فتحي الزّغـل - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4769
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لكنّنا إذا اتّبعنا فكرة الاقتصاد و انفصالها عن الممارسة الاقتصادية، وجدناها لا تكون واضحة المعالم لأوّل مرّة في تاريخ البشريّة إلاّ مع ظهور الإسلام و تعاليمه و تشريعاته الواضحة في المجال الاقتصادي. حيث أنّي لم أجد أثرا متكاملا، فيه نسق واضح، تكلّم في هذا المجال بصفة يمكن أن أقول عليه أنه نظريّة اقتصاديّة لوحده، يختلف مع المعروف من تلك النظريات، سواء في الحضارات القديمة، أو في الحضارات المعاصرة للحضارة الإسلامية. فقد يكون قد وُجِدَ في آثار تلك الحضارات تعرّضٌ للعمل، أو تناولٌ للبيع، أو عرضٌ للمشاركة في الإنتاج، إلاّ أنّها لا ترتقي إلى درجة النّظرية الاقتصاديّة بمفهومها العامّ التي تكلّمت في جميع جوانب الموضوع و تجعل له حدود خاصة بها عن غيرها.
و النّظرية الإسلامية في الاقتصاد قد طبّقها المسلمون في مجتمعاتهم منذ ظهور الإسلام إلى انحدار مجتمعاتهم نحو التّخلف الفكري و الصّناعي، أين تخلّوا عن ممارسة تعاليم دينهم عموما، بحكم انحلالهم حضاريًّا في أممٍ من غير المسلمين، كانت لهم عناصر القوةّ و البطش و التفكير و التنظيم. ففرض أولئك عليهم نمط عيشهم و نظريّاتهم، فغابت الممارسة، وبقيت النّظريّة بين أدراج الكتب و المؤلّفات و التّفاسير و القرآن و كتب الأحاديث و كتب اجتهادات العلماء الذين أشبّههم في تلك الحقب بمصابيح صغيرة أنارت لوحدها في ظلمة عاتمة.
و فيما تخلّف المسلمون عن ركب الحضارة الإنسانية، و فيما أفل نجم نظريّاتهم، فلم يعودوا يمارسونها بل يُمارسون ما يختلف عنها، و فيما تقهقر دورهم عن ريادة الفكر و الصّناعة و العلم و التّعلم... تطورت المجتمعات الغربية الأوروبيّة و الأمريكيّة و من بعدها بعض المجتمعات الآسيوية ذات التّوجّه الغربي الصّرف، و جعل بعضها لنفسها نظريات في الاقتصاد فرضتها في التّعامل مع غيرها من الشعوب لقرون طويلة إلى غاية اليوم، حتى أصبح المسلم غير المفكّر لا يعرف سوى تلك النّظريات في مجتمعه. بل و يمارسها كل يوم في حياته، و هو لا يستحضر أنّ في دينه نظرية أخرى سابقة بقرونٍ لتلك الممارسة، أثبتت الأيّام و الدّراسات الحديثة أنّها تجاوزت تلك الغربيّة قبل تبلورها كاملة في العقود القليلة الأخيرة، و أنّها مختلفة عنها كلّ الاختلاف، و أنّها - و هنا بيت القصيد - إنسانيّة الفكر و التّطبيق.
فكلّ دراسات الفكر المقارن في المجال الاقتصادي اليوم، تقول بأنّ الاقتصاد لا يحوم فقط بين مدرسة اشتراكيّــــــــــة و مدرسة رأسماليّة ليبيراليّة، كما كان يتردّد على مسامعنا و على مناهج دراستنا في جامعتنا و معاهدنا، بل له مدرسة ثالثة سبقت تلك المدرستين تاريخيًّا، مدرسة تعتمدُ التّشريع الإسلامي الّذي نعرفه و هو القرآن و السّنة و القــــــــــــياس و الإجماع. فأوجدت نُظُمًا و مناهجَ و طرقًا مختلفة عن غيرها في تناولِها للبيع و للشراء و للادّخار و للامـــــــــــــتلاك و للتصرّف في وسائل الإنتاج و للتّصرف في الموارد البشرية و للقرض و الاقتراض و لاستخراج خيرات البرّ و البحر ولالتقاط خيرات السماء.
و لعلّ توجّه العالم الغربي للاهتمام بالنظرية الإسلامية في الاقتصاد، هو اعتراف بعقم نظريّاته التي يُمارسها منذ قرون، و شهادة له عليها بأنّها في حاجة إلى تطوير و تغيير، إلّا أنّ جهابذة الاقتصاد فيه، يعرفون مثل ما صرّحوا بذلك في عديد المؤتمرات الدّوليّة بأن التّطوير المطلوب لتلك النّظريّة هو تغيير وجهتها نحو التطابق مع النّظريّة الإسلاميّة في الاقتصاد. خاصّة بعد الأزمة الماليّة الحانقة التي ضربت الولايات المتحدة سنة 2008 و التي كادت أن تعصف باقتصادات دولٍ بكاملها. و التي أظهرت في ما أظهرت عيبا خطيرا في الممارسة الاقتصادية الغربيّة، و بالتالي في النظرية ذاتها، و هو أنّ كلّ فعل اقتصادي لا يحقّق مبدأ امتلاك رأس المال سابقا لذلك الفعل، هو فعلٌ يُنتِجُ كارثة لأنّه يُبقي الفرصَ الاقتصاديّة دُولَةً بين الأغنياء فقط. و هذا مبدأ أساس من مبادئ الصّيرفة الإسلاميّة التي سأتعرّض لها في لاحقات الفقرات من هذه المحاضرة.
و أنا لا أستغرب الأمر عندما أرى تحوّلَ العديد من المنظّمات الماليّة و الكلّيّات العريقة في العالم، إلى دراسة الاقتصاد الإسلامي في هذه السنوات القليلة خاصّة بعد تلك الأزمة، لأنّي مدركٌ تماما بأنّهم نحو إقرارهم بالفشل سائرون، و عن بدائل لنظريّتهم الفاشلة لا محالة يبحثون. و لأن بعض علمائهم صادقون و مصداقيّون فعلا، فقد درسوا النظرية الإسلاميّة في الاقتصاد منذ عقود سابقة و توصّلــــــــــــــوا في نهاية دراستهم إلى أنّ حلّ الكثير من المشاكل الاقتصادية في المال و الصّيرفة و الاستثمار و الادخار، يكمن في تطبيق ما جاء ت به تلك النظرية، و أنّ الحلّ كما قال بعضهم يكمنُ في تطبيق تعاليم و تشريعات الدّين الإسلامي في معاملات البشر.
و من أولئك الذين لفتت انتباهي محاضراتُه و كتبُه التي لم أستطع قراءتها كاملة لعددها، العالِم الاقتصادي "يوسف ستيكليتس" أو كما يُلفَظ اسمه بالفرنسية "جوزيف ستيكليتس"، صاحب نوبل للاقتصاد سنة 2001 ، و رئيس لجنة الأمم المتحدة لإصلاح النظام المالي العالمي لسنوات، و الذي قال في أحد تصريحاته: "أنصح العالم بأن يتّجه الى المبادئ المالية الإسلامية، لأنّها تقوم على الاقتصاد الحقيقي و ليس الرمزي". و الرّجل - بهذا التصريح - خلص إلى أنّ الاقتصاد الكلاسيكي المعروف قد بالغ في التطوّر المجرّد إلى أن وصل درجة الرمزية، وهي الدّرجة التي لا يمكن للاقتصاد المؤسَّس على التعاليم الإسلاميّة أن يصلها لتحقيقه شرط الحسّ و الموجود في موضوعه دائما. و هذا ما سأبيِّنُه في ما سيأتي من أبواب.
و من الذين كتبوا أيضا في أفضليّة الاقتصاد الإسلامي على غيره من النّظم الاقتصاديّة الكلاسيكيّة، رئيس تحرير جريدة "لوجورنال داي فينانس"، و هي مجلّة متخصّصةٌ في الشّأن المالي و الاقتصادي في فرنسا لمائة و ثلاثة و أربعين عامًا متواصلة قبل أن تندمج مع مؤسّسة أخرى تنشط في نفس المجال، فقال في مقالٍ نشره بعد زيارة البابا لفرنسا و قولته الشهيرة "عليكم أن تختاروا بين تعاليم البابا و تعاليم القرآن"، إبّان بداية تأثُّر فرنسا بأزمة الولايات المتحدة الأمريكية الاقتصادية آنذاك: "إننا بحاجة ماسّة للرجوع إلى القرآن لأنّنا لو نظرنا إلى ما فيه من تشــــريع و درسـناه لما حلّــــت بنا الكوارث التي حلّــت بمصارفنا وبنوكـنا، لأنّه و باختصار... النقود لا تلد النقود". و الرجل بتصريحه هذا قد عرّف بمبدأ أساس من مبادئ الاقتصاد في الإسلام.
هذا إلى جانب العديد من المؤلفات و المحاضرات المسجّلة و التّصريحات و المداخلات الإعلامية المتخصّصة في المجال الاقتصادي التي تُجمِع على أنّ المبادئ الإسلامية في الاقتصاد، هي الكفيلة بنزع فتيل الكوارث الاقتصادية التي تحلُّ بالمجتمع الإنساني كلّ فترة و فترة، و ذلك لأنّها تختلف جذريًّا عن المبادئ التي يقومُ عليها الاقتصاد الكلاسيكي كنهًا و طريقةً. و بالاعتماد على تلك الآثار التطبيقية و الأكاديمية، و على تلك الدّراسات التي تعترف بسُمُوّ النظرية الاقتصادية في الإسلام على الجشع، أستطيع أن أجزم بأنّ هذه النظرية وهي النظرية الإسلاميّة، ستكون هي التي تحــكم و تُسيِّر اقتصاد العالم في أواخر القرن الحالي و ما بعده، و قد أقمتُ رأيي هذا لمعرفتي بأن الإنسان لا يتعلّمُ جيدا إلّا بطريقة التجربة و الخطأ. و أنا أعتبر أنّ الغرب اليوم، و منذ بداية تطوّره المادّي يسيرُ في طريق تعلّمه بالتجربــــــــــة و الخطأ، و قد بدأ يكتشف، و قد جرّب، و سيُجرِّبُ لا محالة، كل النظريّات في المجال الاقتصادي، حتى إذا جرّب تعاليم الإسلام سَلِمَ حتمًا، و إذا سَلِمَ أدرك قوة النظريّة، و من بعد ذلك قوّةَ و منطق الدين المُنزِّلِ للنظرية... و إلى الأسبوع القادم بإذن الله.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: