عزيز العرباوي - المغرب
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10415
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
إن اللغات غالباً ما تختلف في نقل الواقع والحياة بكل تجلياتها، ويرجع هذا الأمر إلى وعي الإنسان المتكلم باللغة وعياً مختلفاً وقد يكون متعدداً. إن اللغات ليست مرآة عاكسة للواقع لأنها نوع من الإدراك للواقع، بل هي رؤية هذا الواقع، وهنا يبدو قول مارتن هايدجر الذي يرى أن "مرجع الحقيقة هنا هو ذاتية الفاعل الإنساني". فرؤية الواقع في حد ذاته مرتبطة بخبرة الإنسان المختلفة، فقد تتشابه اللغات في التعبير عن جوانب معينة من الواقع، لأن الناس يرجعون إلى أصل واحد ربما وُرِثت منه رؤى للعالم متشابهة أو متقاربة. فالاتصال بين الأمم يساهم في انتقال الكلام الخاص بمجموعة بشرية معينة إلى مجموعة مختلفة عنها. وارتحال مقومات لغوية معناه انتقال رؤى للعالم ناتجة عن تجربة معينة من مجموعة لها لغة خاصة إلى مجموعة أخرى لها لغة خاصة بها أيضاً (1).
فاللغة أساس الفكر، لأنه من خلالها نرى العالم، كما أن وعي العالم والحياة عموماً ينتقل إلى المتكلم المفكر. ومن هنا يمكن القول بأن اكتساب الفكر والوعي به لا يمر إلا عبر الاطلاع على لغات الآخرين بحيث يكون لها رصيد لغوي مهم في رؤيتها للعالم، وبالتالي الوعي بالمفاهيم والأفكار في ألفاظ معينة قد تولدت "من تنظيم اجتماعي ثقافي خاص متفاعل مع الأرض والتاريخ مثل الفتوة والنخوة والعرض والإمارة والخلافة والإمامة..." (2).
إن اللغة هي أداة تواصل وتفاعل؛ فتكون كذلك بالنسبة لأصحاب اللغة الموحدة؛ لكنها قد تكون غير ذلك عند من يختلفون عنهم في اللسان، ولذلك تبقى أهمية معرفة اللغة/ اللغات الأخرى محاولة لتخطي الجدار اللغوي المانع للتواصل الإنساني. لأن التنقل بين مختلف اللغات العالمية يساهم مساهمة حية في تحرير الذهن الإنساني المنغلق على ذلته. وبالتالي فالانفتاح الحضاري والثقافي على الآخرين يؤمن التفاعل البشري وينتج السلم والأمن الإنساني، ويحقق ذلك التواصل المنقطع باللغة المختلفة والقيم والتقاليد المختلفة...
العولمة اللغوية والثقافية:
يعتقد هيجل أن "كل ما هو عقلي فهو واقعي، وكل ما هو واقعي هو عقلي"، فكل لغة، حسب فون هيمبوليت، تمثل نوعاً معيناً من تفكيك العالم وإعادة بنائه وتنظيمه وفق ألفاظها وبنياتها التركيبية، حيث "إن كل لغة تحتوي على ميتافيزيقا خفية، بشكل لا يجعلها تسهم في التعبير عن الفكر، بقدر ما تشرطه وتشكله".
ومن هنا، ووفق المنظور الفكري والسياسي الحديث، فإن اللغة صارت متأثرة بباقي اللغات في العالم، تتفاعل معها، وتتأثر بها تأثراً سلبياً أو إيجابياً. فالعولمة بمفهومها الشامل تتجاوز المجالات التي أثرت فيها، كالتجارة والاقتصاد والسياسة، إلى قضايا ومجالات أخرى لها علاقة بالثقافة والفكر واللغة، فأصبحت اللغة والثقافة في وقت وجيز، وبفعل الانتشار السريع، إلى سلع تتداول لأهداف تجارية واقتصادية، مثل تعليم اللغات الأجنبية المنتشرة بشكل قوي في العالم. فالعولمة، بصيغة أخرى، لها صلة بالهيمنة الثقافية والسياسية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الغرب الأوروبي، فتمتد إلى الممارسات الثقافية واللغوية والتعبيرات الثقافية المختلفة، فتكتسح الهوية الثقافية للمجتمعات اللغوية عبر الإنجليزية في سائر دول العالم، وتجلب الخصائص الثقافية والفكرية للعولمة اهتماماً واضح المعالم عبر عدد من التخصصات العلمية (3).
يؤكد أحمد عبد السلام أن للعولمة عموماً، اتصال كبير بالهيمنة العالمية لعدد قليل من الثقافات واللغات، كالإنجليزية والفرنسية، فتؤدي هذه الهيمنة إلى تجاهل التنوع الثقافي واللغوي، وعدم احترام الخصائص الثقافية المختلفة لباقي الشعوب والمجتمعات. وبالتالي تحقيق غاية تغيير أنماط التقاليد والحياة، والتحكم فيها لتصبح نسخة مطابقة للنمط الغربي، حيث صارت المعتقدات الدينية والثقافية مهددة في عالم العولمة، فالسوق أخذ صفة الألوهية، فاعتبر الإنتاج والاستهلاك مفتاحين لإنقاذ الناس من المخاطر التي تلحق بهم في وجوده.
وعن العولمة اللغوية، يتحدث أحمد عبد السلام أيضاً عن ما يسمى بالتعبير عن المقومات الثقافية العالمية، أو الربط بين المقومات الدينية التراثية والمقومات العالمية الحديثة، بل عن تجديد مفاهيم المصطلحات المتداولة عالمياً، ولكنها تتجاوز تلك الجوانب للنظر في مصير اللغة من خلال قومية معينة باعتبارها وسيلة للتواصل والاندماج الاجتماعي. فاستخدام لغة محددة وواحدة يحيل مباشرة على وحدة الإحساس والموقف والتعبير والشعور، كما يساهم في انعكاس أنماطها على نمط تفكير أهلها، وعلى تاريخ أصحابها وثقافتها، وإبداعها التراثي والحديث ...(4)
فتنوع وتعدد اللغات في العالم مسألة إيجابية وأمر ضروري للإنسان عامة، بل إنه ضمان للحفاظ على السعادة البشرية، وعلى التواصل الإنساني والتفاعل الحضاري... وما العولمة اللغوية والثقافية وتطورها وتزايدها باستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، و في حد ذاته تكريس للأحادية اللغوية والثقافية، فيكون للثقافة الغربية الموقع الأفضل والمتقدم في العالم، في الفعل والقول والسلوك، وللغة الإنجليزية والفرنسية بشكل أقل الفضل الكبير للترقي في عالم السياسة والاقتصاد والمال والتجارة وحتى الثقافة... هذا ما تهدف إليه العولمة اللغوية المكرسة للأحادية العالمية...
ولعل ما يروج اليوم في مختلف البلدان العربية، وعلى ألسنة الضعفاء من الناس، أن الإنجليزية (الفرنسية في بلدان المغرب العربي) ي لغة العلم والاقتصاد والسياسة، وبدونها لا يمكن لأحد في العالم أن يجد لنفسه موطئ قدم في عالم اليوم... متناسين أن لهم لغة قوية وغنية برصيدها اللغوي والعلمي والمعرفي والأدبي والتراثي... يستطيعون من خلالها وبواسطتها التقدم على كل العالم، بل قيادته، كما حصل في الماضي، يوم كانت اللغة العربية بعلومها وآدابها رائدة في كل المجالات.
وبمقارنة بسيطة بين اللغة العربية وباقي اللغات في العالم، فإننا نجد أن لغتنا تستطيع بحكم رصيدها اللغوي الكبير وبمخزونها الاشتقاقي الذي مازال لم يستعمل كله إلى اليوم، قادرة على التفوق على باقي اللغات، بما تتميز به من صفات جمالية وإيقاعية، ومطابقة المستوى الصوتي فيها للمستوى الكتابي، أي تطابق الرموز الصوتية للرموز المكتوبة، وسهولة النطق بها، والشعور بموسيقيتها أثناء عملية النطق.
مظاهر العولمة اللغوية:
تحدد الدكتورة زينب بيره جكلي، أستاذة بقسم اللغة العربي في جامعة الشارقة، في مقالها "أثر العولمة على اللغة العربية" المنشور بموقع "أدباء الشام"، بعض مظاهر العولمة اللغوية، وتأثيرها على اللغة العربية وتطورها في العالم العربي وعند الناطقين بها، فتذكرها في النقاط التالية (5):
- الثنائية اللغوية في التعليم العربي وسيطرة اللغة الأجنبية في المدارس الخاصة والجامعات.
- استخدام ما أطلق عليه اسم العربيزية في وسائل الإعلام الحديث (الشبكة العالمية الإنترنيت).
- نشر الأبحاث العلمية بالإنجليزية والاعتراف (والفرنسية) بهما في الجامعات العربية.
- ازدواجية اللغة في المجتمع لا في التعليم فحسب، بل في كل مجالات الحياة الاجتماعية العربية.
- التعامل في السوق بالإنجليزية (والفرنسية)...
- تهديد الأمة بالانقسام بناء على اختلاف اللهجات واللغات في البلد العربي الواحد...
وفي شرحها لمستوى الثنائية اللغوية في العالم العربي، استحضرت الدكتورة جكلي نتائج مقابلة جريدة الشباب في لقاء مع بعض الطلاب الشباب في الإمارات العربية المتحدة حول مسألة محاولتهم استخدام اللغة العربية الفصحى في التواصل والدراسة، فكانت النتائج (6) على الشكل التالي:
1-كثير من الطلاب باتوا لا يحسنون التحدث بالفصحى لأنهم يتكلمون الإنجليزية منذ المرحلة الابتدائية، وبعض هذه المدارس تغرم الطالب الذي يتكلم بالعربية أموالا ليدع التلفظ بها.
2- بعض الطلاب صار يعد تعلم العربية مضيعة للوقت.
3- وبعضهم بات يكرهها وينفر منها ، والمرء عدو ما يجهل.
4- وهناك من يفخر لتحدثه أو لتحدث أولاده بالإنجليزية لغة العلم المعاصر بزعمه وصار يعد الفصحى "موضة قديمة" على حد قوله.
5- وأثبتت التجارب أن من يدرس بلغته يتفوق على من يدرس بغير لغته الأم كالإنجليزية للعرب، ولذلك فالتدريس بالأجنبية يؤثر على الكمية المعطاة من العلم كما صرح بذلك بعض أعضاء الهيئة التدريسية.
6- النجاح في المستقبل لا علاقة له بالنجاح في اللغة ، فألمانيا وفرنسا والصين وفنلندا واليابان وسوريا وفيتنام تدرس بلغاتها لا بالإنجليزية وكذلك في بعض مناطق كندا يدرس فيها بالفرنسية لغة أهلها الأم.
7- ضعف الانتماء العربي عند من يدرس بالإنجليزية بل فقدانه أحياناً، وتفضيلهم الخروج من الوطن، ولهذا صرنا كالفراش الذي يغرق بالنور فيحترق به، إذ خسرنا أبناءنا وانتماءنا وهويتنا حتى صار في أمريكا وحدها سبعة ملايين عالم غير أمريكي الأصل.
إن التأكيد على ضرورة الحفاظ على اللغة العربية من الاختراق اللغوي والثقافي الأجنبي ليس دعوة تنحو تجاه العصبية والقومية فقط، بل نابعة من شعور داخلي بالخوف على الأمة من التشتت والضياع والتيه في عالم يتكتل ويجتمع على مواجهتنا ثقافياً وفكرياً واقتصادياً وسياسياً... ولذلك فإن العولمة كمنهج سياسي ثقافي اقتصادي تجاري، استطاع أن يترك أثره في العالم أجمعه، بل في وطننا العربي المهدد بالتفرقة، والاختراق بكل تجلياته وأبجدياته المعروفة وغير المعروفة، والهيمنة الثقافية واللغوية التي بدأت تظهر ملامحها بقوة في العديد من البلدان العربية من المحيط إلى الخليج. إننا في حاجة إلى إعادة النظر في أنماط تفكيرنا الثقافي والعلمي واللغوي، فنواجه هذا المد العولمي المتوحش تحت مظلة السياسة والاقتصاد والتجارة، بينما هو لا يفتقر إلى الوسائل القوية والواسعة الانتشار والقادرة على التأثير في اللغة والثقافة العربيتين، فتجعلهما في مؤخرة الطابور العالمي، ولعلنا ندرك هذا الخطر علينا، لأن الغرب يدرك أيضاً مدى قوة اللغة العربية وإمكانياتها الكبرى على التأثير في ثقافات العالم وقيادته سياسياً وفكرياُ وعلمياً...
السياسة الثقافية واللغوية العربية في حاجة إلى تأسيس ميثاق قومي عربي يمكن من خلاله الحفاظ على لغتنا القومية ووضعها في مستوى أعظم بين لغات العالم وثقافاته... فإمكانياتنا المادية والبشرية والثقافية والمعنوية كثيرة تحتاج فقط بعض الأفكار المتقدمة سياسياً وفكرياً لتحقيق هذه الغاية العظمى...
---------
الهـوامـش:
1 - محي الدين حمدي، "تأويل الطبيعة والوجود"، مجلة علامات، العدد 40، وزارة الثقافة، الرباط، 2013، ص. 59.
2 - المرجع نفسه، ص. 59.
3 - أحمد عبد السلام، "العولمة والثقافة اللغوية وتبعاتها للغة العربية"، عن موقع: مجمع اللغة العربية الأردني: http://www.majma.org.jo/majma/index.php/2009-02-10-09-36-00/216-m606.html.
4 - المرجع السابق.
5 - زينب بيره جكلي، "أثر العولمة على اللغة العربية"، موقع أدباء الشام: http://www.odabasham.net/show.php?sid=17777.
6 - المرجع السابق.
----------
عزيز العرباوي
كاتب وناقد من المغرب
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: