د. أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6596
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نحن في حاجة شديدة إلى إعادة النظر في تقوى الرجال؛ لأن كثيراً ممن نعتبرهم دعائم النهضة الحديثة لم يصبحوا كذلك في أوهام الناس إلا بسبب الدعايات الكاذبة التي أرادت أن تضعهم في هذه المنزلة لتحقق بذلك أغراضها في نشر أفكارهم. الواقع هو أن كثيراً من هؤلاء الرجال قد أحيطوا بالأسباب التي تبني لهم مجداً وذكراً بين الناس، ولم يكن الغرض من ذلك هو خدمتهم، ولكن خدمة هذه الأفكار التي يعملون من أجلها والتي وافقت أهداف أعداء الإسلام ومصالحهم. (حسين بتصرف ص52 .(
من هؤلاء الرجال الفنان النحات (محمود مختار). والمخرج السينمائى (شادى عبد السلام) وكذلك (هدى شعراوى) رائدة الحركة النسوية في مصر، وعميد الأدب العربى (طه حسي)، والزعيم الوطنى المعروف (سعد زغلول)، وغيرهم كثيرون.
يتصدر الطريق إلى جامعة القاهرة بجوار حديقة الحيوان بالجيزة تمثال من الغرانيت يصور امرأة في ملابس الفلاحة المصرية ترفع عن وجهها بيدها اليسرى (حجابها) - وهو أحد رموز الإسلام - بينما يدها اليسرى مفرودة لتلمس بأصابعها رأس تمثال إبي الهول الذي يفرد قائمتيه الأماميتين في تعبير عن النهضة ورغبة في نموذج يسعى المعاصرون إلى بلوغه بإزاحة هذا الحجاب الذي يعوق في نظرهم التقدم والرقي ويحجب الرؤية عن طريق النهضة وبلوغ مماثل ومعاصر لمجد مصر الفرعوني القديم.
إنه التمثال الذي أطلق عليه (تمثال نهضة مصر). في عام 1921م تشكلت لجنة خاصة لتشييد هذا التمثال برئاسة رئيس الوزراء المصري آنذاك (حسين رشدي باشا)، ووقعت عدة أزمات بسببه في عدة وزارات متعاقبه، ودافع عنه البرلمانيون حين تعثر مشروعه. وجمع الفلاحون وغيرهم من البسطاء المصريين من قوتهم وأموالهم لأجل بنائه، وتبرعت مصلحة السكة الحديدية المصرية لنقل حجارته من أسوان للقاهرة. وأخيراً أزاح (الملك فؤاد) ملك مصر الستار عنه في 20 مايو 1928م.
وألقى رئيس الوزراء (مصطفى النحاس باشا) خطاب الدولة بشأنه، ونظم أمير الشعراء (أحمد شوقي) قصيدة خاصة فيه، واعتبرت البلاد يوم إزاحة الستار عنه عيداً قومياً.
نحتَ هذا التمثال الفنان الشهير (محمود مختار) ( 1891- 1934م) الذي وصف بأنه رائد فن النحت في مصر، ووصف كذلك بأنه (جبار الغرانيت)، وأنه أول من أعاد الحياة إلى إزميل النحت في مصر بعد أن خمدت مئات السنين.
إنه أول فنان أقامت له الدولة متحفاً اعتبرته قبلة لدارسي الفنون في مصر، وشاهد على فترة تاريخية وسياسية هامة. إنه الفنان الذي طالبت (هدى شعراوي) بالحفاظ على أعماله الفنية وجمعها لحمايتها من الإندثار.
و (هدى شعراوي) هي زعيمة النهضة النسوية المصرية التي اتخذت من بيتها صالوناً تقابل فيه الرجال سافرة من غير وجود محرم. وهي التي سافرت لتتعلم في باريس. ذهبت إليها بالحجاب، وعادت منها بلا حجاب. ( قطب 242) وهو الفنان الذي نحت تمثالين في القاهرة والإسكندرية، لزعيم الأمة و (معبودها) سعد زغلول.
هذا الزعيم الذي قال عنه (عباس محمود العقاد) مدافعاً لا ناقداً بأنه: (كان يقامر، ويغرق في لعب القمار حتى يخسر أمواله في لعب القمار، وكان يخسر أمواله، وكان يفطر في رمضان، ويحتج بأنه من أهل الأعذار، وأن الطبيب نصحه بأخذات من الخمر بين الحين والآخر لإصلاح معدته) (قطب 308). إنه الفنان الذي بذل من أجله (طه حسين ) جهوداً لإعادة أعماله من باريس إلى مصر. وطه حسين هو عميد الأدب العربي الذي قال يوماً: (للتوراة والإنجيل أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما كذلك، لكن هذا وذاك لا يثبت وجوداً تاريخياً) وظل مصمماً على آرائه حتى قبل وفاته بعام واحد وأعلن صراحة أنه ما زال مؤمناً بكل حرف منها) ( قطب 263 - 264). وواضح هنا أن كل هؤلاء الذين وقفوا وراء مختار هم عمد ورموز الليبرالية المصرية.
(محمود مختار) هو ثمرة جهود الحملة الفرنسية على مصر في إنشاء مدرسة للفنون الجميلة وما تبعها من نشر لمختلف أنواع الفنون الأخرى كالموسيقى والرقص وغير ذلك، وكان (مختار) من أوائل الطلاب الذين التحقوا بهذه المدرسة. تأسست المدرسة بالفعل في الثالث عشر من مايو 1908م، وكان النحات الفرنسي (لابلان) هو أول مدير لها، وهو الذي كتب تقريراً عنها بعد ثمانية عشر شهراً من إنشائها قال فيه بأنها حققت نجاحاً كبيراً وأبرزت المواهب الفنية للمصريين.
كان علماء الآثار الفرنسيون الذين رافقوا الحملة الفرنسية وراء تأسيس هذه المدرسة. ادَّعى هؤلاء العلماء أنهم في حاجة إلى فنيين قادرين على رسم الآثار المصرية ومحاكاتها بدقة وأمانة ليتسنى لهم فك رموزها والوقوف على أسرارها. كان هذا هو الهدف المعلن لتأسيس هذه المدرسة. لكن الواقع هو أن تأسيس هذه المدرسة كان يرمي إلى تحقيق هدفين أساسيين:
الأول هو نشر فكرة الفن الحر الذي لا يتقيد بأية قيود دينية أو أخلاقية.
والثانى هو لفت انتباه المسلمين عامة والمصريين خاصة إلى العناية بالآثار القديمة، وحثهم على العناية بها والغيرة عليها بعد أن كانوا لا يكترثون بها.
كانت الغاية من ذلك هو تلوين الحياة المحلية في كل بلد من البلاد الإسلامية بلون خاص يستند في مقوماته التي وحد الإسلام مظاهرها إلى الفرقة والتشعب برجوعها إلى أصولها القديمة السابقة على الإسلام.
نجح الغرب في هذه الخطوة نجاحاً كبيراً، وأدى هذا النجاح بدوره إلى نجاح أكبر، وهو إيجاد جيل من الفنانين المسلمين العصريين الذين لا يستلهمون شخصية بلادهم من الآثار القديمة فقط، وإنما يبدعون في إظهار أعمال فنية حديثة مستلهَمة من الماضى البعيد للبلاد تحقق نفس الهدف، وبذلك يضمنون استمرار خط مكافحة الإسلام عن طريق الفن جيلًا بعد جيل وَفْق المنهج المحدد الواضح المعالم الذي أطلق الغرب شرارته مع بداية الحملة الفرنسية على مصر.
إلتحق (مختار) بهذه المدرسة وهو في السابعة عشرة من عمره، وأدرك الأساتذة الأجانب موهبته الساطعة فاحتضنوه، وخصصوا له مرسماً خاصاً به في نفس المدرسة، وأقاموا له معرضاً، ثم أرسلوه إلى باريس، وأقاموا له معرضاً آخر هناك، ومنحوه العديد من الجوائز. وكما تتلمذ في مصر على يد النحات الفرنسى (لابلان) مدير المدرسة في مصر، أشرف عليه في باريس أشهر النحاتين الفرنسيين مثل (لابلانتى) و (مارسييه). لم يكن لـ (مختار) أن يعبر الطريق إلى التراث المصري القديم دون أن يمر أولًا بمصفاة الحضارة الأوروبية والفن الأوروبي وجذورهما اليونانية والرومانية. وظهر هذا جلياً في أبرز أعماله وهو تمثال (نهضة مصر).
كانت فكرة التمثال في بدايتها امرأة جميلة تشبه (جان دارك) تمسك سيفاً كما لو كانت ترد به الإنجليز المحتلين. وأعجب الأساتذة الفرنسيون بالتمثال، لكن (مختار) أحس بأن عمله هذا إنما هو تمثال فرنسي فحطمه. ثم خطط لنحت نموذج أبي الهول.
لكن (عباس محمود العقاد) نبهه إلى أن ملامح أبي الهول لا تشبه أبا الهول الحقيقي وإنما هي صورة منقولة مما كان في معابد البطالسة اليونانيين، فاستجاب (مختار) لنقد (العقاد) وأعاد نحت أبي الهول ليكون أقرب لأبي الهول الفرعوني الحقيقي. ثم انطلق (مختار) ليغوص بعد ذلك في التراث الفرعوني فنحت تمثال إيزيس من الرخام الأبيض الذي يصور الآلهة المصرية القديمة تجلس القرفصاء وترفع ذراعيها خلف رأسها مجللة بالحزن واللوعة على أوزوريس ومأساته في الأسطورة الفرعونية. يرى الأستاذ (محمد قطب) أن العلاقة بين الإسلام والفن ليست علاقة النفور والخصام.
وأن الدين يلتقي في حقيقة النفس بالفن؛ فكلاهما انطلاق من عالم الضرورة وكلاهما شوق مجنح لعالم الكمال. لكن الإسلام وإن كان لا يعترض على بعض أنواع الفنون فإنه يحرم تحريماً قاطعاً أنواعاً أخرى وأخصها فن نحت التماثيل التي فيها مشابهة لخلق الله وهي التي أبدع فيها (مختار).
لقد تحدى مختار هذا التحريم وعاش حياة مملوءة بالصراع من أجل وضع فن النحت في أعلى مكانة في المجتمع الذي يعادي صناعة التماثيل ويعتبرها امتداداً لصناعة الأصنام. يقول المستشرق الألماني (ألكسندر فورس): (إنه لا بد من ترك مكافحة الإسلام وعلى أرض الإسلام ذاته إلى مسلمين عقلانيين مستنيرين، فالهجوم على الإسلام من مواقع غير إسلامية سيقوي جانب الإسلاميين المتطرفين ويكسبهم أرضاً جديدة). ولاشك أن (مختار) كان واحداً من هؤلاء المسلمين العقلانيين المستنيرين الذين يقصدهم (فورس).
فلم يكن (مختار) يعبأ بهذه الأحاديث النبوية الصحيحة التي تؤكد على أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة هم المصورون الذين يقال لهم: (احيوا ما خلقتم)، وهم الذين يجعل الله لهم بكل صورة نفساً تعذبهم في جهنم.
فأبت أنامل (مختار) إلا أن تتجاوز ما شرع الله، ولم يكبح جماح رغبته ويقف عند ما لا يرضاه الله. ( شريفة الغامدى) قد لا يعارض الإسلام بعضاً من أنواع الفنون، لكننا نتصور أن الفنون في مجملها هي أضعف قاعدة يستند إليها أحد في دعم الإسلام، بل إنها أيسر هذه القواعد التي يمكن عن طريقها اختراق الإسلام وتدميره من داخله. ولقد ساهم كبار المفكرين في مصر في اختراق الإسلام عن طريق الفن غير عابئين بمسألة تحريم الإسلام لنحت التماثيل. يقول عباس محمود العقاد: (إن تمثال نهضة مصر هو باكورة الرموز الفنية في ميادين العاصمة، فلا يكون له معنى إلا إذا تبعته شواهد هذه النهضة في غير تمثال واحد لمعاني الحياة القومية، ولا نغتبط به أعظم الاغتباط إلا إذا كان ترحيباً بما يتبعه من رؤية التماثيل في كل ميدان).
كانت كلمات العقاد هذه دافعاً لبعض الكتاب على الاعتقاد أن كلمات العقاد هذه تمثل رداً على تحريم صنع التماثيل على أساس رؤيتهم للعقاد أنه طالما كان من كبار المسلمين المدافعين على الإسلام فهو المرجع في صحة أو عدم صحة تحريم التماثيل لا الأحاديث النبوية الصحيحة! وقد أفتى العلماء بأن (إقامة التماثيل لأي غرض من الأغراض محرمة؛ سواء كان ذلك لتخليد ذكرى الملوك وقادة الجيوش والوجهاء والمصلحين، أم كان رمزاً للعقل والشجاعة كتمثال أبي الهول أم لغير ذلك من الأغراض، لعموم الأحاديث الصحيحة الواردة في المنع من ذلك. ولأنه ذريعة إلى الشرك كما جرى لقوم نوح). أما القول بأن ليس هناك خوف على الناس من عبادة التماثيل كأصنام فمردود عليه بأن: (مظنة الشرك ليست هي العلة الوحيدة من تكسير الأصنام، بل هناك علل وحكم أخرى منها مضاهاة خلق اللّه، والعلة كما قرر علماء الأصول لا تنقض إذا كان الحكم معللاً بأكثر من علة) (عبد العزيز بن سطام).
ويعتبر الأستاذ محمود شاكر من أبرز المفكرين الذين قدموا نظرية محددة المعالم في قضية علاقة الدين بالفن، ومن هذه النظرية حدد موقفه من الفن الفرعوني عامة ومن تمثال (نهضة مصر) خاصة. وتقوم هذه النظرية على المرتكزات الآتية:
أولاً: أن الحياة الاجتماعية هي كل ما تقوم عليه حياة الناس: من الدين وعقائده وشرائعه، وما يتميز به العصر من الأخلاق والعادات والموروثات والأساطير الشعبية التي انحدرت إليه من القِدم، ثم سائر أسباب الحضارة المعاصرة بكل مادتها وألوانها وحقائقها واباطيلها.
ثانياً: أن الطبيعة الجغرافية هي (صورة الأرض بنباتها وأنهارها وصحرائها، وحيوانها وغابها وما إلى ذلك، وجو السماء بصفائه والتماعه وشمسه وقمره ونجومه وسحابه وثلوجه وصيفه وشتائه وربيعه).
ثالثاً: أن الفنان هو (قلب الأمة النابض الذي يتدفق إليه الدم الحي الذي تعيش به حضارة هذه الأمة... وهو هذا العبقري المارد القلق الناقد الذي يقوم بنقد الحياة الاجتماعية في عصره؛ سواء أكان يقبلها أو يرفضها. وتجتمع في هذا الفنان حقيقة الاجتماع الإنساني الذي يعيش فيه بما تضمه من جوانبه المختلفة، وكذلك الطبيعة الجغرافية للمكان وما تشتمله من أرض وسماء ونبات... التي من شأنها أن تنشئ في الفنان العديد من الأفكار والأخيلة.
تولد هذه العوامل (الحياة الاجتماعية والطبيعة الجغرافية) في نفس الفنان ألواناً من أخيلة الفن التي يريد تحقيقها أو تمثيلها أو إبداعها. رابعاً: أنَّ تتبع الآثار الفنية وتاريخها في كل أجيال الناس من الهند والصين والعرب والترك والروم، وكل الأمم القديمة، وسائر الأمم الحديثة لا يخطئ أثر الحياة الاجتماعية في الأثر الفني، ولا أثر الطبيعة الجغرافية في جوه الفني.
خامساً: أن الفنون والعظيمة منها بالذات مرتبطة أشد الارتباط بالعقيدة الدينية وثنية كانت أو إلهية، وبالطبيعة الجغرافية التي تمد عليها من ظلالها.
فالدين والعقيدة هما عماد الاجتماع الإنساني وأصله وأعظم مؤثر في توجيه أغراضه والإحاطة بها وتدبيرها وتوليدها، فهما إذن أصل قائم في الحضارة التي تدين بهما مهما تطورت بعد ذلك وخرجت عليهما فأهملتهما؛ وذلك لأن الشعوب تحتفظ من الأديان بخصائص كثيرة لا يمكن أن تؤثر فيها تطورات الحضارات المدنية الخاضعة للعلم والسياسة وما إليهما.
سادساً: أن الفنون الصينية والهندية تتميز بالاجتماع الوثني الذي يعيش فيه الفنان الصيني أو الهندي، وبطبيعة البلاد الهندية والصينية. كما أن أعظم الآثار الفنية الأوروبية التي يعدها الأوروبيون مثلاً في طليعة العبقرية الفنية هي الآثار التي نشأت وربت وترعرعت وامتدت تحت ظلال الكنيسة والعقائد المسيحية التي عاش في مدنيتها الفنانون الذين أبدعوها وتأنقوا فيها، وبالغوا في إتقانها مثل الفنانين الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم. وهذه الآثار كما يشاهدها المشاهدون تختلف باختلاف الطبيعة الجغرافية للبلد الذي نشأت فيه وهي السبب الثاني في انتاج الفنان الأوروبي.
هذه الآثار التي بقيت إلى اليوم تعد أصل الفن الأوروبي الحديث وانطلاقاً من هذه العناصر الستة عن (الفن) حدد الأستاذ (محمود شاكر) موقفه من (الفن الفرعوني) على النحو التالي:
أولاً: الفن الفرعوني - بغير شك - ليس إلا نتاجاً مركباً من الوثنية المصرية الفرعونية والطبيعة المصرية الرائعة القوية. وأكثر ذلك واضح في هذه الأبنية الضخمة بتماثيلها الغريبة المتقنة المختلفة الدلالات على المعاني المصرية القديمة.
ثانياً: الفن الفرعوني ناتج أيضاً عن الأصول الاجتماعية الخاضعة للوثنية الفرعونية التي كان يعيش عليها الشعب المصري القديم، فهذه الديانة القديمة الجاهلية التي عبدت أوثانها وتقدست بعقائدها الباطلة، وخضعت لأساطيرها السخيفة، واستمدت تهاويلها من الإيمان بجبرية هذه الأوثان والقوى الطبيعية المختلفة كالشمس والنيل والتمساح وكذا وكذا من الأوهام الغالية، هي التي أنتجت هذا الفن المصري القديم بمعابده وتماثيله الهيروغليفية المعبرة أدق التعبير عن حقيقة المدد الفني للآثار المصرية الفرعونية.
ثالثاً: لم يستطع الفنان الفرعوني أن ينشئ هذه الآثار الهائلة الغريبة التي بقيت هذه القرون الطوال تتحدى الزمان المتطاول عليها، ولم يمنحها هذا الجبروت الهائل والاستبداد الطاغي إلا بالقوة التي أنشأتها ودبرتها له عقائده الوثنية الرهيبة ولإيمان المجتمع المصري بها إيماناً خاضعاً متعقباً أيضاً، وأعانتها الطبيعة الجغرافية المصرية العظيمة بشمسها وقمرها وصيفها وشتائها.
وصحرائها التي تحف بالنيل العنيف المتدفق بسلطان طاغ كسلطان الفراعنة الملوك. كل أولئك أثار الفنان وأمد إحساسه المرهف بالمادة التي استطاع أن يصوغ فيها فنه الوثني العبقري. ومما سبق يتقرر أن الفن المصري الفرعوني على دقته وروعته وجبروته ما هو إلا فن وثني جاهلي قائم على التهاويل والأساطير والخرافات التي تمحق العقل الإنساني.
رابعاً: أن هذا الفن لا يمكن أن يقوم مرة أخرى في أرض تدين بدين غير الوثنية الفرعونية الطاغية؛ سواء أكان هذا الدين يهودياً أم نصرانياً أم إسلامياً أم غير ذلك من أشباه الأديان. وانطلاقاً من هذه الرؤية للفن بصفة عامة والفن الفرعوني بصفة خاصة حدد الأستاذ محمود شاكر موقفه من تمثال نهضة مصر على النحو التالي:
أولاً: هذا التمثال الذي أقامه المثال القدير (مختار) ليس إلا تقليداًَ فاسداً لآثار حضارة قد دثرت وبادت ولا يمكن أن تعود إلى أرض مصر مرة أخرى بوثنيتها وأباطيلها وأساطيرها وخرافاتها.
ثانياً: على الرغم من أن هذا التمثال هو تقليد رائع يدل على قدرة الفنان الذي نحته، لكنه لا يستطيع أن يعيد في مصر تاريخ الوثنية الجاهلة، واجتماع الحضارة الفرعونية، وما يحيط بذلك من الأبنية الضخمة التي شادها أوائله، والتي كانت وحياً للفنان الفرعوني الذي عبد الشمس وخضع لفرعون وأقر له معاني الربوبية، وآمن بالأباطيل والأساطير والتهاويل الدينية والوثنية الضخمة الهائلة المخيفة التي قذفها في قلبه أبالسة عصره من الجبارين والطغاة.
ولا يستطيع كذلك أن يجعل في أرض مصر شعباً وثنياً متعبداً للفراعنة والجبابرة والخوف والرهبة والرعب حتى يتأثر بمعنى هذا الضرب من الفن المصري القديم.
ثالثاً: ليس في مصر الآن من الشعب من يستطيع أن يجد لهذا التمثال معنى أو تأثيراً أو اهتزازاً إلا من القديم أو أخيلة القدم.
رابعاً: أن محاولة الاستمداد من الفن الفرعوني وهو ما يشكل نهضة لمصر مع الحياة الاجتماعية الإسلامية التي يعيشها الشعب في مصر، أو حتى من الفن الإسلامي يعتبر تناقضاً، ومن ثَمَّ لا يمكن أن يكون ولا أن يعمل به إلا إذا شئنا أن نوجد لمصر حضارة مقلدة وضعيفة ملفقة من أشياء ليست نتيجة ولا شبه نتيجة للاجتماع المصري الإسلامي الحديث الذي ندعو إليه. ومن المهم الإشارة إلى أن محاولات إحياء النزعة الفرعونية لم تقتصر على فن النحت فقط، لكنها امتدت إلى مختلف أنواع الفنون كما أشرنا من قبل.
وكانت السينما من أبرز الفنون في هذه المحاولات. وكان بطلها الذي تركزت عليه الأضواء هو المخرج المصري (شادي عبد السلام) الذي أخرج فيلم (المومياء). لُقّب شادي عبد السلام بلقب عاشق الفرعونية، وكان يرى أن قيام نهضة حقيقية لمصر الحديثة في كل دروب الحياة تتعذر ما لم يُعِدِ المصريون اكتشاف وتقييم واستلهام تراثهم القديم، هذا التراث ليس هو الإسلام بالطبع وإنما هو تراث الفراعنة؛ لهذا فإنه يرفض نعوت الجاهلية والوثنية المنسوبة إلى هذا التراث، بل يرى في هذا التراث بأبعاده الدينية والأخلاقية والفلسفية فكراً راقياً ومصدراً روحياً لرقي مدني شامل، مؤمناً تماماً بمقولة عالم المصريات الأمريكي (بريستيد) بأن هذا التراث يمثّل فجر ضمير البشرية. (خضر، أسطورة شادي عبد السلام)
------------
المصادر:
1 - أحمد إبراهيم خضر، أسطورة شادي عبد السلام ونزعته الفرعونية، مجلة البيان.
2 - أحمد إبراهيم خضر، علم الآثار ودعوة المسلمين إلى حياة ما قبل الإسلام، (موقع نور الإسلام).
3 - أحمد تمام، الفنون المصرية الجميلة 200سنة مواهب (موقع إسلام أون لاين).
4 - رجاء النقاش، كان (العقاد) صديقاً حميماً للفنانين التشكيليين، ملتقى أسمار.
5 - عادل سليمان جمال، جمهرة مقالات الأستاذ محمود شاكر، ج 1، مكتبة الخانجي القاهرة، ص 85 - 89.
6 - عبد العزيز بن سطام بن عبد العزيز ( الأمير)، تماثيل باميان، شبهات وردود.
www.fawayed.com/1/e.htm - 7 محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، دار الرسالة، مكة، 1993م.
8 - محمود مختار، ويكيديا الموسوعة الحرة محمود مختار، موقع المعرفة.
9 - محمد قطب، واقعنا المعاصر، دار الشروق ص 242، 263 - 264، 308.
10 - محمد قطب، منهج الفن الإسلامى، دار الشروق.
11 - محمود مختار، ويكيديا الموسوعة الحرة.
12 - شريفة الغامدى، تأملات في الفن التشكيلي، (موقع الألوكة).
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: