فتحي الزغل - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7490
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في بدايةِ هذا التّحليل لواقع الأحداث في مصر و تبعاتها في تونس. أرجُو منَ القُرّاء المُحترَمين أن يغفِرُوا لي عدم نشر الجزء الثّالث من مُلخّص كتابي "الاقتصاد في الإسلام"، و الــذي سيكونُ بمشيئة الله الأسبوع القادم، و ذلك لأهمّية الأحداث التي تعيشها الشقيقة الجريحة، و التي فرضت نفسها على كلّ متابع للشّأن هناك. و أنشرُ لكم هذا الأسبوع مقالتي هذه التي كانت موضوع مداخلة إعلاميّة تحليليّة أجريتها مع قناة فضائية غربية ناطقة بالانقليزيّة منذ أيّام قليلة.
"لا ديمقراطيّة إلاّ التي تُوصِلُني إلى الحكم"
...هكذا عبّر القائمون بالانقلاب على الرّئيس "محمد مرسي" في مصر الشّقيقة... بانقلابهم الذي تواطأت فيه معهم القوى المدنيّة و الّسّياسية اليسارية و القوميّة و اللّيبيراليّة الحداثـيّة، بحضور لافت للانتباه لأزلام النّظام البائد و المسمُّون هناك بالفلول. و قد نجح هؤلاء المتواطئون بضمّ قوّتين معنويّتين هامّتين في المجتمع المصري، كانوا يظنّون أنّهم بهما قد يتّقون شرورا داخليّة و خارجيّة، و أقصد حزب النّور و هو الحزب الذي يجمع سلفيي البلاد، و شيخ الأزهر بما يحمله من رمزيّة دينيّة أظنّه فقدها اليوم أو يكادُ، لحركة الرفض التي طفحت ضدّه من علماء و شيوخ تلك المؤسسة.
و لأنّ حركة كهذه، هي انقلاب بكامل عناصر الانقلاب، و حدثت في بلد حديث العهد بالثورة على ديكتاتور لم يعرف الانتخابات النّزيهة طوال حكمه، فإنّها لم تكن لتنجح حسب الظاهر من الأحداث المتسارعة و من المواقف المتتالية، لولا مساندة و تنسيق و تدخّل مباشر و غير مباشر من الأطراف الإقليميّة و الدّولية المعادية للمشروع الإسلامي في مصر و في منطقة الشرق الأوسط عموما، و التّي سرعان ما كشفت عن نفسها بتصريحاتها المذبذبة، و التي تكاد تقول أنّ الانقلاب أكثر شرعيّة من الصّندوق.
فكلّ أعذار الانقلابيين و مسانديهم من الدّول و المنظّمات و القنوات الإعلاميّة لما فعلوا، تصبُّ في أنّ الرّئيس المنتخبَ قد أخطأ، و لم يؤدِّ الاستحقاق المطلوب منه، و عليه فإنّ قلبَه و عزلَه جائز حسب الفقه الأزهري الطّيبي. و أنّهم بانقلابهم ذاك سيُصحِّحُون الأمر، و سيجلبون حُكّاما جددا يحكمون البلد و يجعلونه جنّة الدنيا. و هم يعلمون أنّهم قد أتوا فعلا تُنكرُه الدّيمقراطية، و يُنافي أصول العدالة الاجتماعية، و أنّهم اغتصبوا الحكم كما اغتصبه غيرهم من الجنرالات في كلّ الانقلابات العسكريّة التي شهدها العالم قبلهم.
إلاّ أنّ ما يبعث على القرف فعلا، هو التواطؤ العلني و المكشوف لبعض الدّول الخليجية، و أغلب الدول الغربيّة، خاصّة تلك التي تتشدّق بالدّيمقراطيّــــــــة و بالمبادئ الدّيمقراطية منذ عرفتُها. فمواقف السّعودية و الإمارات و الكويت توحي بالوقاحة و المجاهرة بالعداء لنظام الرّئيس المنتخب و لخيار الشعب الذي انتخبه، في هرولتها لضخ مليارات الدولارات في الاقتصاد المصري في الساعات القليلة الأولى لانقلاب "السّيسي". و حركة كهذه مع التقارير الإعلامية التي تصدر من هنا و هناك و التي تؤكّد أنّ لهذه الـــــدّول و خاصّة الإمارات و السّعودية دورا مباشرا في قلب نظام "مرسي"، من شأنها أن تزيد أعداءًا لنظم هذه البلدان الملكيّة المشائخيّة المطلقة في شعوب المنطقة العربيّة و الإسلاميّة، و من ورائهم كلّ الشعوب التّائقة للحريّة. لأنّ هكذا فعلٌ هو اصطفاف مع فئة ضدّ فئة في بلد مجاور، و هو عين التّدخل في الشؤون الدّاخلية. خاصّة و أنّ نفس هذه الدُّول و فضائيَّاتها كانت مع الرئيس "مبارك" و ضدّ ثورة 25 يناير التي خلعته، و لم تُساند المدّ الشعبي الذي كان و قتَها في الساحات و الميادين. بل منها ما زاد في فحش موقـــــفه آنذاك و اشترى فتوى من شيوخ البلاط وقتها مفادها أن الخروج على "مبارك" و كلّ حاكم عربيّ مثله هو خروج عن وليِّ الأمر.
أمّا مواقف الدّول الغربية و مواقف بعض المنظّمات الدُّولية كالاتحاد الأوروبي و منظّمة الأمم المتحدة، فهي لا توحي بالوقاحة فقط بل تجاوزتها للنّفاق، فتلك الدّول و على رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة لم تُسمِّ ما وقع في مصر بالانقلاب إلى حدّ الآن، بل قصرت تصريحاتها الرّسمية على ضرورة العودة للحكم المدني هناك. و بِصمْتها ذلك و عدم تنديدها باغتصاب السّلطة من الجيش، كما فعلت في "ساحل العـــــاج" و "هاييتي" و غيرها، إنّما تؤكّد نفاقها و أنّها تُعادي خيارات الشّعوب الحرّة إذا كانت تلك الخيارات لا تتقاطع مع مصالحها. فنظام "مرسي" لم يكن حسب بوادره مثل سابقه "مبارك" في تنفيذ الأجندة الأمريكية في المنطقة، فقد فتح معبر رفح منذ تولّيه السّلطة فحرّر غزّة من سجنها الكبير، و أوقف تصدير الغاز إلى الكيان الإسرائيلي بالأثمان البخسة التي نعرفُ، و أنشأ بداية علاقة إستراتيجيّة إقليميّة مع تركيا "أردوغان" التّي أصبحت مواقفها تصدح فتُقِظُّ مضاجع عواصمهم، و بدأ يُفكِّر في ما أصبح يُعرف بــ "مشروع قناة السويس الاستراتيجي" الذي سيسحب البساط من عدّة موانئ كبيرة في المنطقة كميناء "دُبي". كما أنّ نظام الرّجل المنتخب توجّه بكل ثقل مصر إلى إفريقيا، و بدأ في نسج علاقات مع بعض القوى الإقليميّة هناك كالصين و إيران، و هو ما يُعتبر خطًّا أحمر لدى تلك العواصم المنافقة.
فكلّ دلائل السّنة الأولى لحكم "محمد مرسي" تؤكد أنّ مصر سائرة نحو استقلاليّة قرارها و سيادة مواقفها و تغيير بوصلتها نحو الشّخصية الدّولية المعتبرة، عكس ما كانت عليه أيّام "مبارك" و من قبله السّادات، إذ كانت السّياسة المصريّة في أيّام أولائك المستبدّين توحي بسلوك العاهرات في الشّوارع. سياسة قطعت مع مواقف عبد النّاصر التّاريخية التي كانت تُعبّر عن سيادة مواقف بلاده. سياسةٌ قطعت أيضا مع طبيعة هذا البلد و قيمته الحقيقيّة من حيث حضارته و تاريخه و شعبه و موقعة الجغرافي المهمّ في منطقة في الشّرق الأوسط.
و المؤكّد في نظري أنّ السّتار لم يُسدَل بعد على الحدث. فالشّعب المصريُّ عكس لنا صورةَ عزٍّ و إباءٍ عند خلعه "مبارك"، خاصّة و أنّ عديد التّعليقات و الانطباعات المشهورة عليه قبل ذلك الحدث البطل، كانت تصبّ في أنّه شعب خانع بطبعه، لشدّة الفقر بين أفراده، و لثقافة نصرة المنتصر عند انتصاره التي كدنا نصدّقها عنه. لكن العالم اليوم أصبح ينظر إليه بعين أخرى مختلفة ملؤها التقدير و الاحترام. فالشعب الذي خرج للشّوارع ليخلع ديكتاتورا حكم ثلاثين سنةً، لن يُثنِه خروجه لنفس الشوارع ليخلع مشروع ديكتاتور اغتصب صوتَه في انتخاباته الأخيرة مع عصابة من الداّخل و الخارج ليُنفّذوا أجندة حداثيّة ليبيراليّة مستكينة مع الأمريكان و الصّهاينة.
و قد استحضرتُ هذه الأيّام في متابعتي لأحداث الانقلاب هناك، مقالة أحيلكم عليها كتبتُها في مايو 2012 بعنوان "شفيق يحلّ ثانية...قراءة في النّتائج" نشرتها لي على ما أظنّ صحيفة "المساء" الغرّاء في تونس و "القدس العربي" و "نيويورك تايمز" بالخارج ، أوردتُ فيها أنّ تلك النّتيجة لوحدها هي إنذار بوقوع ارتداد على الثّورة، لأنّها عنت لي فيما عنت ساعتها، أنّ مصريًّا من كلّ اثنين يرضى بأن يحكمه صبيّ "مبارك" و لا يحكُمه إسلامي.
و هذا ما يجعلني، و أنا أقف أمام هذا الحدث الذي لن ينته بسرعة حسب رأيي كما يتمنّى الانقلابيون هناك، أسقِطُ ما وقع على "مصر" الجريحة على الوقائع التي نعيشها في "تونس" بلدي. فما وقع هناك يتمنّى وقوعه كلّ أزلام النّظام المخلوع هنا. و خروج أزلام "مبارك" من جحورهم الشعبيّة و الإعلامية هناك ليساندوا انقلاب "السيسي" يُشبه في نظري خروج أزلام "بن علي" من جحورهم هذه الأيّام هنا، و نعتهم الثّورة بالخطأ و نتائجها بالكارثة، لأنّها - حسب وصفهم - أوصلت الإسلاميّين هنا و هناك للحكم... فهؤلاء و رغم أنّهم سرقوا البلدين و نهبوهما عندما كانوا يحكمون، و رغم أنّهم هم الذين أعطوا بلدانهم صكّا على بياض للقوى الإمبريالية الاستعماريّة، و رغم أنّهم استباحوا شعوبهم لعقود طويلة، و رغم أنّهم أفشلوا دولهم لسنوات ربما يتطلّب إصلاح ما اقترفوه فترة طويلة لتراكم الفشل و الدّسائس، إلاّ أنّهم لا يعترفون بأنّ هؤلاء الإسلاميين الذين اختارهم الشعب و لم يعتلوا السلطة بانقلابات مثلهم، و لم يسرقوا، و لم يغتــــالوا، و لم ينهبـــــوا، و لم يُصالحوا المغتصبَ، و لم يعقدوا معه الصفقات السرّيّة و غير السّرّيّة، و لم يؤسّسوا الشّركات العائليّة النّهمة التي لا تُبقِ و لا تذرُ، بل كانوا في السّجون و المنافي من أجل رأيهم و فكرهـــــم، و هم اليوم في حلقة مشابهة يقفون وقفة الضحّية أمامهم و هم الجلاّد.
و اليوم، و مع اختلافي المنهجي مع من يحكم في بلدي تونس، أقِرُّ بأنّ نظافة هؤلاء هي التي جعلتهم في وضعيّة دفاع دائم عن مواقفهم، و أنّ عدم خبرتهم في الحكم هي التي جعلت منهم الطّريدة و غيرهم الوحش. فقدت أثبتت الأحداث في تونس ومصر أنّ غير الإسلامييّن من الحداثيّين و اللّيبراليين و اليساريين و أزلام الأنظمة المخلوعة، مستعدّون لضرب قيم الدّيمقراطيّة عرض البحر، إذا لم توصِلهم للسّلطة، و أنّهم لا يعترفون بنتائج الدّيمقراطية و ما تفرزه الصّناديق، إذا كانت تلك النّتائج لصالح الإسلاميّين. و ذلك حسب رأيي، لأنّ هؤلاء الإسلاميين لا يضربون بيد من حديدٍ مع خصومهم إذا أجرموا في حقّهم و في حقّ شعوبهم، و لأنّ هؤلاء الإسلاميين ميّالون لنظريّة التسامح و المغفرة معهم، النظريّة التي لا تجلب لصاحبها سوى وصمة الضّعف و الدّونية. فهــــؤلاء الذين يتشدّقون بالدّيمقراطية في وسائل إعلامنا المنافقة في مصر و تونس هم أوّل كافر بها. لأنّهم يعرفون - هم قبل غيرهم - أنّهم لا يصلون بها إلى الحكم أبدا، أو لأقل في منظور العقود القادمة. مثل معرفتهم بهذه الحقيقة طيلة القرن العشرين و ما بعده، حيثُ لم يتوَلَّوا سدّة الحكم إلاّ ديكتاتوريّين وصلوا إلى مناصبهم عبر الدّبابات و الانقلابات و البيانات رقم 1 . و هاهم اليوم قد نفّذوا فصلا من فصول اغتصابهم للحكم و استعادوا السّلطة في مصر عبر الانقلاب و البندقيّة و البيانات العسكريّة الصّادرة عن فرعونهم "السيسي"، الرجل الذي الّذي قطع اليد التي امتدّت إليه بتنصيبه رئيسا للأركان وزيرا للدفاع، و هاهم في نفس الوقت قد اجتمعوا و توحّدوا في تونس و بدأوا ينشرُون ثقافة وفكرة التّمرّد على الشّرعية و على ما أفرزته انتخابات شعبهم، حاملين نفس العناوين و الشعارات على جــباههم. و كلّ مُحلِّلٍ نزيه يُسمّي الأشياء بمُسمَّياتها يعرف أنّ هؤلاء هم أزلام الطواغيت و اليساريين و القوميّـــــين و الحداثيّين الليبيراليّين المتطرّفين الذين لا يؤمنون بشعارات الديمقراطية التي يرفعونها، وهم دائما في أتمّ الاستعداد إلى التحالف معًا رغم اختلاف مشاربهم إذا كان ذلك التحالف ضدّ الإسلاميين خصوصا و ضدّ المشروع الإسلامي في المجتمع عموما.وهاهم قد اصطفّوا وراء كاهنهم "السبسي" بتحويل الياء باء، الرجل الضّارب في جذور التّاريخ قِدَمًا، و الطّامح لما بعد الثّورة منصبًا.
فهل يكون "السّيسي" هناك و "السّبسي" هنا وجهان لعملة واحدة؟
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: