البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

(71) ظاهرة الفساد فى جهاز الشرطة : خلاصة الخبرة العالمية

كاتب المقال د - أحمد إبراهيم خضر    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 9587


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


يتفق الأكاديميون والدارسون لظاهرة " فساد جهاز الشرطة " على أن هذه الظاهرة عالمية لا تقتصر على مجتمع دون آخر. وهى وإن كانت شديدة الظهور فى الدول النامية، فإنها قائمة أيضا فى الدول المتقدمة. وأنها فى حد ذاتها مشكلة اجتماعية مستعصية، هناك صعوبة فى تعريفها، وصعوبة فى تحديد مداها، وصعوبة أكثر فى محاربتها.

وليس هناك من شك فى وجود ظاهرة الفساد فى العديد من أجهزة الدولة الأخرى غير جهاز الشرطة، ولكن نظرا لحساسية هذا الجهاز، وما يملكه من سلطة ومن قوة، فإن وجود الفساد بداخله جعله يحظى باهتمام أكبر من الناس ومن أجهزة الإعلام وخاصة فى الدول الغربية الصناعية.

إن الشرطة كجهاز مفوض لخدمة المجتمع، يمنحه المجتمع سلطة لا يمنحها لغيره من الأجهزة. يستطيع رجل الشرطة وفقا للسلطة المخولة له، أن يوقف، وأن يحتجز، وأن يقبض على المواطنين العاديين لأسباب أمنية. لكن المشكلة هنا هى أن بعضا من رجال الشرطة قد يسيئون استخدام هذه السلطة المخولة لهم، وقد يستخدم بعضهم القوة المفرطة أثناء أدائه لدوره أو اضطلاعه بمسئوليته، أو يخطئ أخطاء مقصودة أو غير مقصودة، وهذا من شأنه أن يثير أسئلة هامة حول علاقة رجل الشرطة بالمجتمع. فعند حدوث واقعة معينة فيها خروج عن المألوف يطرح الناس أسئلة عديدة منها : هل بإمكاننا أن نثق فى جهاز الشرطة ؟ هل هذه الواقعة مجرد واقعة على السطح أم أن هناك وقائع أخرى غير معروفة ولم نسمع عنها ؟ كيف يمكن تصور العلاقة بين رجال الشرطة وكبار المجرمين أو العصابات الإجرامية ؟...... الخ. إن فساد جهاز الشرطة يعنى بالنسبة للجمهور افتقاد هذا الجهاز إلى التكامل، وكل هذا من شأنه أن يشكل عائقا قويا فى العلاقات الجيدة بين الشرطة والشعب.

وينبه الباحثون فى الفساد الشُرطى من " هونج كونج" إلى الارتباط بين الفساد الشُرطى والنظام السياسى فيقولون :" أن دراسة الفساد الشُرطى لا يمكن أن تنفصل عن السياق السياسى، ذلك لأن الفساد الشُرطى هو جزء متكامل من التفاعل بين الصفوة الحاكمة والجماهير. ولهذا يرى بعض الخبراء أن مشكلة جهاز الشرطة الرئيسة تكمن فى أن رجاله لا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مهنيون بعد أن تم تسييسهم بدرجة كبيرة، وأصبحوا أداة فى يد النظام السياسى والقادة السياسيين. فالسياسيون يتحكمون فى تعيينهم فى المناصب العليا لحماية النظام أساسا، وعلى حساب المصالح العامة. كما يتدخل السياسيون كذلك فى تنقلات ومكافآت وجزاءات الضباط، وهذا من شأنه أن يفتح الباب أمام الفساد طالما أن الجهاز يعمل لخدمة النظام ، وذلك على حد رؤية خبراء هونج كونج.

وبينما يرى البعض أن غالبية رجال الشرطة فاسدون، يرى البعض الآخر أن حفنة قليلة منهم هى المتورطة فى الفساد. وأن الفساد ليس مرتبطا برتب معينة ولكنه ينتشر بين مختلف الرتب. لكن القاعدة – كما يرى هذا البعض - هى أننا يجب ألا نحكم على كل جهاز الشرطة بالفساد بسبب انحراف البعض منهم.

الواقع أنه قد يصعب معرفة درجة انتشار الفساد داخل الجهاز ذاته، طالما أنه ليس هناك من تقارير تثبت حدوثه، لكن هناك العديد من التحقيقات الصحفية والرسمية تكشف عن وجود فساد فى الجهاز الشُرطى مما يعطى انطباعا بأنه شائع. هذا وقد أجرى البروفيسور " بن سميث " فى عام 1998 درسة على مائتين من محققى الشرطة الأمريكيين ووجه إليهم سؤالا مؤداه : " هناك مقولة تقول : أن العديد من مسئولى الشرطة فاسدون " فهل تؤيد ذلك ؟ أجاب جميع المحققين بعبارة " نعم ".

كما يمثل عدم الانضباط فى وحدات الشرطة مشكلة هامة، وقد سؤل المحققون المشار إليهم فى الدراسة السابقة سؤالا مؤداه : هناك عدم انضباط فى وحدات الشرطة ، فهل توافق على ذلك ؟ أجاب جميع المحققين بنعم أيضا.

والشيئ المسلم به هو أن انتشار الفساد فى مختلف وحدات الجهاز الشُرطى يشكل عائقا كبيرا أمام عملها وكفاءتها. كما أنه يقلب أهداف التنظيم الشُرطى رأسا على عقب. ومن ثم يتسبب هذا الفساد فى انتشار الجرائم بدلا من أن يكون رادعا لمرتكبيها. وقد دفع هذا الأمر بعض الباحثين إلى دراسة مدى ودرجة الفساد داخل جهاز الشرطة.

وجد الخبراء أن هناك ثلاثة عوامل تحد من قدرة الباحثين على تحديد مدى ودرجة الفساد فى جهاز الشرطة.

أولا : العوامل التصورية :


يضع بعض العلماء تعريفات صارمة للفساد، ويرى أن أى خروج عن التعليمات المقررة فى جهاز الشرطة يعتبر فسادا. لكن المشكلة هنا هى أن هذه القواعد التى يتحتم على رجل الشرطة الالتزام بها كثيرة جدا. فهناك تعليمات تلزمه بطريقة ارتداء الزى، وكيف يخرج من سيارته، وكيف يسأل المشتبه فيهم، وهل يقبل أو لا يقبل دعوة المواطن ع لى شرب فنجان من القهوة مثلا....الى آخر ذلك من التعليمات التى يكون الالتزام بها صعبا فى كل الأوقات، فإلى أى مدى يعتبر سوء تصرفهم فى مثل هذه المواقف فسادا ؟.

وهناك من العلماء الآخرين من يعرفون فساد الشرطة بطرق أكثر مرونة من الفريق الأول. فيتغاضى هذا الفريق عن ارتكاب رجال الشرطة لبعض المحظورات طالما أن ذلك لا يصيب أحدا بسوء بصورة مباشرة أو يتسبب فى ظلم لآخرين. ويرون أن مثل هذه الانتهاكات لقواعد الشرطة هى مجرد انحراف عن جادة المهنة. ويستند هذا الفريق إلى العديد من المخالفات التى تحدث فى الأجهزة الأخرى للدولة، فبعض العاملين فى المصالح الحكومية وغيرها يتجاوزون الفترة الزمنية المحددة لفترة الراحة المسموح بها فى العمل، وبعضهم يأخذ أشياء من مواقع العمل من المفترض ألا تخرج من هذه المواقع، وبعضهم يتلاعب بقواعد الأجازات المرضية، ويستخدمها بطريقة غير مناسبة. بعض العمال فى بعض المطاعم يتناولون طعاما دون دفع ثمنه، وكل هذه الأمور لها ما يشابهها فى جهاز الشرطة. يعنى الخبراء من ذلك أن هناك عدم وضوح فى تصور ما يمكن أن نعتبره فسادا، ومالم يمكن أن نعتبره كذلك.

ثانيا : العوامل المنهجية :


هناك صعوبة فى دراسة مدى الفساد فى جهاز الشرطة باستخدام وسائل البحث التقليدية. فقد أوضحت الدراسات فى هذا المجال مدى الصعوبة التى يجدها الباحثون فى دراسة ظاهرة فساد ضباط الشرطة. هناك صعوبة تكمن فى عدم ثقة الضباط فى هذه البحوث. وهناك صعوبة فى الطريقة التى يجيب بها المبحوثون من رجال الشرطة على الباحثين حينما يجيبون عن أسئلة تتعلق بسوء تصرفات رجال الشرطة. تسبب هذه الأسئلة انزعاجا عند الضباط الشرفاء، ولا ينفتح الضباط الفاسدون فى الحديث عنها. والواقع هو أنه من الصعب على الباحثين سبر غور عالم الشرطة والاقتراب من أنشطة رجالها وحياتهم وأمورهم، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالفساد. هذا بالإضافة إلى قاعدة معروفة فى عالم البحث الاجتماعى وهى أن المبحوثين يغيرون من سلوكياتهم فى حضور الباحثين، وبالتالى يصعب عليهم الوقوف على الكثير من المسائل المتعلقة بالفساد، وهذا من شأنه أن يؤدى إلى تحيز فى نتائج الدراسة وعدم إمكانية الحصول على تصور دقيق عما يجرى فى جهاز الشرطة.

ثالثا : العوامل الثقافية :


تحد هذه العوامل من قدرة الباحثين على فهم ظاهرة فساد جهاز الشرطة. والمقصود بالعوامل الثقافية اختلاف معتقدات الأفراد حول السلوكيات المناسبة، وغير المناسبة لرجل الشرطة. فما يعتبره البعض سلوكا فاسدا ينظر البعض الآخر عليه على أنه سلوك مقبول، والعكس صحيح.

وهذه أمثلة لبعض السلوكيات الفاسدة فى جهاز الشرطة فى عدة دول مختلفة
فى بنجلاديش أظهرت أحد المسوح أن جهاز الشرطة هو أشد أجهزة المجتمع فسادا. وأشار ثلاثة أرباع المبحوثين أنهم فى العام الذى سبق إجراء المسح كانوا قد قدموا رشاوى لرجال شرطة.
فى بوليفيا ارتكبت عصابة إجرامية سلسلة من السرقات المروعة ثم تبين أن بعضا من الرتب الكبرى فى جهاز الشرطة منخرطون فى هذه العصابة.
فى كينيا يحتج الطلاب والمتظاهرون دوما على الفساد فى جهاز الشرطة.
فى هاييتى استأجرت زوجة أحد مسئولى الشرطة ثمانية رجال لقتل صبى فى السابعة عشرة لمجرد أنه دخل فناء بيتها.
فى نيومكسيكو سيتى ادعى أحد ضباط الشرطة أن شخصا ما قد صدمه بسيارته وهو يركب دراجته النارية فى محاولة للحصول على تعويض من صاحب السيارة، وساعده فى ذلك اثنين من زملائه وشهدا زورا بصحة الواقعة.
فى جنوب أفريقيا ارتفعت معدلات جرائم السرقة والابتزاز من قبل رجال الشرطة وأصبحت تمثل مشكلة كبرى لهذا الجهاز. وانتشرت ظواهر إطلاق رجال الشرطة سراح المشتبه فيهم مقابل مال يدفعونه لهم، وقبض على العديد من الضباط حصلوا على مبالغ مالية مقابل شهادات كاذبة تفيد بأن رجلا استخدم سيارته فى ارتكاب جريمة.
وفى الهند حكم على رجل شرطة بالسجن اثنتى عشرة سنه بتهمة اغتصاب فتاة قاصر.
وفى الولايات المتحدة هناك قول مقتضاه :" طالما أن هناك رجل شرطة أمريكى، فهناك فساد ".

من هنا كانت هناك حاجة ماسة لتعريف ما المقصود بفساد الجهاز الشُرطى
فى الفترة من السابع والعشرين وحتى الثلاثين من شهر مايو من عام 2001 عقد فى مدينة "سكزجنو" فى بولندا وبدعوة من وزارة الداخلية البولندية المؤتمر التنفيذى الدولى الثامن لمناقشة قضية الفساد. حضر المؤتمر ممثلون عن رجال الشرطة، وعن الرسميين الحكوميين، والباحثين، والأكاديميين الذين قدموا من أربع وعشرين دولة من أفريقيا، وآسيا، واستراليا، وأوربا، والأمريكتين الشمالية والجنوبية. كان عنوان المؤتمر :" الفساد : تهديد للنظام العالمى ". ناقش المؤتمر الأوراق والبحوث التى تتناول تعريف، وأشكال، ووصف، وتوثيق الفساد الشُرطى والمؤسسى، ومدى آثار هذا الفساد على المجتمع، وماهية المناهج المختلفة لاستئصاله، أو التخفيف من حدته.

رأى المشاركون فى هذا المؤتمر أن التعريف القانونى للفساد يختلف من بلد لأخر. لكن مختلف التعريفات تجمع على أن الفساد : هو السلوك غير المناسب، أو استخدام السلطة غير المناسب فى تحقيق مكاسب شخصية من قبل موظف عام فى الدولة أو من قبل رجل شرطة.

وهناك من الباحثين من يعرف الفساد بأنه :" إساءة استخدام أو تجاوز حدود السلطة الرسمية، أوعدم أداء المهام الرسمية، أو قبول رشوة، أو تقاضى عمولات وهدايا، أو أى منافع أخرى، أو حماية أنشطة غير قانونية، أو تصرفات من شأنها حماية مذنبين، أو تدمير سجلات أو أوراق خاصة بالشرطة، أو سرقة المقبوض عليهم، أو السرقة من مسرح الجريمة، أو اختلاق أدلة كاذبة، أو التعاون أو التورط فى أنشطة إجرامية بصورة مباشرة، أو تجميع واستخدام معلومات تخص جهاز الشرطة.
ومن التعريفات الأخرى المشابهة للتعريفات السابقة هذا التعريف الذى يرى الفساد الشُرطى بأنه : " إساءة استخدام رجل الشرطة للسلطة المخولة له سعيا وراء الحصول على مكاسب شخصية أو تنظيمية ".
وهناك تعريف آخر مؤداه : " فعل ما يحدث بين طرفين يستخدم فيها رجل الشرطة السلطة الممنوحة له للحصول على مكاسب لا يستطيع الطرفان الحصول عليها بطريق مشروع ".
وفى تعريف آخر أيضا : " أنه فعل غير قانونى أو سوء تصرف يتضمن استخدام سلطة الوظيفة للحصول على مكاسب شخصية أو جماعية أو تنظيمية. ويعتبر الفعل فاسدا إذا كان هناك انتهاك لمواد القانون المدنى أو الجنائى، ويعتبر سوء تصرف إذا كان فيه خروجا عن بعض القواعد المقررة كقواعد المرور مثلا.
أما تعريف الباحثين فى "هونج كونج " للفساد الشُرطى فلا يختلف كثيرا عن التعريفات السابقة فيقولون بأنه : " سوء استخدام السلطة الشُرطية سعيا وراء الحصول على مكتسبات شخصية، مثل قبول وتجميع أو توزيع نقد زائف، وغير ذلك مما يعتبر انتهاكا للقواعد والقوانين التى تصدرها الحكومة القائمة ".

ولكى يصنف فعل رجل الشرطة على أنه فاسد، لا بد من الوقوف على الكيفية التى استخدم فيها هذا الشرطى - عند وقوع الفعل - أى شكل من أشكال المعرفة الخاصة بطبيعة عمله، أو موجودات وحدته، أو أن يكون الدافع إلى فعله هذا هو الحصول على فائدة ما، أو مكافأة محددة شخصية أو جماعية أو تنظيمية بصفته عضوا فى الجهاز الشُرطى.

وتكمن صعوبة تعريف الفعل الفاسد هو أن بعضا من أشكال ممارسات السلطة أو سوء تصرف أفرادها هى موضع سؤال. فهناك تصرفات لرجال الشرطة فى التعامل مع المتهمين تتسم بالتعصب أو بالغلظة، أو الاستخدام غير الضرورى للقوة، فليس هنا مكسب ملموس لرجل الشرطة، فكيف يوصف هذا الفعل بأنه فعل فاسد فى ضوء تعاريف الفساد ؟ ومن هنا تبدو الحاجة لتعريف هذه الأنماط السلوكية لرجل الشرطة لأنه قد يكون لها نفس التأثير المترتب على الفساد رغم أنها لا توصف بأنها أفعال فاسدة ولكن الناس تنظر إليها على أنها أفعال فاسدة.

ويرى بعض الباحثين فى بعض البلدان ان الفساد فى جهاز الشرطة ينقسم إلى نوعين :
فساد داخلى ويتمثل فى : " التصرفات والأفعال غير القانونية داخل جهاز الشرطة التى يقوم بها أكثر من رجل من رجالها ".
وفساد خارجى يتمثل فى : " التصرفات والأفعال غير القانونية التى تجرى بين واحد أو أكثر من رجال الشرطة وبين الجمهور ".
وفى بلدان أخرى مثل "البرازيل" ينقسم الفساد إلى نوعين : سلبى وفعال.
أما السلبى فهو :" استخدام المنصب الذى يشغله الشخص لتحقيق مكاسب تعود إليه فى شخصه هو".
أما الفساد الفعال فهو :" تقديم رشوة لموظف عام لإقناعه بإنجاز عمل، أو التغاضى عن فعل، أوتأخير إنفاذ أمر رسمى ".

المشكلة فى تعريفات الفساد الشُرطى هى أن هناك قصورا فيها يجعلها لا تنطبق على أشكال معينة من السلوكيات المصنفة على أنها فاسدة، كما أشرنا من قبل. وهناك مشكلة اخرى فى هذه التعريفات وهى وإن كانت تنطبق على طرفين ارتكبا فعلا فاسدا، فإن هناك أفعالا فاسدة يرتكبها رجل الشرطة بمفرده كأن يسرق شيئا من مسرح الجريمة، أو لا يقوم بإلقاء القبض على قريب أو صديق له متهم فى واقعة ما. يضاف إلى ذلك أن العديد من تعريفات الفساد تفترض أن هناك كسبا معينا يتحصل عليه رجل الشرطة من وراء هذا الفساد، وهنا تنشأ مشكلة، وهى صعوبة إثبات الدليل الملموس الذى يدينه، فهو قد يكذب أمام المحكمة، أو يخفى دليلا أثناء التحقيق، أو يقدم دليلا زائفا لحماية نفسه أو أحد زملائه.

كيف يبدأ الفساد


أجرى " لورانس شيرمان" دراسة عن الكيفية التى يتحول فيها رجال الشرطة إلى رجال فاسدين. تبنى " شيرمان" فى دراسته ما أسماه بـ" المدخل التطورى للفساد" يقول فيه : " يبدأ الفعل الفاسد لرجل الشرطة بتصرف سلوكى صغير ليس فيه إيذاء لأحد، وليس فيه ضحايا، كأن يأخذ من متجر يقوم بتفتيشه أى مادة تافهة لنفسه، أو يتقاضى رشوة صغيرة للتغاضى عن مخالفة مرورية. هذا الفعل فى نظر رجل الشرطة مجرد انتهاك محدود لقواعد مقررة لا يتسبب فيها بضرر لأى أحد، ومن ثم لا يعتبره فسادا، لكنه مع مرور الوقت ومع تكرر مثل هذه الواقعات يتغير التصور الذاتى لرجل الشرطة من رجل شرطة شريف مهمته إنفاذ القانون إلى رجل شرطة آخر، لا يقوم بتنفيذ القانون إلا لصالح نفسه. الواقع أن هذه الخروقات الصغيرة تتحول إلى خروقات أكثر خطورة، فإذا ما ارتكب هذه الخروقات أمام زملائه وبتسامح منهم، فإن هذه رسالة إلى كل الآخرين أن هذا الفعل ليس بفاسد، بل ربما يلقى تشجيعا من الجميع، وهكذا يبدأ الفساد صغيرا، ثم يكبر مع مرور الوقت مع تسامح البيئة المحيطة به فى مجال العمل عن فساد هذا الفعل.

أنواع الفساد


فى عام 1974طور الباحثان " رى بوك و تى باركر" قائمة تشمل ثمانية أنماط من أنماط الفساد تشمل : ( سوء استخدام السلطة، و تقاضى عمولات، والسرقة الانتهازية، وقبول رجل الشرطة محاباة أو رشوة من مواطن مقابل عدم احتجازه، وحماية الأنشطة غير القانونية، والأفعال الإجرامية المباشرة، وشراء رجل الشرطة أوبيعه أو مقايضته زميله بخدمات تنظيمية مثل أن يبيع له نوبته أو أجازته...الخ، وقيام رجل الشرطة يالإدلاء بشهادات كاذبة ).
وفى عام 1998 قام " سيد وبروس " بمراجعة الأدبيات الدولية المطبوعة عبر عقدين من الزمان، وتمكنا من تحديد اثنين وعشرين شكلا من الممارسات التى صنفت على أنها " فساد" مرتبط بجهاز الشرطة. وضع الباحثان هذه الأنواع فى سبعة قوائم رئيسة هى : ( المحاباة، والرشوة والابتزاز، وتقاضى العمولات، وغسيل الأموال، وتحويل المصادر الخاصة بجهاز الشرطة إلى غير مسارها القانونى، كاستخدام البضائع المصادرة بطريقة غير قانونية، والسرقة، والتورط المخطط فى نشاط إجرامى ).

كما يرى بعض الباحثين أن الشرطة عادة ماتنتهك حقوق الإنسان وتنكر الحقوق الأساسية للمواطن الذى من المفروض أن يحميه القانون. ومن أمثلة ذلك الوحشية فى التعامل مع المعتقلين كاحتجازهم، واعتقالهم، وتعذيبهم بغير سند من القانون ، هذا بالإضافة إلى الاستخدام غير المشروع للأسلحة ، والتحرش الجنسى.....الخ.

أسباب الفساد


اعتمادا على عدد وفير من الدراسات استطاع الدكتور " دافيد كارتر" عالم الإجرام الأمريكى تلخيص العوامل المتنوعة التى تساهم فى ظاهرة الفساد فى جهاز الشرطة على النحو التالى : ( الجشع والطمع، دوافع شخصية مثل حب الأنا وشهوة الجنس، وشهوة السلطة، والتعصب الثقافى نحو فئات معينة من الجمهور، والتنشئة الخاصة بالجماعة التى يعمل معها رجل الشرطة، وسوء انتقاء طلاب الشرطة، والإشراف والتوجيه غير المناسب، والافتقاد إلى المحاسبة الواضحة لسلوك رجال الشرطة، وعدم وجود جزاءات، أو تهديد حقيقى يمس رجل الشرطة فى حالة عدم انضباطه ).

النظريات المفسرة لظاهرة فساد جهاز الشرطة


ظهرت فى السنوات الأخيرة ثلاث نظريات رئيسة حاولت تفسير أسباب الفساد المنتشر فى جهاز الشرطة.
النظرية الأولى :
وتسمى بنظرية عموم المجتمع The Society at large theory. وصاحب هذه النظرية هو " أو. دبليو. ولسون ". يرى " ولسون" أن المجتمع كله هو المسئول عن فساد جهاز الشرطة. بمعنى أن فساد هذا الجهاز ناتج أصلا عن أفعال فاسدة سائدة فى المجتمع. فحينما يقوم مواطن ما بإعطاء رجل شرطة مبلغا من المال أو هدية صغيرة مقابل خدمة أداها له، يكون هذا المواطن قد ساهم فى إفساد هذا الجهاز. ذلك لأنه فتح الباب أمام رجل الشرطة لأن يحصل على مقابل أكثر لخدمات أكبر. إن هذا الأمر لا يقتصر على جهاز الشرطة، إنما يمتد ليشمل كافة القطاعات الأخرى فى المجتمع. وإذا رأى ضابط الشرطة أن قاضيا ما يتقاضى رشوة مقابل عرقلته سير العدالة، فإن هذا الضابط سيصل إلى نتيجة مؤداها : إذا كان القاضى يربح من هذا السلوك، فإنه بإمكانه أن يفعل ذلك أيضا.

النظرية الثانية :
تسمى هذه النظرية بنظرية " دورة الفساد" The structural- affiliation theory. صاحب هذه النظرية هو " آرثر نيدر هوفر". يرى " نيدر هوفر " أن ضباط الشرطة يتشربون الفساد وهم يراقبون أفعال الضباط والرؤساء القدامى. فالضباط الجدد لا يبدأون بالفساد، ولكن السلوك المنحرف والاستجابة لهذا السلوك فى ميدان تعزيز القانون يبدأ فى الحركة مشكلا " دورة فساد". يتعلم الضباط الجدد سلوكياتهم من الضباط القدامى الذين تعلموها من الضباط الأقدم منهم .. فإذا لم تضع السلطات المسئولة حدا لذلك فإن الضباط الجدد سيقومون بنفس هذه الأفعال السلوكية الفاسدة، ويمررونه لغيرهم من الضباط الجدد. وهذا يعنى أن الفساد لا يقتصر على الرتب الدنيا فقط، بل يمتد فيشمل القدامى منهم، وعادة ماينخرط الآخرون فيما يعرف بالفساد المنظم.
أعطى خبراء الفساد الشرطى البريطانيون أهمية خاصة لما يسمونه " الثقافة الفرعية فى وحدات الشرطة ". وتعنى الثقافة الفرعية أن الأفراد الجدد يجدون أنفسهم يتعايشون مع زملاء لهم تحكمهم ثقافة خاصة فى الوحدة التى يعملون فيها، وأن عليهم أن مسايرة زملائهم فيما يسود بينهم من معايير، فإذا كانت هذه المعايير فاسدة، فعليه أن يتماشى معها، وإلا فإنه سيتعرض لجزاءات غير رسمية من زملائه تتمثل فى رفضهم له وتعرضه للنبذ. ومن ثم تحتل هذه المعايير غير الرسمية أسبقية فوق المعايير الرسمية. ويبرر البعض قبول هذه المعايير بأن المواطن العادى يعطى عادة (بقشيشا) لمن يقدم له خدمة كسائق التاكسى أو عامل المطعم أو مصفف الشعر، أو من يقوم بتوصيل الطلبات إلى المنازل كنوع من أنواع الرضا على مقدم الخدمة، فلماذا لا ينطبق ذلك على رجل الشرطة ؟.
ترتكز هذه النظرية على عامل هام هو عامل "السرية " الذى هو أحد العوامل الرئيسة فى جهاز الشرطة. إن هذه السلوكيات التى تجرى سرا تمثل أرضية تنزف بالفساد. وتحتاج مواجهة هذا الأمر إلى علاج من خارج الجهاز ذاته كـ " مجلس مراجعة مدنى "، لأنه طالما لا توجد هناك مراجعات لأعمال الشرطة من خارجها، فلن تكون هناك فرصة لإيقاف الفساد، ذلك لأن جهاز الشرطة هو الذى يملك وحده آليات مواجهة الفساد. إنه حينما يلتحق الضباط الجدد بأعمالهم فى وحدات هذا الجهاز ويجدون أن السلوكيات الفاسدة هى المعيار السائد وأنها مقبولة من الجميع، فلن يجدوا حرجا فى قبول هذه المعايير أو تجاهلها على الأقل.

النظرية الثالثة :
اشتهرت هذه النظرية بإسم نظرية " التفاحة المعطوبة" The rotten apple hypothesis. وتعتبر هذه النظرية من أشهر النظريات قبولا لدى الباحثين فى هذا المجال. يرى المؤيدون لهذه النظرية أن فساد جهاز الشرطة ناتج أصلا عن وجود أفراد بداخلها لديهم استعداد للفساد أصلا، وحينما تظهر فضائح هؤلاء الفاسدين على السطح، فإنها تشوه صورة جهاز الشرطة بأكمله.
ويركز الخبراء البريطانيون على أن طبيعة التنظيم الشُرطى نفسه قد تساهم فى الفساد، ويرون أنه ليس هناك ضوء أحمر يوقف رجل الشرطة عما يريد أن يفعله، فهو حر فى تصرفاته، كما أنه يتقاضى أجرا، وتتاح أمامه فرصة التعامل مع الأشرار والمجرمين كجزء من روتين عمله اليومى. ولا يستطيع الناس مراقبة رجل الشرطة لأن لديه من سلطة البطش قدرا هائلا لا تمكن أحدا من مواجهته.

كما أشار الخبراء أيضا إلى أن الفساد قد يكون متوطنا فى بعض وحدات الشرطة دون غيرها. فهناك وحدات شُرطية معينة متخصصة فى التعامل مع متهمين فى جرائم معينة كوحدات الآداب – أو وحدات المخدرات أو وحدات البضائع المصادرة – وهنا يجد أفراد الشرطة أنفسهم على حافة الوقوع فى الفساد. فإذا كانت الجرائم التى تخصصت فيها هذه الوحدات سرية بطبيعتها، فإنه من الصعب ضبط المتورطين من رجال الشرطة فى أعمال فساد خاصة مع كثرة المغريات التى قد تقدم لهم.

يرجع السبب فى هذا الفساد إلى عدم توخى الدقة فى اختيار رجال الشرطة الجدد، وإلى سوء التدريب، وسوء الإشراف. وأنه إذا لم يتم استئصال هذه النوعيات فإن الفساد سيعم الجهاز كله. ولا علاج لذلك إلا باتباع قواعد صارمة فى عملية الانتقاء للطلاب الجدد، والاهتمام بزيادة جرعات التدريب، ومراعاة الحزم والدقة فى الإشراف.

ويرى الخبراء أنه ليست هناك واحدة من هذه النظريات جامعة مانعة بمفردها وتعمل مستقلة عن الأخرى، ذلك لأن تفسير ظاهرة الفساد قد يكون فى مجموع العوامل التى تناولتها هذه النظريات.

آثار الفساد :


على الرغم من أن الإدراك الشعبى للفساد الشرطى ليس دقيقا بالضرورة، فإن استفتاءات الرأى العام قد تمد بمؤشرات لذلك. ففى أحد المسوح الأمريكية التى أجريت فى عام 1996 عن تصورات الشعب نحو الشرطة، كانت النتائج مقلقة. كان السؤال المطروح هو : لماذا لا يدان المجرمون غالبا بعد القبض عليهم. أجاب 67% من المبحوثين : بأن رجال الشرطة يتلقون رشاوى.

إنه ما أن يصبح الفساد الشرطى ممنهجا، فإنه يغذى إحساس الجماعات الإجرامية بالحصانة. ويسود فى بعض المجتمعات شعور بأن المجرمين الأقوياء لا يمكن المساس بهم، ومن ثم يشعر الناس بعدم الأمن بالتالى، وأن الشرطة لاتحميهم فى الواقع، إنما تتستر على المجرمين، ومن ثم تزول الثقة فى عدالة النظام الجنائى ككل، وفى الشرطة بصفة خاصة.

هذا وقد حاول الباحثون الاستراليون فى عام 1996 الوقوف على العوامل التى من شأنها أن تحد من اتخاذ مواقف صارمة ضد الفساد فذكروا منها ما يلى :

1- الاعتقاد بأن السلوك الفاسد له ما يبرره تحت ظروف معينة.
2- الاعتقاد بأنه ليست هناك حاجة للكشف عن الفعل الفاسد لأنه لا أمل فى اتخاذ موقف حاسم ضده.
3- الخوف من الانتقام ضد من أبلغ عن الفساد سواء على المستوى الشخصى أو المستوى المهنى.
4- صغر رتبة من يرغب فى الإبلاغ عن الفساد.
5- وجود علاقة بين الرؤساء والمتهمين فى قضايا الجريمة.
6- القلق من عدم كفاية الدليل عند الإبلاغ عن حالة فساد.

أما عن أهم الآثار التى ترتب على فساد جهاز الشرطة، فيمكن الإشارة إليها على النحو التالى :

أولا : فقد الشعب ثقته فى جهاز الشرطة


إن أى فعل فاسد وإن صغر، ومجرد تقاعص أحد رجال الشرطة عن إنفاذ القانون أو دخوله فى أنشطة غير مناسبة يسيئ إلى سمعة الجهاز كله، ويفقد الناس ثقتهم واحترامهم لأفراده، ويشكون فى أمانتهم وعدالتهم، ويرون أن رجال الشرطة يمكنهم فعل أى شيئ طالما أن هناك أموالا تدفع لهم، والسلطة فى أيديهم. إن هذا كله من شأنه أن يتسبب فى انهيار العلاقة بين المواطن ورجال الشرطة، ومن ثم يؤثر فى فاعلية جهاز الشرطة فى المجتمع.

ثانيا :الخوف من رجال الشرطة


حينما تفقد الجماهير ثقتها فى رجل الشرطة وتنتشر الإشاعات حول فساد رجالها ينتاب الجماهير الخوف منهم والإحساس بعدم الأمان.

ثالثا : فقد الثقة فى القانون


يرى البعض ان فساد جهاز الشرطة يفقد الناس الثقة فى القانون. لأنه إذا لم يخضع رجل الشرطة للقانون فلماذا يطيعه الأفراد، ذلك لأن القائمين على تنفيذ القانون قد يكونون عملاء لمجرمين أكثر منهم ممثلين لسلطة تردع هؤلاء المجرمين. كما يؤدى انتشار الفساد فى جهاز الشرطة إلى فقد الثقة فى مصداقية رجاله أمام المحاكم. وهذا من شأنه أن يدمر نظام العدالة الجنائى. وقد تتأثر ثقة الناس حتى فى الضباط الشرفاء ، فلا يثقون فى شهاداتهم أمام القضاء، ويتوقعون دائما أن المذنب يمكن أن يطلق سراحه حتى بعد محاكمته.

رابعا : تبنى العقلية الثنائية ( نحن وهم )


أشارت بعض الدراسات إلى أن هناك أثرا خطيرا للفساد الشُرطى يجد ترجمته فى علاقة المواطنين برجال الشرطة. حيث يؤدى الانغراق فى الفساد إلى فساد إدراك رجل الشرطة لما يجب أن تكون عليه هذه العلاقة. خلاصة هذه الدراسات : " أنه مع بداية التحاق الطلاب بجهاز الشرطة يبدأ نوع جديد فى علاقتهم مع المجتمع فى الظهور. إنه العقلية الثنائية ( نحن أى رجال الشرطة ) وهم ( أى المواطنون ). تنمو هذه العقلية مع الضباط الجدد أو العاملين الجدد بالتدريج، وتغذيها سرية الأعمال التى يقومون بها، والضغوط والأخطار التى يتعرضون لها. كل هذا يؤدى إلى نشوء ثقافة متماسكة منعزلة بين رجال الشرطة يميز فيها رجال الشرطة أنفسهم عن المجتمع المحيط بهم تمييزا شديدا، وتتطور هذه العقلية إلى الحد الذى ينظر فيها رجال الشرطة إلى المواطنين على أنهم مصدر متاعب أو أنهم " أعداء "، فيعزلون أنفسهم عن باقى المجتمع، ويتعمق هذا الإدراك بوجود إدراك مقابل من الجمهور ضد رجال الشرطة. وبمرور الوقت وفى كل وقت يشعر فيه رجل الشرطة بعداء المواطن له، تقوى علاقته ورابطته ببيئة العمل التى تحيط به، وتضعف بالتالى علاقته مع المواطنين ثم بالمجتمع ككل.

إن الفساد هنا قد يكون سببا أو نتيجة لفصل الشرطة عن المجتمع، فانعزال الشرطة عن المجتمع يؤدى إلى انحراف قيم رجالها عن قيم المجتمع الكبير.

إن تجاهل الاعتراف بتأثير الفساد الشُرطى على المجتمع يجعل اقتراف الأفعال الفاسدة أيسر وأسهل من محاولة تبريرها وعقلنتها، ومن ثم تكون كل حالة فساد شُرطى سببا فى توسع الهوة بين الشرطة والمجتمع. إن ثنائية ( نحن وهم ) قد تكون دائرية فى تأثيرها، طالما أن رجال الشرطة يتمسكون بثقافة بيئة العمل المحيطة بهم، وطالما يصفهم الجمهور بالانحراف، يصعب الجمع بين الطرفين. وإذا وصم المجتمع رجال الشرطة بأنهم فاسدون، فإن أثر هذا على المجتمع سيكون مدمرا، فإن المجتمع سينظر بالتالى إلى القواعد القانونية على أنها زائفة، وسيتصرف أفراد المجتمع طبقا لهذا التصور، ولا يكون هناك بالتالى ما يمكن الوثوق به والاطمئنان إليه.

خامسا :انتشار ثقافة الفساد وضعف معنويات رجال الشرطة الشرفاء


ركزت بعض الدراسات على الآثار المحدودة للأفعال الفاسدة من قبل رجال الشرطة على اعتبار أنها أفعال لا تسبب إيذاء مباشرا للناس. انتهت هذه الدراسات إلى القول بأن من أهم آثار الفساد لمثل هذه الأفعال هو انتشار ثقافة الفساد التى تحث على مزيد من الأفعال الفاسدة مستقبلا. وتحطيم معنويات رجال الشرطة المخلصين فى أداء أعمالهم، واقتناعهم بأن القانون يطبق على البعض دون البعض الآخر، كما يزيد من احتمالات عقلنة أو تبرير السلوكيات الفاسدة.

الواقع هو أن آثار الفساد السلبية قد تمتد بالفعل إلى رجال الشرطة الشرفاء الذين يحاولون أداء ماهو مطلوب منهم بكفاءة وفاعلية. فهذا الفساد يدمر معنوياتهم. فهم يبذلون أقصى طاقاتهم للقبض على المجرمين المطلوبين للعدالة، ثم يفاجئون بأن بعضا من الضباط الفاسدين أتاحوا أمام هؤلاء المجرمين فرصة للهرب مقابل مبالغ مالية كبيرة. إن هذا الفساد من شأنه أن يضغط على الضباط الشرفاء ليتبنوا موقفا غير أمين تحت شعار : " إذا لم تتمكن من التغلب عليهم فالحق بهم ".
من هنا تبرز أهمية العناية برجال الشرطة الشرفاء، فهم من أقوى العوامل فى محاربة الفساد فى الجهاز الشُرطى. إنهم يشهدون بأنفسهم مظاهر الفساد، ويلمسون الآثار المدمرة لهذا الفساد، ويتوافر لديهم الدافع للإبلاغ عما يشاهدونه. لا بد أن يدعم هؤلاء الرجال بصفة مستمرة ويشجعون على مواجهة الفاسدين من زملائهم، ويجب أن يتم التأكيد لهم أن الضابط الشريف سوف يكافأ، وأن الضابط الفاسد سوف يعاقب.

سادسا : التأثيرات النفسية والاجتماعية للفساد الشرطى على الضحايا والمجتمع


يركز باحثون آخرون على نقطة هامة أغفلتها العديد من الدراسات التى تتناول ظاهرة الفساد الشُرطى، وهى أنها لم تلق الضوء على الآثار الاجتماعية والنفسية التى يتركها هذا الفساد على الضحايا والمجتمع.
ويعتبر تعرض المعتقلين والمحتجزين لمختلف صور الوحشية والتعذيب من أبرز صور الفساد الشُرطى. وقد تناولت العديد من الدراسات هذه الصورة من صور هذا الفساد. ومن أبرز من كتبوا فى هذا المجال الصحفى والمستشار النفسى النيجيرى " لو ميفور". يقول " ميفور " فى مقالة له بعنوان : " الآثار النفسية والاجتماعية للتعامل الوحشى والتعذيب البوليسى فى نيجيريا "- أشهر دول العالم فى مجال– :" الوحشية البوليسية هى الاستخدام العمدى للقوة المفرطة التى عادة ما تكون جسدية، وتتضمن أشكالا من العدوان الشفهى والنفسى من قبل رجل شرطة، أو ضابط سجون. وقد يكون الاعتداء كمبادأة من رجل الشرطة، أو بناء على أوامر صادرة إليه من قبل ضابطه الأعلى استجابة لتعليمات حكومية أو إدارية ".
ويرى " ميفور" أن الوحشية البوليسية موجودة فى مختلف دول العالم. وهى واحدة من أنواع عدة من سوء السلوك الشُرطى، منها الاعتقال بدون سبب، والتعذيب، والتخويف، والتطهير العرقى، والقمع السياسى، وإساءة استعمال الرقابة الشرطية، والاعتداء الجنسى... الخ.
ويرتبط التعذيب النفسى ارتباطا شديدا بالتعذيب البدنى، ولكنه أقل ظهورا، ولا يلتفت إليه الكثيرون من الناس لدقته وسهولة إخفائه، وعدم ظهوره. والفروق بين التعذيب البدنى والتعذيب النفسى غير واضحة تماما. التعذيب البدنى هو استخدام وسائل من شأنها أن تسبب ألما ومعاناة حادة على جسد الشخص. وتنزل به إلى حافة الحيوانية، وذلك بالتحكم فى احتياجاته العادية كالنوم، والغذاء، والإخراج. وذلك على النقيض من التعذيب النفسى الذى يوجه مباشرة إلى النفس، وهو أطول أمدا فى تأثيره.
يصيب التعذيب النفسى الأفراد الذين يتعرضون للتعذيب بضغوط ما يعرف بـ "اضطراب ما بعد الصدمة " (1)، بالإضافة إلى تغذية الشعور بالكراهية، والغضب، والإرهاب، والإحساس بالعار، واللاقيمة، والشعور بعقدة الذنب، والأسى.
ويوجه التعذيب النفسى أساسا إلى تدمير البناء النفسى والعقدى للشخص والتأثير على سلامته العقلية، وذلك عبرعدة مناهج محددة منها تحطيم العمليات الإدراكية للشخص بحيث يكون غير قادر على أن يحتفظ بالإحساس المعتاد لحدود شخصيته، واستقلاليته كإنسان، ويكون غير قادر على التفرقة بين الأصدقاء والأعداء، أوبين الحب والكراهية.
كما يتجه التعذيب النفسى للشخص أيضا إلى تحطيم حرمته، وخصوصيته، وإحساسه بهويته، واستبدالها بهوية كاذبة، وتحطيم ثقته فى المجتمع بحيث لايجد أمامه من ينقذه من الناس، ولا يكون هو قادرا على أن ينقذ أحدا من الناس، بالإضافة إلى إذلاله أمام الآخرين، وإغوائه بالفساد، بحيث يحول شخصيته إلى شخصية متقلبة، مجزأة، مشوهة لا صلة لها بماضيه وخبراته فى الحياة التى كانت تمنحه الثقة والمصداقية والإحساس بالأنا وبالتفرد والاختلاف عن الآخرين، وقدرته على حماية نفسه من اختراق الآخرين لحياته، بحيث تجعله يعيش فى عالم خيالى مختلف عن عالمه الذى كان يعيش فيه.
يؤثر التعذيب على الضحايا اجتماعيا بدرجة كبيرة، حيث يحطم فيهم الإحساس بالأمن، والعدالة، وبالقانون، والاتصال الجيد بالآخرين. كما يفقد علاقة الشخص بالواقع وبالعالم، فيفقده إحساسه بأسرته، وممتلكاته، وأحبائه، وأصدقائه، ويجعله شخصا مغتربا غير قادر على الاتصال بالآخرين أو التعاطف معهم.
إن امتداد التعذيب إلى الأسرة والأصدقاء وكل الذين يشكلون البناء الإجتماعى للفرد هو عامل مشترك فى التعذيب النفسى. إنه يدمر التوقعات العائلية للضحايا ، وتحكمهم فى أمورهم، ويدمر قوتهم، وقدرتهم على مساعدة عائلاتهم لهم، ومساعدتهم هم لعائلاتهم، كما يؤثر بشدة على علاقات الضحايا بأسرهم حتى على المستوى الشخصى.
ولا يتوقف تأثير التعذيب على الفترة التى تعرض فيها لهذا التعذيب، لكنه يمتد حتى فترة ما بعد إطلاق سراحه، حيث يعيش فى حالة يسيطر عليه فيها الإحساس بالعجز، والوهن، وفقد القدرة على ضبط النفس، ونقصان الانتباه، والأرق...الخ.

علاج ظاهرة الفساد الشُرطى


صممت " سنغافورة " برنامجا لاستئصال الفساد، فقامت بوضع مجموعة من المقاييس للتطبيق على جميع وحدات الشرطة أهمها مايلى :

1- تطوير مناهج عمل محسنة.
2- زيادة قدرة وفاعلية الرؤساء على محاسبة مرؤسيهم حتى يكون الضابط الأعلى قادرا على مراجعة ورقابة عمل الأفراد الذين يعملون تحت إمرته.
3- تناوب الضباط العاملين فى الوحدات بحيث لا يعملون فى مكان واحد لمدة طويلة.
4- القيام بتفتيش مفاجئ على وحدات الضباط ومراجعة أعمالهم.
5- منع الأشخاص غير العاملين وغير المتعاملين مع وحدات الشرطة من دخولها.
6- إعادة النظر فى مقاييس مكافحة الفساد كل ثلاث أو خمس سنوات بهدف تقويم هذه المقاييس وتحسينها.
ويرى الباحثون السنغافوريون أنه على الرغم من أن هذه المقاييس قد تعتبر أدنى من المطلوب، فإنها تلقى الضوء على بعض المقاييس العملية والبسيطة التى يمكن أن تكبح جماح الفساد فى جهاز الشرطة.

ويضيف خبراء الفساد الشُرطى عدة وسائل أخرى لعلاج الفساد الشُرطى نذكر منها الآتى :


1- وضع استراتيجيات متنوعة لإصلاح الجهاز الشُرطى على امتداد فترات زمنية محددة.
2- تحسين ظروف بيئة العمل، وتنظيم ساعاته بحيث لا يعمل رجل الشرطة عدة ساعات متواصلة تشكل جهدا شديدا عليه.
3- إمداد رجال الشرطة بالوسائل المدعمة لهم بحيث لا يضعفون أمام محاولات المغريات كزيادة رواتبهم، وحماية عائلاتهم، وتأمين وظائفهم، ومختلف أشكال الدعم الاجتماعى الأخرى، كما يجب أن يتعرف أفراد الشرطة على هذه الوسائل وكيفية الوصول إليها حتى يستطيعون مواجهة تكاليف الحياة.
4- يجب أن يكون المديرون قادرين على حماية أفرادهم الشرفاء حتى لا يتعرضوا للأذى فى حالة إبلاغهم عن حالات فساد شهدوها.
5- يؤكد الخبراء فى العلوم السلوكية على أن عملية التحاق الطلاب والأفراد الجدد بسلك الشرطة تحتاج إلى انتقاء دقيق، ومقابلات وفحوص متعمقة لاختيار من هم أضبط سلوكا، وأكثر كفاءة فى قدراتهم البدنية والعقلية، وأن يكونوا من ذوى خلفية اجتماعية صحيحة. مع الإقرار بأن عملية الانتقاء هذه التى قد يترتب عليها اختيار ضابط شرطة جيد، قد لا تكون لها قيمة إذا تحول هذا الضابط الجيد إلى ضابط فاسد فيما بعد.
وكذلك يحتاج اختيار ضباط التحقيق إلى انتقاء دقيق أيضا. يقول " بول مابرون " أحد ضباط الشرطة الدوليين المخضرمين والذى كان يشغل رئيس مكتب تحقيق " لوس أنجلوس ": أنه يختار أربعة فقط من كل من يتقدم للالتحاق بمكتبه، وهم عادة الأشد ذكاء والأصح جسدا.
6- الاهتمام بالتعليم والتدريب المستمر والمحاسبة والإشراف فى مختلف مراحل عمل رجل الشرطة وخاصة فى السنوات الأولى من سياقه المهنى. ويجب أن يتضمن هذا التعليم والتدريب برامج تتناول خطورة الفساد، واحتمالات وقوع رجال الشرطة فى براثنه فى ظل سيادة ثقافة الفساد عبر الأفعال التى لا تسبب إيذاء لآخرين، لكنها أفعال فاسدة فى حد ذاتها. ويبدو هذا الأمر فى غاية الأهمية بالنسبة للضباط الجدد، فإذا تشرب رجل الشرطة فكرة أن كل فساد وإن لم يكن له ضحايا فهو فساد، وأن كل فعل وإن كان صغيرا، قد يكون له آثارا مدمرة فإن ذلك سيكون بمثابة الضوء الأحمر المطلوب للحد من احتمالات الفساد.
7- العمل على تحقيق التكامل داخل وحدات الشرطة، والتأكيد على العقوبات التى تتخذ عند انخراط رجل الشرطة فى سلوكيات فساد.
8- أشار الباحثون أيضا إلى أنه لا يمكن كبح جماح الفساد طالما يتعامل المواطنون مع رجال الشرطة بطريقة تجعلهم يحصلون على مصالحهم بمقابل يقدمونه لهم. ويرون أيضا أن ضمان تحقيق بيئة شرطية أنظف وجيل قادم متحرر من الفساد، فإن جهودا مكثقة يجب أن تبذل من الآن لتنبيه المواطنين إلى أهمية ذلك.
9- العناية بتدعيم الأخلاقيات فى جهاز الشرطة هى واحدة من أهم وسائل مكافحة ظاهرة الفساد. يقول " دان لورى" مسئول التدريب فى الشرطة الكندية :" يعتبر التدريب الأخلاقى أحد أركان استراتيجية التعامل مع ظاهرة الفساد الشرطى... إن هناك حاجة ماسة إلى زرع الأخلاقيات فى كل جوانب التدريب أكثر من الحاجة إلى تلقين رجال الشرطة محاضرات فى الأخلاق".

هذا وقد اهتم مؤتمر "سكزجنو" الذى أشرنا إليه سابقا بالكشف عن آثار الفساد، وجاء فى تقريره الآتى :


" يؤدى الفساد فى الدول النامية والحديثة العهد بالديموقراطية إلى التقليل من إمكانيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإمكانية التخفيف من حدة الفقر، وإلى تدمير النسيج الاجتماعى الثقافى، وإلى ضعف البنية التحتية من صحة، وإسكان، وغير ذلك، وإلى عدم الاستقرار الاجتماعى، وعدم سيادة القانون، وانعدام الأمن، وإلى إيجاد بيئة فاسدة سياسيا، وإلى الاستخدام غير الفعال للمصادر المتوفرة، بما فيها المنح المقدمة من الدول المتقدمة، و وإلى إحجام إسهامات المستثمرين الأجانب فى المشروعات الوطنية، وإلى انعدام الثقة بين الشرطة والشعب.
أما بالنسبة للدول ذات الديموقراطيات المتقدمة، فإن الفساد يؤثر على ثقة الثقة فى الشرطة، وفى السياسيين، وفى تحصيل الضرائب، وإلى الشكوك حول تعاون الشرطة مع رجال الجريمة المنظمة، كما يؤدى إلى خسائر اقتصادية، وإيجاد مناخ يتجاهل المعايير الأخلاقية، وكذلك حرمان جماعات الأقليات من المعاملة العادلة، كما يؤثر على فاعبية وكفاءة الانجاز فى مختلف الإدارات".

أما عن الوسائل التى اقترحها المؤتمر المذكور لمحاربة الفساد الشرطى فقد كانت على النحو التالى :



1- وضع التشريعات الجديدة التى تصف وتحدد الأفعال الغير مناسبة "السياسية والشرطية "، وتطوير هيئة مراقبة لتحديد وضبط هؤلاء الذين يرتكبون أفعالا فاسدة.
2- تطوير مقاييس دقيقة ومناهج لاكتشاف الفساد، وعقد مقارنات بين جهود الدول المختلفة والعمل على تبادل المعلومات بين هذه الدول فى هذا المجال.
3- تطوير اتفاقيات دولية للتعامل مع الجرائم المنظمة والجرائم الأخرى حتى لا يجد المجرمون سماء آمنة لأنشطتهم الفاسدة.
4- التشديد على وضع العقوبات الحاسمة على الفاسدين فى جهاز الشرطة.
5- عدم استمرار العاملين فى بعض الإدارات الحساسة كالجمارك ومكافحة المخدرات وغيرها لفترة طويلة.
6- اضطلاع الإعلام بدور هام فى الإعلان عن مظاهر الفساد، وكشف وتعرية الرموز الفاسدة. مع العمل على نشر تكاليف الفساد وأثاره السلبية على البلاد.
7- مد الدول النامية بالمساعدات التى تساعدها على الحصول على الخبرات الفنية اللازمة لتحديد وضبط الفساد.
8- تجنيد المواطنين العاديين وتدريبهم للمساعدة فى أنشطة مكافحة الفساد.

هذه هى خلاصة الخبرة العالمية فى دراسة ظاهرة الفساد الشُرطى، غاب فيها التصور الإسلامى تماما. ورغم تقاطع التصور الإسلامى مع التصور العالمى فى بعض النقاط مثل مسئولية المجتمع عن هذا الفساد أو الإجراءات التنظيمية المختلفة لعلاجه، فإنه يختلف عنه كلية فى الفهم العام لهذه الظاهرة من زواية أسبابها وطرق علاجها من الجذور.

وضع الباحثون الإسلاميون خمس قواعد تتعرض لأسباب ومنهج علاج ظاهرة الفساد بصفة عامة ومنها الفساد الشُرطى وهى على النحو التالى :
أولا : أن المشكلة ليست فى أن جهازا من أجهزة الدولة قد فسد لفساد أخلاقيات أفراده، وأن إصلاح هذه الأخلاقيات هو السبيل لعلاج الفساد بداخله، إنما المشكلة هى مشكلة مجتمع كله قد فسد، ففسدت بالتالى كل أجهزته.
ثانيا : أن الذى يجترح الخطيئة ممثلة فى فساد أو غيره إنما يجترحها وهو يلتذها ويستثيغها، ويحسبها كسبا له –على معنى من المعانى – ولو أنها كريهة فى حسه ما اجترحها، ولو كان يحس أنها خسارة له ما أقدم عليها متحمسا، وما تركها تملأ عليه نفسه.
ثالثا : أن الفاسد رجل اختل ميزان الإخلاص والتجرد فى نفسه، ومتى اختل هذا الميزان اختلت القيم عنده، ولا يشعر بفساد عمله، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد يتأرجح بين أهوائه الذاتية، ولا يستند إلى قاعدة ربانية. وهذا يعنى أن كل صلة بين هذا الفاسد وبين الله مقطوعة، وكل ما أمر الله به أن يوصل مقطوع، لأن فطرته المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة، ومن ثم لا تتورع عن فساد.
رابعا : أن الفساد في الأرض ألوان شتى , تنبع كلها من عدم الانصياع لكلمة الله، ونقض عهده. ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهج الله الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها. هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتما , فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض , ومنهج الله بعيد عن تصريفها , وشريعة الله مقصاة عن حياتها، وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال , وللحياة والمعاش ; وللأرض كلها وما عليها من أناس وأشياء. إنه الهدم والشر والفساد حصيلة الحيدة عن طريق الله.. ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما يهدي به عباده المؤمنين.
خامسا : أن الدعوة إلى إصلاح أخلاقيات رجال الشرطة وغيرهم من العاملين فى اجهزة الدولة يجب ألا تحتل المرتبة الأولى، إنما يجب أن يبدأ الإصلاح من الأساس وينبت من الجذور، وأن يتركز الجهد أصلاً على إقامة مجتمع صالح يقوم على دين الله، بدلاً من التركيز على إصلاحات جزئية. ولهذا فإن أول خطوات الإصلاح يجب أن تكون الدعوة إلى بناء العقيدة من جديد فى المجتمع كله، لأن الدعوة إلى العقيدة هى الأصل، فالأخلاق هى نتاج لأوامر الله، وهى تأتى من الدعوة إلى العقيدة وتطبيق الإسلام فى المجتمع. فإذا استدمج الناس فى قلوبهم مقتضيات هذه العقيدة، فسيكون هذا أقوى ضمان لصلاح كل أجهزة الدولة على امتداد الزمن، طالما أن وقود هذه العقيدة يحرك كل أفراد المجتمع على الدوام.

ونخلص من كل ذلك إلى إقرارحقيقتين هامتين :


الأولى : أن التصدى لحل مشكلة الفساد فى الجهاز الشُرطى وغيره من الأجهزة لن يجدى نفعا، فلا جدوى أصلا من الإصلاحات الجزئية. وإنما يجب أن يبدأ الإصلاح بإعادة إدخال الناس في الدين أولاً، ثم تقرير سلطة هذا الدين في المجتمع ؛ فالناس لا يستجيبون لعقيدة ضائعة لأنها لا سلطة تحميها، وحين تستقر هذه السلطة يصبح إصلاح أجهزة الدولة مرتكنا إلى أساس. أى أنه لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة المنكرات الجزئية فى قطاع ما والمنكر الأصلي باقٍ، وهو منكر الجرأة على الله، وانتهاك محارمه، وتطبيق شريعة غير شريعته.
الثانية : أن الله تعالى أعلم بعباده، وأعرف بفطرتهم، وأخبر بتكوينهم النفسى، فالقانون قانونه، والنظام نظامه، والمنهج منهجه، ليكون له فى القلوب وزنه وأثره، ومخافته، ومهابته. وقد علم –سبحانه - أنه لا يطاع أبدا شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التى تخشاها، وترجوها القلوب، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السراير وخبايا القلوب، وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد، تحت تأثير ، الرقابة الظاهرية التى لا تطلع على الأفئدة، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غفلت الرقابة عنهم، وكلما واتتهم الحيلة، مع شعورهم دائما بالقهر والكبت والتهيؤ للإنتقاض كلما سنحت لهم الفرصة.
الخلاصة من كل ما سبق أن كل ما يمكن أن يتخذ من قواعد رقابية وعقابية لن يجدى نفعا مع الفاسدين مالم تكن هناك رقابة من التقوى فى الضمير لتنفيذ هذه القواعد. وأن هذه القواعد الرقابية لا بد أن تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر، والرقيبة على الضمائر، عندئذ عندما يشعر رجل الشرطة أو غيره وهم يهم بفعل من أفعال الفساد أو ينتهك حرمة القانون، أنه يخون الله، ويعصى أمره، ويصادم إرادته، وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله، عندئذ يرتجف ويخاف، وتتحرك التقوى بداخله.

-----------
(1) اضطراب ما بعد الصدمة PTSD مرض نفسى ينتج عادة عن حالة من الرعب الشديد تصيب الشخص الذى تعرض لحدث أو خبرة مؤلمة تعرضت فيها حياته للتهديد. والذين يعانون من هذا المرض يعيدون تذكر هذه الحدث أو هذه الخبرة بطريقة ما، ويحاولون تجنب الأماكن، والناس، وكل ما يذكرهم بهذه الخبرة، كما يكونون دوما شديدى الحساسية لخبرات الحياة العادية.

نقلا عن مجلة المجتمع الكويتية (www.magmj.com )

------------

د أحمد إبراهيم خضر


دكتوراة فى علم الاجتماع العسكرى
الأستاذ المشارك بجامعات القاهرة، والأزهر، وأم درمان الإسلامية، والملك عبد العزيز سابقا

------------

المصادر


1- ARSHRIKA SINGH , CPORRUPTION IN POLICE , , PUCL Bulletin, February 2007 , www.pucl.org/Topics/Police/.../police-corruption.html -
2- DAR LOREE, CORRUPTION IN POlICING: CAUSES AND CONSEQUENCES, Research and Evolution Branch Royal Canadian Mounted Police,Ottawa,Canada,2002
3-GARETH NEWHAN TOWARD UNDERSTANDING AND COMBATING POLICE CORRUPTION, www.csvr.org.za/ wits/ papnwhm5.
4- LAW MEFOR, THE PSYCHOLOGICAL EFFECTS OF POLICE BRUTALITY AND TORTURE , www.elombah.com/index.php?...psychological-effects-of-police-brutality-and-torture...law-mefor...
5- PALINE GO, POLICE CORRUPTION AND THE REASONS BEHIND, ,http:Ezine//rticles.com/?expert=Pauline Go

6- PETER NAN-SHONG LEE ,, THE PATTERN AND CAUSES OF POLICE CORRUPTION IN HONG KONG , www.pdfebooksdownloads.com/police-corruption.html

7- PETER C. KRATCOSKI, INTERNATIONAL PERSPECTIVES ON INSTITUTIONAL AND POLICE CORRUPTION,
Police Practice and Research, 2002, Vol. 3, No. 1, pp. 73–78

8- CORRUPTION IN POLICING CAUSES AND CONSEQUENCES , www.rcmp- rc.gc.ca /pubs /ccaps.../corrup-rev-eng.htm
9- POLICE CORRUPTION: THE CRIME THAT’S NOT GOING DOEW ,findarticles.com/p/articles/mi.../is.../ai_n8761990/
10- POLICE CORRUPTION, INFORMATION AND FACTS, Pagerankstudio.com /…/ police-corruption-information-and-facts/
11- TALHA, SYED, VICTIMIZATION, In Servamus,Vol.91,No.1.1997, www.csvr.org.za wits/ papers/ papsyed.htm


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

فساد، قمع، إرهاب، شرطة، الأمن،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 14-03-2011  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

 مشاركات الكاتب(ة) بموقعنا

  (378) الشرط الأول من شروط اختيار المشكلة البحثية
  (377) مناقشة رسالة ماجستير بجامعة أسيوط عن الجمعيات الأهلية والمشاركة فى خطط التنمية
  (376) مناقشة رسالة دكتوراة بجامعة أسيوط عن "التحول الديموقراطى و التنمية الاقتصادية "
  (375) مناقشة رسالة عن ظاهرة الأخذ بالثأر بجامعة الأزهر
  (374) السبب وراء ضحالة وسطحية وزيف نتائج العلوم الاجتماعية
  (373) تعليق هيئة الإشراف على رسالة دكتوراة فى الخدمة الاجتماعية (2)
  (372) التفكير النقدى
  (371) متى تكتب (انظر) و (راجع) و (بتصرف) فى توثيق المادة العلمية
  (370) الفرق بين المتن والحاشية والهامش
  (369) طرق استخدام عبارة ( نقلا عن ) فى التوثيق
  (368) مالذى يجب أن تتأكد منه قبل صياغة تساؤلاتك البحثية
  (367) الفرق بين المشكلة البحثية والتساؤل البحثى
  (366) كيف تقيم سؤالك البحثى
  (365) - عشرة أسئلة يجب أن توجهها لنفسك لكى تضع تساؤلا بحثيا قويا
  (364) ملخص الخطوات العشر لعمل خطة بحثية
  (363) مواصفات المشكلة البحثية الجيدة
  (362) أهمية الإجابة على سؤال SO WHAT فى إقناع لجنة السمينار بالمشكلة البحثية
  (361) هل المنهج الوصفى هو المنهج التحليلى أم هما مختلفان ؟
  (360) "الدبليوز الخمس 5Ws" الضرورية فى عرض المشكلة البحثية
  (359) قاعدة GIGO فى وضع التساؤلات والفرضيات
  (358) الخطوط العامة لمهارات تعامل الباحثين مع الاستبانة من مرحلة تسلمها من المحكمين وحتى ادخال عباراتها فى محاورها
  (357) بعض أوجه القصور فى التعامل مع صدق وثبات الاستبانة
  (356) المهارات الست المتطلبة لمرحلة ما قبل تحليل بيانات الاستبانة
  (355) كيف يختار الباحث الأسلوب الإحصائى المناسب لبيانات البحث ؟
  (354) عرض نتائج تحليل البيانات الأولية للاستبانة تحت مظلة الإحصاء الوصفي
  (353) كيف يفرق الباحث بين المقاييس الإسمية والرتبية والفترية ومقاييس النسبة
  (352) شروط استخدام الإحصاء البارامترى واللابارامترى
  (351) الفرق بين الاحصاء البارامترى واللابارامترى وشروط استخدامهما
  (350) تعليق على خطة رسالة ماجستير يتصدر عنوانها عبارة" تصور مقترح"
  (349) تعليق هيئة الإشراف على رسالة دكتوراة فى الخدمة الاجتماعية

أنظر باقي مقالات الكاتب(ة) بموقعنا


شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
حسن عثمان، فتحي الزغل، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، يزيد بن الحسين، منجي باكير، أحمد الحباسي، سلام الشماع، فتحي العابد، صلاح الحريري، صفاء العراقي، العادل السمعلي، عبد الله زيدان، محمود فاروق سيد شعبان، بيلسان قيصر، رضا الدبّابي، د. خالد الطراولي ، طارق خفاجي، رافع القارصي، محمد الطرابلسي، د. طارق عبد الحليم، عواطف منصور، ماهر عدنان قنديل، د. ضرغام عبد الله الدباغ، خبَّاب بن مروان الحمد، رافد العزاوي، د. عبد الآله المالكي، سعود السبعاني، صفاء العربي، رمضان حينوني، محمد شمام ، عزيز العرباوي، د - عادل رضا، طلال قسومي، وائل بنجدو، سلوى المغربي، عمر غازي، محمد اسعد بيوض التميمي، سامح لطف الله، أحمد ملحم، الهادي المثلوثي، إسراء أبو رمان، د - محمد بن موسى الشريف ، أحمد بوادي، خالد الجاف ، سيد السباعي، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، أحمد النعيمي، كريم فارق، سليمان أحمد أبو ستة، محمد أحمد عزوز، عراق المطيري، مصطفي زهران، د- محمد رحال، رشيد السيد أحمد، أشرف إبراهيم حجاج، د - مصطفى فهمي، حميدة الطيلوش، د. أحمد محمد سليمان، محمود سلطان، أ.د. مصطفى رجب، عمار غيلوفي، مصطفى منيغ، نادية سعد، د. كاظم عبد الحسين عباس ، صلاح المختار، ضحى عبد الرحمن، عبد الرزاق قيراط ، عبد الله الفقير، أحمد بن عبد المحسن العساف ، يحيي البوليني، د - المنجي الكعبي، حسن الطرابلسي، ياسين أحمد، د- جابر قميحة، د - محمد بنيعيش، محمد عمر غرس الله، أبو سمية، حسني إبراهيم عبد العظيم، د- هاني ابوالفتوح، محمود طرشوبي، الهيثم زعفان، محرر "بوابتي"، الناصر الرقيق، علي عبد العال، صالح النعامي ، تونسي، المولدي اليوسفي، مجدى داود، د. أحمد بشير، فوزي مسعود ، محمد الياسين، فهمي شراب، د. صلاح عودة الله ، عبد الغني مزوز، علي الكاش، د - الضاوي خوالدية، المولدي الفرجاني، إيمى الأشقر، مراد قميزة، د.محمد فتحي عبد العال، د - شاكر الحوكي ، أنس الشابي، محمد العيادي، حاتم الصولي، فتحـي قاره بيبـان، د. عادل محمد عايش الأسطل، صباح الموسوي ، إياد محمود حسين ، جاسم الرصيف، د - صالح المازقي، د- محمود علي عريقات، محمد علي العقربي، رحاب اسعد بيوض التميمي، محمد يحي، د. مصطفى يوسف اللداوي، سامر أبو رمان ، عبد العزيز كحيل، كريم السليتي، سفيان عبد الكافي،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة