فتحي الزغـــــل - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4715
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أعودُ هذا الأسبوع بفضل الله إلى ما انقطعتُ عنه منذ أسبوعين و أقصد نشر أجزاء ملخّص كتابي "الاقتصاد في الإسلام"، و ذلك لما فرضَتهُ عليَّ الأحداث التي جدّت في هذين الأسبوعين الأخيرين من مواضيع لا تقبل التأجيل.
...و بعد أن استعرضتُ في الجزء السّابق منظومتَي الأخلاق و الرّقابة الذّاتيّة في الاقتصاد الإسلامي، و التي لا تتوفّر أيّ منظومة لادينيّة على مثيلتها في أيّ ثقافة أو أثر، أواصِلُ تسليطَ بعض الضوء على أهمّيّة هذه المنظومتين، و تأثيرهما الواضح في ما سيأتي من أركان يُعرف بها كامل المنهج.
فتلك المنظومتان بمثابة سكّةٍ صلبةٍ تحملُ كلّ أركان المنهج وأساساته، بطريقةٍ لا تتخلَّفُ منظومةٌ عن أخرى تتقدّمُها في أيّ مستوى من مستويات النّظام ككلّ، لأنّ الأخلاق و كما بيّنتُ، هي سلوكاتٌ تُسعِدُ الفردَ في تعامُلِه مع من يُمارسها و هو المتخلّق، و تجعلُه يُحِسُّ بالاطمئنان لنجاح معاملته معه مستقبلا، و هي مبنيّةٌ على نوايا المتخلّق السابقة على إتيانها الواعي، لنيل ثواب و أجرٍ عليها من الله عند الحساب. أمّا الرّقابةُ الذّاتيةُ فهي إحساسُ كلّ فَردٍ بأنّه تحت بصر قوّةٍ أكبر منه طاقة و تصرّفا و شمولا، تُحصِي ما يفعلُه عددا و صنفا من كلّ سلوكه دون استثناء، بالتّراوح بين نومه الذي يُخلَعُ عند حدوثه التّكليفُ و المسؤوليّة، إلى قتل نفس تُقابِلُه في الإنسانيّةِ، الفعلُ الذي يُخلَع عند حدوثه العُذرُ إلاّ بالحقِّ.
و على تلك السّكّةِ تقومُ أساساتُ منهَج متكامل يختلف عن منهج الكلاسيك الذي حصره "آدم سميث" بأنّه –أي الاقتصاد- هو مجال إنتاج الثّروة و زيادتها. و الّذي اعتبره "ريكاردو" بأنّه مجال توزيع الثّروة بين طبقات المجتمع. و الذي قنّنه "روبينز" في أنّه مجال إدارة الموارد النّادرة. و الذي عرّفه "ألفريد مارشال" بأنّه النّشاط الفرديّ و الجماعيّ الذي يستهدف الحصول على المقومات الماديّة للرّفاهة و طرق استخدام هذه المقوّمات.
...و أساسات هذا المنهج المتكامل تُرتِّبُ مذهبا ينظّم الاقتصاد في المجتمع، يحقّق ما يُعرَفُ اليومَ بالعدالة الاجتماعية، و هي أن يكون لكلّ فرد من كلّ المجتمع نصيب من ثروة المجتمع النّاتجة عن العمل داخله، و من ثروة المجتمع التي يستخرجها من أرضه أو يتلقّاها من سمائه. بخلاف المذهبين الاقتصاديين الآخرين الأكثر شهرةً، و أقصد المذهب اللّيبرالي و المذهب الاشتراكي الذي أصبح دعاتُه يُنكرون أنه وليد الشّيوعيّة و سبب إنكارهم في نظري لأنّهم يعلمون أنّهم باعترافهم بتلك الحقيقة، إنما يُفندّون كل أطروحاتهم، لأن ما يدعون له قد ثبت لكلّ العالم أنه فشلَ و اندحرَ.
فالمذهب الليبرالي بفصله بين الجانب المادي و الجانب الأخلاقي، جعل الفرد محور اهتمامه، فركّز على حرّيته المطلقة، ممّا أدّى طبيعيّا إلى بروز نزعات الظّلم و الاستغلال داخل مجتمعاته من جهة، و بين مختلف المجتمعات الّتي تعتنقه فيما بينها من جهة ثانية. أمّا المذهب الجماعي أي الاشتراكي الشّيوعي فقد جعل المجتمع محور اهتمامه، و ألغى الفرد، وركّز على اعتبارات الحاجة الجماعيَّة، و أنكر غريزيّة الحاجة الملكيّة الفرديّة، ممّا أدّي طبيعيّا إلى تقييد المبادرات الفرديّة داخل مجتمعاتها، بل ووصلت نتاجات هذا المذهب إلى تعطّل تام لكلّ فعل اقتصادي فردي لفائدة الدّولة أو الجماعة. فزاد العبء عليها فاضطرب أداؤُها، وقُتل الحسُّ الفرديُّ فيها، فتكاسل أفرادُها.
و أساسات منهج الاقتصاد في الإسلام تختلف عن الأساسات المميّزة لتلكما النظريّتين، اختلافُ واضح لا لبس فيه، يمكن لأيّ باحث أو طالب معرفةٍ، أن يتعرّف عليه من آثار التّشريع الإسلاميّ نفسه، كما من آثار البحوث فيه، و هي أساسات أو أركان أو شروط، لا يكون الاقتصاد فيها إسلاميّا إلاّ بها، كما لا يكون نجاح تطبيق ذلك المذهب في أيّ مجتمع إلاّ بتطبيق كامل المنظومة التي أتى بها الدّينُ الإسلاميُّ في الحياة، سواء في معاملات الفرد في مع غيره كالسياسة و الحرب و الزّواج مثلا، أو في معاملات الفرد مع نفسه كالتربية و التعليم و التطبُّبِ مثلا، أو في معاملة الفرد مع ربّه كالعبادة و إقامة الحُدود و تطبيق الأوامر و النواهي مثلا.
...و من تلك الأساسات أو الأركان، أنّ العُملة أو السّكّةَ لا تباع أو تشترى، بمعنى أنّها لا يمكن أن تكون بذاتها سلعة تتداول بين النّاس، و هذا الرّكن – لعمري - هو الرّكن الذي يميّز المنهج الإسلامي عند غيره من المذاهب. و هو الرّكن الذي أظهرت التّجارب الإنسانيةُ أنّه صوابٌ، و أنّ مخالفته خطأ. فالعملة في الإسلام أداةٌ للدّفع و شراء الخدمة و المنتوج فقط، و لا يمكن بأيّ حال من الأحوال شراؤها أو بيعها بعملة أخرى مهما كان السّبب. لأن شراءها هو بمثابة اعتبارها سلعة أو مُنتَجا يشترك مع كلِّ المنتجات في مقوّماته، و هنا تبرز المشكلة، حيث أنّ بتحقيق هذا الاعتبار تكون كلّ عمليات البيع و الشّراء هي مقايضة سلعة بسلعة مادام المال سلعة بدوره، الأمرُ الذي سيغيِّبُ عنصرا مهمّا في العمليّة الاقتصاديّة، و هو معيار الخدمة أو معيار السّلعة، و أقصد القيمة الماديّة للخدمة أو للسّلعة، فوجود معيارٍ أو مقياس ثابت لا يتغيّرُ و لو نسبيًّا، لا يدخُلُ ضمن قائمة السّلع و المنتوجات في كلّ المجتمع، و عند كلّ عمليّة بيع أو شراء، أمرٌ منطقيٌّ يستسيغه الواقع. فالعملة في الاقتصاد الإسلاميُّ، لا تباع بذاتها، لاعتبارها المعيار الذي يقع قيس كلّ المنتوجات به، فإذا بيعَ المعيارُ أو المقياس، فقد ضاعت بوصلة القياس، و من ثمّ تضيع كلّ المقاييس، و يصبح كلّ التقييمات نسبيّة بل لحظيّة يمكن أن تتغيّر عبر مدّة زمنية قصيرة مرّات و مرّات صعودا و نزولا، و هو ما أصبحنا متعوّدين عليه في كثير من المجالات في أيّامنا هذه. فتحلُّ هنالك فوضى بين المنتوج و سعره، و مدى تطابق السّعر مع القيمة الحقيقيّة له، و حيث يصبِحُ البيع و الشّراءُ لا يحكُمُه مرجع محدّدُ للقيمة، بل يحكمه مبدأ آخر أصبحنا نعرفه تمام المعرفة في أيّامنا هذه كذلك، و هو مبدأ العرض و الطّلب، فكلّما زاد الطّلب يزداد السّعر، الذي بدوره يمكن أن تُباع قيمتُه بنقودٍ أخرى. و بالعكس أيضا، كلَّما زاد العرض نقص السّعرُ الذي بدوره يُنقص قيمة المال الذي يحدّده في ذاته.
و لذلك و لعدم وجود هذا الرّكن و هو تحريم بيع و شراء العملة أو السّكة في الاقتصاد الرّأسمالي مثلا، فقد وقع إحداثُ جهاز يمكن تسميته اصطلاحا بــ "جهاز السّعر" لأن تسميته الوظيفيّةُ تختلف من دولة إلى أخرى، مهمّته الدّائمة هي موازنة العرض و الطّلب، أي موازنة الإنتاج و الاستهلاك. مهمّةٌ تُمكِّنه من اتّخاذ أي إجراء يراه صالحا لتعديل السّعر بخفضه أو رفعه متى يرى ذلك صالحا لعمليّة استقرار الربح في السوق، و لو كان الإجراء غير أخلاقيٍّ أو غير إنسانيٍّ. و لنا مثال على ذلك إلقاء صابات الحبوب في البحر، و عدم عرضها في السّوق العالميّة، بغاية المحافظة على سعرها الأدنى المطلوب.
...كما أنّ بيع العملة و شراءها، يُؤدّي إلى كنزها و توقيف دورتها عند القادر على جمعها من الأغنياء، مع ما يُمثّل ذلك من خسارة للدّورة الاقتصادية الجماعيّة، بتجميد الثّروة النّقدية في مستوًى من مستويات التّعامل. كما يؤدّي إلى تغيير قيمتها سواء صعودا أو نزولا، و هو ما لا يحدث للعملة في المنهج الإسلامي، إذ أنّها لا تختفي في أيّ مستوى من مستويات التّعامل، كما أنّ قيمتها ثابتة نسبيّا لا تتغير يوميّا أو لحظيّا، و مجموع قيمتِها الجَمعيَّةُ لا ينقص في المجتمع، فيضطرُّ الفرد فيه فقط إلى التّحوُّلِ إلى الإنتاج ليزيد ثروته و لا غير الإنتاج. و هنا قمّة الإعجاز في التّشريع الإسلامي، حيث أنّ هذا الرّكن يضمن وفرة الإنتاج، و عدم التّفكير في احتكاره أو احتكار قيمته، لأنّ ما يخالِفُ التّفكيرَ في وفرة الإنتاج، لا يؤدّي بالضّرورة إلى أيّ وفرةٍ في المال، بأيّ صورة من الصّور.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: