء الرباني، وأنوار الوعد الإلهي للمؤمنين العاملين بعظيم المثوبة، وكريم العاقبة، في قول الحق جل جلاله في سورة ( البينة ) : " { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ{7} جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ{8}، ( البية : 7-8 )،
فأكرم به من ثناء إلهي عظيم على أولئك المؤمنين العاملين الأبرار الأخيار الأطهار، الذين آمنوا وصدقوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بأبدانهم وجوارحهم، وأي ثناء أعظم من أن يصفهم الله عز وجل بأنهم " خير البرية "، ولذلك إستدل الصحابي أبو هريرة رضي الله عنه - وطائفة من العلماء - على أن المؤمنين أفضل من الملائكة بهذه الآية، لقوله تعالى " أولئك هم خير البرية " (1)، وياله من عطاء رباني كريم ذلك الذي وعد الله به المؤمنين المخلصين العاملين والمتمثل في جنات عدن، جعلنا الله والمؤمنين من أهلها، ليس هذا فحسب بل إن الآيات تلفتنا إلى أهم صفات هؤلاء الذين استحقوا هذا العطاء وهذا التكريم، فإلى جانب وصفهم بالإيمان، والعمل الصالح، فإنه وصفهم بالرضا عن الله، وبخشيتهم لله، ومن ثم وهبهم رضاه وهو أعلى وأعظم عطاء، فإن مقام رضاه عنهم أعلى مما أوتوه من ألوان النعيم المقيم في جنات عدن، ولذلك تختم الآيات ببيان أن هذا الجزاء الإلهي، وهذا العطاء الرباني، إنما هو لمن خشي الله عز وجل، واتقاه حق تقواه، وعبده كأنه يراه،
وإذا كان هذا هو عطاء الله تعالى للمؤمنين من عباده، فإن الله تعالى أرسل قذائف التهديد تزمجر، ونيران الوعيد على كل من تمرد على الله وكفر به، بقوله تعالى في نفس السورة ( البينة ) : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ{6} ( البينة : 6 )، فالنار – أعاذنا الله والمؤمنين من عباده منها - جعلها الله مظهر سخطه على الجاهلين الجاحدين الكافرين المتمردين، ولذلك قال تعالى : {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ }( آل عمران192 )،
ثانيا : أن المؤمن الحق يفرض عليه إيمانه أن يعيش حياته، ويكرس كل وقته وجهده من أجل تحقيق الغاية التي من أجلها خلقه الله وأوجده، والهدف الذي من أجله كان وجوده في الحياة ألا وهو تحقيق العبودية الخالصة لله عز وجل، قال تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ{57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ{58} ( الذاريات : 56- 58)، فالله تعالى ما خلق الجن والإنس ، وماأنزل الكتب، وبعث جميع الرسل إلا لغاية سامية , وهدف نبيل ألا وهو عبادة الله وطاعته عز وجل وحده، دون كل من سواه، وإخلاص العبودية له وحده جل شأنه، لينال رضوانه والجنة التي لأجلها يتنافس المتنافسون، ويعمل العاملون،
ثالثا : أن الجنة في حقيقتها إنما هي " سلعة الله الغالية " كما أخبرنا الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم في الصحيح مما ورد عنه، حيث يقول في الحديث الصحيح : " من خاف أدلج (2)، و من أدلج بلغ المنزل (3)، ألا إن سلعة الله غالية (4) ، ألا إن سلعة الله الجنة " ( الترمذي عن أبي هريرة ) (5)، قال شراح الحديث : هذا مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم لسالك طريق الآخرة، فإن الشيطان على طريقه ( يترصد له ) ، والنفس وأمانيه الكاذبة أعوانه ( أي أعوان الشيطان عليه ) ، فان تيقظ وانتبه وأخلص في عمله أمن من الشيطان ( ومكره وكيده وحيله ) وسلم من المعوقات وقطع الطريق، (6) وفاز بالجنة التي هي سلعة الله، إن المؤمن – في طريقه إلى الله - مأمور بالجدية والإلتزام والإستقامة، وبالمثابرة والتقوى، بحيث لا يضع يده ولا قدمه إلا في الطريق الصحيح، ولا يتبع إلا المنهج القويم، وهذا هو عين معنى التقوى: أن يشمر عن ساعده، ويخلص نيته، ويتقي الله، سرا وعلانية، ليل نهارٍ، وشهراً وسنة، وسنة بعد سنة، حتى يقف عند جدار الموت الذي هو نهاية كل حي، إلا الحي الذي لا يموت جل جلاله، وهنالك يقال له : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ( الزخرف:70-72 ) فماذا نظن الجنة ؟ أهي سهلة المنال بلا عناء وعمل، كلا والله، إن الجنة لا ينالها الغافلون، السادرون في غيهم، المتمردون على خالقهم، المتنكبون الطريق،
يؤكد ذلك قول ابن القيم رحمه الله :
والله لو أن القلوب سليمة **لتقطـــــــــــعت ألماً من الحــرمان،
لكنها سكرى بحب حياتها**الدنيا وســــــوف تفيق بعد زمــان،
يا سلعة الرحمن لست رخيصة** بل أنت غالية على الكســلان،
يا سلعة الرحمن ليس ينالها** في الألف إلا واحــــــــد لا اثنان،
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد** بين الأراذل ســـــــفلة الحيوان،
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ **خطاب عنك وهم ذوو إيمان،
يا سلعة الرحمن لولا أنها **حجبت بكل مكاره الإنســــــــــــان،
ما كان عنها قط من متخلف **وتعطلت دار الجــــــــزاء الثاني،
لكنها حجبت بكل كريهة **ليصد عنها المبطل المتــــــــــــواني،
وتنالها الهمم التي ترنو إلى** رب العلا في طاعة الرحمـــــــن،
ولذلك، ولأن الجنة هي " سلعة الله الغالية "، فلن تكون أبدا للغافلين والتائهين والشاردين والمعرضين عن منهج الله، ولا للكسالى المتقاعسين ذوي الهمم الخائرة القاصرة، المنشغلين بسفاسف الأمور والمنصرفين عن معاليها، ولا أولئك الذين لا يقيمون وزنا لأوامر الله تعالى ولا نواهيه، كما جاء في الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله " ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها " (7)،
(يتبع )
==================
الهوامش والمصادر :
(1) – الإنسان والملائكة أيهما أفضل ؟ على خلاف بين العلماء، فقد جاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه " مجموع الفتاوى " أنه سئل عن المطيعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هل هم أفضل من الملائكة ؟ فأجاب قائلا : " قد ثبت عن عبد الله بن عمرو أنه قال إن الملائكة قالت يارب جعلت بنى آدم يأكلون فى الدنيا، ويشربون ويتمتعون فاجعل لنا الآخرة كما جعلت لهم الدنيا، قال لا أفعل ثم أعادوا عليه فقال لا أفعل ثم أعادوا عليه مرتين أو ثلاثا فقال : وعزتى لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدى كمن قلت له كن فكان "، ذكره عثمان بن سعيد الدارمى، ورواه عبد الله بن احمد فى كتاب السنن عن النبى صلى الله عليه وسلم مرسلا،
وذكر الشيخ أيضا في نفس الموضع عن عبد الله بن سلام أنه قال ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد فقيل له ولا جبريل ولا ميكائيل فقال للسائل أتدرى ما جبريل وما ميكائيل إنما جبريل وميكائيل خلق مسخر كالشمس والقمر، وما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام معلقا على هذه النصوص : وما علمت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك وهذا هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة من أصحاب الائمة الأربعة وغيرهم، وهو أن الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة،
أنظر : - شيخ الاسلام احمد بن تيمية : " مجموع الفتاوى "، جمع وترتيب : عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مكتبة التقوى، الرياض، (د.ت.)، ج4، ص : 433
هذا وجمهور أهل السنة على أن الإنسان أفضل من الملائكة , و على أن محمدا صلى الله عليه و سلم أفضل الخلق , وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول : " وإن بني آدم أفضل من الملائكة، ويخطىء من يفضل الملائكة على بني آدم "،
- أنظر : عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميمي : " اعتقاد الإمام ابن حنبل "، دار المعرفة – بيروت، (د.ت )، ص :306
(2) – " أدلج " بالتخفيف أي سار من أول الليل وبالتشديد من آخره،
(3) - فمن خاف الله عز وجل أتى منه كل خير، ومن أمن الله اجترأ على كل شر،
(4) - أي رفيعة القدر،
(5) - قال الشيخ ناصر الدين الألباني : ( حديث صحيح )، انظر حديث رقم : ( 6222 ) في كتابه : " صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته "، المكتب الإسلامي، ص : 1117
(6) - أنظر : الإمام الحافظ زين الدين عبد الرؤوف المناوي : " التيسير بشرح الجامع الصغير "، مكتبة الإمام الشافعي، الرياض، ط3، 1408هـ - 1988م، ج2، ص : 804
(7)حسنه الألباني في " صحيح الجامع الصغير "، حديث رقم : 5498،
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: