تباعد الأزمنة وتقارب الغايات: قراءة في كتاب "رحلتان إلى اليابان"
عزيز العرباوي - المغرب
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4884 Azizelarbaoui017@gmail.cim
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
كتاب "رحلتان إلى اليابان" كتاب شيق يحكي قصة رحلتين يفصل بينهما أكثر من قرن من الزمان، فالأولى حصلت عام 1906، قام بها داعية إسلامي بمبادرة فردية خالصة وهو علي أحمد الجرجاوي. والرحلة الثانية حصلت عام 2012، قام بها الناقد المصري صبري حافظ، وبدوره كانت رحلته بمثابة مبادرة فردية لتلتقي مع الرحلة الأولى في الدوافع والأسباب وحتى الغايات، أهمها الشغف إلى المعرفة والاطلاع على ثقافة الشعب الياباني ومشاركته أفكاره وهواجسه .
يرصد الكتاب هاتين الرحلتين اللتين تتقاطعان في الأهداف والغايات منهما عند صاحبيهما، فالأولى كانت رحلة تبشير بالإسلام ودعوة له ورغبة في المعرفة، والثانية لم تخرج كذلك عن إطارها المعرفي الثقافي. فصبري حافظ أراد لرحلته أن تكون من أجل الأدب والثقافة من خلال مشاركته في المؤتمر السنوي للرابطة الأسيوية للدراسات الثقافية... وبالتالي التقت الأسباب الذاتية بالموضوعية في الرحلتين معاً لتنتجا لنا كتابين أدبيين شيقين، عملت مجلة الدوحة على جمعهما في كتاب واحد صدر مع العدد 62 لشهر ديسمبر .
الرحلة اليابـــانـــية :
يصف علي أحمد الجرجاوي في رحلته إلى اليابان الأسباب والدوافع التي دفعته إلى القيام بهذه الرحلة، محدداً الصعوبات والعقبات التي اعترضته من غربة وفراق للأهل وكركوب البحار وعبور القفار... لكنها كانت محفزاً له لخوض غمار رحلته التي جاءت بعد علمه بانعقاد مؤتمر ديني في اليابان. ومن خلال قراءاته المتعددة ومتابعاته لما يروج في اليابان، كبلد من بلدان الشرق بوصفه وطناً تتجسد فيه العديد من الأحكام والأساطير تؤثثها كتابات مختلفة وأفكار متخيلة، حاول أن يفند هذه الأفكار ويكتب كتاباً يوضح فيه الكثير من المغالطات ويقدم للقارئ العربي والمسلم نبذة عن شعب اليابان وثقافته وعاداته وأساب تقدمه وتطوره وتفوقه على العديد من البلدان .
اعتمد الجرجاوي على تقنية السرد المشوق الغني بالاستشهادات في لغة غنية وقوية، ليكشف منها مسار رحلته إلى طوكيو عاصمة اليابان، انطلاقاً من مدينة "هونغ كونغ" ومروراً ب"يوكوهاما"، ووصولاً إلى طوكيو التي حط الرحال بها ليبدأ في التأسيس لعمله الدعوي، حيث استطاع مع بعض العرب المسلمين المقيمين بالمدينة تأسيس جمعية تهتم بالدعوة إلى الإسلام. حيث كانت تعقد جلساتها بالمنزل الذي يقيم به، وتُلقى خطب تعرف بالإسلام وكيفية اعتناقه والتشبع بشرائعه على أفراد الشعب الياباني الذين كانوا يترددون على الجمعية ويرغبون في الالتحاق بالإسلام. وقد نجحت الجمعية بقيادة علي أحمد الجرجاوي في إقناع آلاف اليابانيين بالالتحاق بالإسلام وبنشره بين باقي الشعب الياباني .
يتناول الجرجاوي في رحلته كل حيثيات المؤتمر من خلال حديثه عن الأعضاء المندوبين فيه، أوربيين وأمريكيين (مسيحيين) وعثمانيين أتراك (مسلمين). والذين حاولوا جمعيهم شرح أديانهم وتقديمها للحكومة اليابانية على أساس اختيار دين رسمي لدولة اليابان... كما أنه فصل جلسات المؤتمر تفصيلاً دقيقاً، وخاصة كلمات ومداخلات المندوب العثماني الذي بعثه السلطان كممثل له إلى اليابان .
ويبدو أن علي أحمد الجرجاوي قد تأثر بأجواء المؤتمر وبالإمبراطور الياباني، مما دفعه إلى الحديث عنه بتفصيل وإعجاب كبير، عارضاً طريقة حكمه وعلاقته بشعبه، ومسألة إسلامه من دونها، وما يترتب على دخول اليابان في الإسلام وانضمامها إلى الحظيرة الإسلامية، وما يثير انتباه القارئ لرحلة الجرجاوي تلك التفاصيل الدقيقة التي تحدث فيها عن الشعب الياباني من خلال ثقافته ووطنية المتجذرة في السلم والحرب معاً ووقوفه إلى جانب حكومته في السراء والضراء كما حصل في زمن الحرب الروسية سنة 1904 .
إن المرأة اليابانية قد تفوقت على المرأة في العديد من البلدان في ذلك الزمان من الناحية التعليمية والتربوية والاجتماعية. فحصلت العلوم ونالت الشهادات العلمية واشتغلت إلى جانب الرجل باقتدار وهمة ونشاط، وساهمت في الحرب مساهمة عظيمة فسطرت ملاحم بطولية حفظها التاريخ الياباني والإنساني .
ولم يفت الجرجاوي في رحلته تسجيل العديد من الأمور والعادات والتقاليد اليابانية التي تؤسس لثقافة إنسانية راقية، فتحدث عن عوائد اليابانيين في الجنائز، والتعليم وتطويره وتنميته، وتعداد السكان وتوزيعهم الجغرافي، والسياحة والتعاطي مع السياح، والصحافة ودورها التوعوي في المجتمع، وموقع الخطباء والقصاصين في المجتمع، والاحتفال بالأعياد والمناسبات الاجتماعية والدينية والوطنية... وغيرها .
إن هذه الرحلة التي مر عليها أكثر من قرن، استطاعت أن تنقل للقارئ العربي العديد من الأفكار والمعارف عن شعب رفع شعار التقدم والتغيير في ظل الحفاظ على التراث الياباني وعدم نهج سياسة الذوبان والتقليد الأعمى لتجارب دول غربية. وبالتالي فهو نموذج للاحتذاء به، خاصة في وطننا العربي الذي لازال يعيش مظاهر التخلف والرجعية ....
استطرادات يابــانــية :
وكانت رحلة الناقد صبري حافظ عام 2012، في زمن وصلت فيه أوضاع الإسلام والأمة العربية إلى درجة من الضعف والسوء، وأصبحت صورة العربي والمسلم في وضع لا تحسد عليه، فخرج لنا بكتاب جميل يتصف بالرؤية النقدية المقارنة بين بعض مظاهر الثقافة اليابانية وبين نظيرتها الغربية والأمريكية وحتى العربية .
يصف الناقد صبري حافظ في البداية أسبابه الموضوعية والذاتية التي دفعته لزيارة اليابان، منها: المشاركة في مؤتمر ثقافي، وطلب المعرفة والعلم، الوقوف على العديد من المغالطات التي روجتها الثقافة الأمريكية وآلتها الإعلامية عن اليابان....
لقد بدأ صبري حافظ رحلته بشغف وحب عميق، لكل ما هو ياباني، بعد قراءته لبعض الكتب عن اليابان، ومتابعته لأفلام تتحدث عن هذا البلد، وعن كارثته المتمثلة في القنبلة النووية التي أسقطتها الآلة الحربية الأمريكية خلال الحرب بينهما، والتي أنتجت الكثير من النتائج الكارثية على الأمة اليابانية صحياً واجتماعياً واقتصادياً، دفعت اليابان إلى إعادة النظر في كل شيء والتفكير في رسم خطة اقتصادية وسياسية لتجاوز الكارثة والتقدم إلى الأمام، وذلك ما حصل بالفعل، حيث أن دولة اليابان اليوم قد جعلت من نفسها دولة متقدمة في كل المجالات .
وتمكن صبري حافظ من إثراء وجداننا وخيالنا كقراء بالعديد من القيم الثقافية والاجتماعية والإنسانية التي يحافظ عليها المواطن الياباني، على كل المستويات، كالنظافة، والنظام، والثقافة، والعلم، واحترام الذات والآخر، واحترام القوانين والأعراف والعادات المتعارف عليها، وتقدير الآخر والضيف وإكرامه، والاعتماد على الطاقة البشرية واستثمارها وتطويرها، والاهتمام بالثقافة والفن كالمسرح والموسيقى ...
ويرد الدكتور صبري حافظ على الشيخ علي أحمد الجرجاوي في أن الإسلام في اليابان لا يختلف عن الإسلام في عدد من البلدان الأوربية، نجم عن هجرة عدد من المسلمين من أصول غير يابانية، كالتتار وآلاف مسلمي آسيا الوسطى عقب الثورة الروسية عام 1917 ولجوئهم إلى اليابان...
ومن العوامل التي أثرت هذه الرحلة المكتوبة تلك الصور التي أولى لها الدكتور حافظ عناية كبيرة، بحيث أنه اهتم بتأثيث نص رحلته بصور جميلة من الثقافة والعمارة اليابانية حتى يتسنى للقارئ المهتم التعرف على هذه الثقافة العريقة التي تغري القارئ عنها والسامع بها، فيتمنى أن يزورها يوماً ما .
---------
عزيز العرباوي
كاتب وباحث --- المغرب
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: