د. محمد فتحي عبد العال - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1784
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مقدمة :
رجل من طراز نادر لا يعبأ بالواقع ولا يتوقف عنده ولا يعترف بالمستحيل تجمعت له كل خصال النبل والشرف قال عنه عبد العزيز البشري في كتابه ( في المرآة) : "إن هذا الرجل أمة وحده، وإنه لعبقري لا يتدلى إلى منطق الناس وأسباب تصورهم، فإن له قياسه وتقديره، وله منطقه وتفكيره، وله أسلوبه وتدبيره... فحسبه أن يشتهي الأمر فيقدره واقعا، أمكن ذلك الأمر أو استحال".
ويسوق البشري قصة طريفة من أنه حينما فكر محمود بك رشاد في تزيين العلم المصري بصور للآثار المصرية على تنوعها وضع إلى جانبها صورة هذا الرجل موضوع حكايتنا الدكتور محجوب ثابت.
فمن هو محجوب ثابت؟
هو طبيب وبرلماني ، مصري- عربي- سوداني كما يحلو له أن يطلق على نفسه لم يتزوج قط كي لا ينجب أبناءا عبيدا للإنجليز بحسب قوله لحافظ إبراهيم !! وقضى حياته راهبا في محراب القضايا الوطنية والقومية فرافق ثورة عام 1919 خطيبا مفوها ومتزعما للمظاهرات وجامعا للتبرعات لها فقد جمع خمسة عشر ألفا من الجنيهات من أهالي قنا وجرجا لدعم الثورة وهو مبلغ ضخم بمقاييس هذا الزمان ويعكس منزلة الرجل ونزاهته وثقة الناس به كما دعا إلى تنظيم حركة العمال بمصر عام 1920 و طالب بإدخال التدريب العسكري في المدارس والجامعات. آمن بوحدة وادي النيل وكأنه ينظر بعيون ثاقبة للمستقبل وما سوف تعانيه مصر إن فقدت السودان فدافع دفاعا مستميتا لسنوات طويلة عن علاقة مصر بالسودان وضرورة وحدته مع مصر مذكرا في مجالسه بما قدمته مصر من تضحيات مادية وبشرية في فتوح السودان وحروبها .
كما كان يسافر إلى سوريا ولبنان وفلسطين داعيا للتحرر في وقت كان من الندرة بمكان اهتمام الساسة في مصر بمدها الحضاري والتنويري في دول الجوار العربي.
رحلة التمرد والتفرد :
كانت البداية مع اختياره لدراسة الطب في باريس وجنيف ثم رغبته في التدريس بالجامعة المصرية والتي واجهتها تعنت واعتراض من الاستاذ الانجليزي (كيتنغ) الذي كان يرى أن المصريين لا يصلحون لممارسة الطب لكن صاحبنا لم يكن ليستكين لهذا الواقع وبمعاونة سعد زغلول باشا تم تعيين الدكتور محجوب أستاذا للطب الشرعي بالجامعة ثم كبيرا لأطبائها.
وقد وهب حياته لتقديم العون للجميع دون مقابل فكانت عيادته بحي السيدة زينب والصيدلية الملحقة بها هما بيته الذي يعيش فيه يقرأ ويكتب ويعالج المرضى دون مقابل ودون موعد مسبق ويطلب الشاي لكل من يقصده.
لكن الواضح أن العيادة لم ترق لصديقه أمير الشعراء أحمد شوقي وكان كرم الضيافة الزائد بها من جانب البراغيث مدعاة لشوقي ليكتب هذه الأبيات:
بَراغيثُ مَحجوبِ لم أنسَها ولم أنسَ ما طعِمَت من دمي
تشقُّ خَراطيمُها جَوْربي وتنفُذُ في اللحمِ والأعظُمِ
وكنتُ إذا الصيفُ راح احتَجمتُ فجاءَ الخريفُ فلم أُحجَمِ
تُرحِّبُ بالضَّيفِ فوقَ الطريقِ فبابِ العيادةِ فالسُّلَّمِ
سطر الدكتور محجوب اسمه بأحرف من نور إبان الحرب البلقانية الثانية عام 1913 حيث قدمت السفينة المصرية (الباخرة بحر أحمر) التي كان يشرف عليها كمستشفى تابعة لجمعية الهلال الأحمر دعما كبيرا وشجاعا في إجلاء و مداواة الجرحى وحفظ أرواحهم جعلته حديث الصحف العالمية.
كما لم يتخل محجوب عن دوره المجتمعي فكان صاحب ندوة شهيرة سميت (بعكوكة محجوب ثابت) كانت مقصدا للجميع كما انتخب رئيسا لنقابة العمال المصريين و انتخب عضوا بمجلس النواب عن دائرة كرموز بالإسكندرية حينما كان سعد زغلول رئيسا للمجلس عام 1926 وفاز في انتخاب تكميلي عام 1927 وتسجل مضابط المجلس عام 1928 دفاع محجوب عن مشاركة الحكومة المصرية في نفقات السودان بمبلغ وقدره سبعمائة وخمسون ألف جنيه لتأكيد السيادة المشتركة على السودان وفقا للاتفاق بين بطرس غالي واللورد كرومر عام 1899.
كان لمحجوب فلسفته الخاصة فهو لا يعترف مثلا باللغة العربية كلغة الضاد ويراها لغة القاف فكان يكثر في كلامه من استخدام حرف القاف وسائر حروف القلقلة وكان يتحدث طوال الوقت باللغة العربية الفصحى مستشهدا بأبيات من الشعر غير مبال مع من يتحدث؟! ولو كان ماسح أحذية أو خادم .وقد تفرد في ذلك عن معاصريه ودائما ما يختتم كلامه بعبارة : "يقينا يا ولدي! يا ولدي".
أضفى محجوب على نفسه طابع الفارس العربي الرحالة الذى يمتطي جوادا في تحركاته ومغامراته ونظرا لأن هذا غير مألوف فقد خرجت صورته كاريكاتيرية تعكس خفة دمه ونقاء سريرته فكان يجوب شوارع القاهرة بعصاه الشهيرة وغليونه الذي يدخن منه بعربة خفيفة يقودها جواد هزيل اضلعه بارزة أطلق عليه (مكسويني) نسبة للمناضل والمسرحي الايرلندي (تيرينس جيمس مكسويني) والذي اعتقل لمناهضته الاحتلال الانجليزي لبلاده ومات في سجن بريكستون عام 1920 بعدما أضرب عن الطعام 74يوما!!
هذه السمات الطريفة لمحجوب جعلته عالقا في الاذهان ومثار كتابات صحفية عدة لا تنقطع عن رصد أخباره والحديث عنه وقصائد شعرية منها قول صديقه أحمد شوقي واصفا جواده:
تفَدّيكَ يا مَكسُ الجِيادُ الصَلادِمُ
وَتَفدي الأساةُ النُطسُ مَن أَنتَ خادِمُ
كَأَنَّكَ إِن حارَبتَ فَوقَكَ عَنتَرٌ
وَتَحتَ اِبنِ سينا أَنتَ حينَ تُسالِمُ
سَتُجزى التَماثيلَ الَّتي لَيسَ مِثلُها
إِذا جاءَ يَومٌ فيهِ تُجزى البَهائِمُ
فَإِنَّكَ شَمسٌ وَالجِيادُ كَواكِبٌ
وَإِنَّكَ دينارٌ وَهُنَّ الدَراهِمُ
راح محجوب يجابه الساخرين من جواده بتذكرتهم بدوره البطولي في حمل الجرحى إبان الثورة فيقول : «اذكر أيها التاريخ تلك العربة وذلك الجواد مكسويني وما أدياه في الحركة الوطنية من نصرة المريض والجريح والقتيل، فقد تندر الجيل بهما وتفكه بحوادثهما وهما عنوان البطولة».
وحينما مات الجواد لقلة أكله وكثرة أسفاره مع الدكتور محجوب اعتراه الحزن الشديد عليه فقد كان بمنزلة الإبن العزيز له كما وصفه و عزاه سعد باشا زغلول ومازحه وقد جمعهما اللقاء في المستشفى حينما تعرض سعد باشا لمحاولة اغتيال فاشلة عام 1924 بعد اسبوع واحد من وفاة الجواد.
اشترى محجوب سيارة عتيقة لتحل محل مكسويني لكن لم تسلم من سخرية شوقي اللاذعة هي الأخرى فيقول :
لَكُم في الخَطِّ سَيّارَه
حَديثُ الجارِ وَالجارَه
أَوفَرلاندُ يُنَبّيكَ
بِها القُنصُلُ طَمّارَه
كَسَيّارَةِ شارلوت
عَلى السَواقِ جَبّارَه
إِذا حَرَّكَها مالَت
عَلى الجَنبَينِ مُنهارَه
وَقَد تَحزُنُ أَحياناً
وَتَمشي وَحدَها تارَه
ومن مظاهر تمرد الدكتور محجوب الأخرى تمرده على القيود والالتزامات وفي مقدمتها الوقت فكان دائما ما يأتي متأخرا. ظاهرة قد تبدو سلبية في تفسير البعض لكن يمكن أن نتعرف على وجهها الأخر لدى العلم ففي دراسة لقسم الدراسات النفسية في جامعة سان دييجو عام 2018 توصلت إلى أن الذين لديهم عادة الوصول متأخرين عن موعدهم هم الأكثر سهولة في الحياة وبعدا عن الضغوط النفسية واحساسا بالاسترخاء وراحة البال وهي سمات صاحبت صاحب حكايتنا.
ترجل الفارس :
رحل الدكتور محجوب ثابت عن عالمنا عام 1945 تاركا إرثا حافلا وتاريخا مضيئا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: