د.محمد فتحي عبد العال - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1402
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
واقع نراه كل يوم في مدارسنا من غياب دور المعلم المؤهل ولهثه في أثر الدروس الخصوصية وتردي الوضع الأخلاقي والمعرفي لدى النشء وسوء حالة المدارس فنتحسر على زمن فات أنشد فيه أمير الشعراء أحمد شوقي قائلا :
"قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا. كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا. أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي. يبني وينشئُ أنفـساً وعقولا".
فهل كانت صورة المعلم الملقى على عاتقه هذه المهمة الجليلة في الماضي تختلف عن واقعنا الحالي؟! ...
ضغطة زر على التلفاز لمشاهدة فيلم غزل البنات عام 1949 للعبقري نجيب الريحاني ورؤية الأستاذ حمام الرث الثياب والذي يشكو حظه العاثر والمشاهد التي تجمعه بالطلاب في الفصل وضعفهم الواضح في اللغة العربية وتهكم الباشا وابنته على هيئته المتواضعة .. حتى تلقيب المعلم بكلمة "خوجة أفندي" وهي بالتركية تعنى استاذ تحولت مع الوقت إلى مسمى يقلل من شأنه وحوار السيد عبد الجواد مع ابنه كمال في رائعة نجيب محفوظ "قصر الشوق" دليلا على ذلك ..ربما لا تعير عزيزي القارىء هذه المشاهد انتباها ولا تعتبرها سوى مادة للضحك والفكاهة ولا تصلح مناطا للحكم على العملية التعليمية في مصر إبان هذه الحقبة من تاريخ مصر لكنها وللأسف كانت أصدق الصور عن واقع المعلم والعملية التعليمية برمتها والتي بدأت تتداعى.
وأنا بالمرحلة الإعدادية عام 1994 كان بالمدرسة معلما قبطيا شديد الطيبة ومن شدة تسامحه وقع فريسة دائمة للتهكم من جانب الطلاب دفعته في النهاية للهجرة لكندا وترك مصر نهائيا لا يختلف المشهد كثيرا لو عدنا لعام 1873 ومع عودة الخديو اسماعيل من الآستانة في صورة الفاتح المظفر بفرمان الإمتيازات من الباب العالي فاستقبلته المدن المصرية بالزينات
لمدة ثلاثة أيام ونصب تمثال محمد علي في ميدان حي المنشية بالإسكندرية وكان طبيعيا أن يدفع الفضول الأطفال للمشاركة في هذا الحدث هذا ما يقصه علينا أحمد شفيق باشا السكرتير الخاص للخديو عباس حلمي الثاني ومدير ديوان الأوقاف الأهلية سابقا وذلك في مذكراته في نصف قرن وهو لازال طفلا في مدرسة المبتديان(مكانها المدرسة السنية) التي كانت تحت إشراف ولي العهد آنذاك توفيق باشا ..حدث خلاف بين الطلاب وناظر المدرسة أحمد بك عبيد الطهطاوي أحد المتعلمين الذين أرسلهم محمد علي باشا لفرنسا في نفس البعثة التي ضمت رفاعة الطهطاوي وعاد منها ضليعا في الفرنسية ويمتلك جاموسة يحلبها للحصول على لبنها وتحت عنوان "أول إضراب في مدرسة أميرية" يستكمل شفيق باشا ذكرياته عن هذه الحادثة أن رفض الناظر لخروج الطلاب يوم الزينة وكذلك ضباط المدرسة دفعهم للتظاهر مرددين هتافهم ضد الناظر : "جاموسة طهطاوي تتكلم بالفرنسية" ...هذه القصة وإن بدت بسيطة إلا أنها تكشف عن صورة من صور عدم احترام المعلم في شخص هذا الناظر و النكران لحرصه على استمرار العملية التعليمية وعدم انخراط الطلاب في اللهو والعبث ومما لا طائل منه ويتضح ذلك في موقف نظارة المعارف التي انتصرت لرغبة الطلاب على حساب احترام المعلم وأمرت بخروجهم لمشاهدة الزينات وهل يعلو أمر على زينات الخديو !!! .
نأتي إلى سؤال آخر من منا في طفولته لم يتعرض لمضايقات بعض المعلمين ؟!ومن منا لم يشكو قسوة معلم في الفصل لوالديه ؟!ومن منا لم يتلق هذه الإجابة من والديه ؟! "إن المعلم يتطلع لدرس خصوصي يا بني لهذا فهو يقسو عليك لدفعك لهذا الدرس" !..الحقيقة أنها إجابة تلقيتها أنا أيضا من أبي حينما شكوت له تهكم مدرس الرياضيات علي لوزني الزائد آنذاك .
لقد تعرض صليب باشا سامي السياسي القبطي البارز والذي تولى حقائب هامة كالخارجية والحربية والتموين والتجارة والصناعة لمثال من هذه المضايقات في طفولته ففي مذكراته يحكي عن موقف تعرض له وهو طالب بالمدرسة التوفيقية وكان مقرها قصر النزهة بشبرا من مدرس اللغة العربية المنوفي المنشأ وكان "قظ الطباع عنيف العبارة مع الطلاب" والطفل صليب بالأخص فكان "يخصه بأدنى الدرجات" وينصحه بعبارات على شاكلة :"طبعا هو أنت فالح روح ألعب مع النسوان وأعمل لهم خدام كمان وبعدها تسقط في الإمتحان ويبقى ينفعوك النسوان في آخر الزمان " .
شكوى صليب لوالده جعلته يحتوي الموضوع بجلب الشيخ لإعطاء دروس خصوصية لابنه الصغير الذي كان متوقد الذهن فأراد اختبار سلامة ذمة الشيخ ذات يوم فاستغل سهو الشيخ بأن طلب منه كتابة موضوع إنشاء سبق أن طلبه منه في المدرسة ومنحه عليه أربع درجات من ست عشرة درجة فإذا بالطفل صليب يقدم له صورة طبق الأصل مما كتبه في السابق وحصل على هذه الدرجة المتدنية نتاجه فإذا بالشيخ يعطيه هذه المرة عشرة درجات فكشف الطفل للشيخ أنه نفس الموضوع فلما رفعت درجته من أربع درجات بالمدرسة إلى عشر درجات بالدرس الخصوصي الآن ؟!! فكان تعقيب الشيخ غاية في البرود :"وهل تظن أنك تستحق حقا عشر درجات إنما أردت أن أشجعك فحسب "
ومن الضلعين الأساسيين في العملية التعليمية المعلم والطالب وعلاقتهما نتطلع للضلع الثالث وهو المحتوى العلمي والعملية التعليمية برمتها .
في كتابه "مبادىء السياسية المصرية" والصادر عام 1943 يكشف محمد علي باشا علوبة والذي شغل منصب وزير المعارف عام 1936 عن عوامل الفشل داخل المنظومة التعليمية بداية من المدارس الإلزامية التي بدأت منذ وقت مبكر عام 1917حينما كان عدلي يكن باشا يشغل وزارة المعارف لمحو الأمية فالمدارس تبنى على عجل دون تدريب للمعلم وإعداد كاف له ولأن هذه المدارس كانت تقدم الحد الأدنى من التعليم لطلابها الفقراء وبعدها ينطلقوا لمساعدة أهليهم إلا أنها لم تنجح في إخراج هؤلاء الأطفال المساكين وهم سواد الأمة من وضعهم المزري إلى واقع مغاير وهو ينقل عن وزارة المعارف تقريرها عن حالة هؤلاء الأطفال :
"حالة مؤلمة ومثيرة للنفس لما يبدو على هؤلاء الأطفال من بؤس يبعثه الفقر والجوع والحرمان ويزيده ضعف البنية وتغلغل الأمراض الفتاكة .ويضاعف بؤسهم ما تراه في أيديهم وفي ملابسهم من القذارة التي تشمئز منها النفس وما تشاهده على وجوههم من دلائل النفور من الدراسة والرغبة في العمل" .إضافة لذلك لم تكن هذه المدارس تخصصية بالشكل الذي يواكب بيئة الطالب سواء أكانت صناعية أو زراعية أو تجارية حتى تفيده في حياته العملية لذلك كان من رأي الباشا إطالة مدة الدراسة لتكون من ثلاث سنوات لخمس سنوات "وتكون السنتين الأخيرتان للتخصص في المعلومات الأولية لبيئة الأطفال بما يعود بالفائدة على الطفل ووسطه".
كما يتحدث الوزير السابق عن فشل الوزارة في تقرير نظام محدد للتعليم الثانوي أسوة باستقرار النظام الإبتدائي وتحديد مدته ونظامه "فهو محل تجارب وعرضة للتغيير والتبديل" ومن حسن حظ الباشا أنه لم يعاصر زماننا لوجد أن النظام بأكمله صار مضرب الأمثال في التجريب بين الإبقاء على الصف السادس الإبتدائي أو إلغائه وتحويل الثانوية العامة من سنة واحدة لسنتين والرغبة في تحويلها لثلاث سنوات ثم العودة بها لسنة واحدة !!.
كما يتحدث عن حشو المناهج بما لا يفيد الطالب في مرحلة من المفترض أن يضيف فيها لمعارفه وثقافته العامة في الرياضة و الأخلاق والقيم فإذا بالوزارة تثقل كاهله بموضوعات ماذا عساه أن يصنع بها كاللوغاريتم مثلا ؟! فيقول متحديا : "وإني أتحدى كل شخص يمكنه أن يثبت لي أن واحدا من ألف تلميذ يعلم بعد خروجه من المدارس الثانوية في دور الثقافة معنى اللوغارتم مثلا ماهو ؟وما الغرض منه ؟"
كم كنت مندهشا وأن اقرأ عبارات الوزير التي تستغرب أهمية اللوغاريتم فهو نفس تساؤلي تماما وأنا في المرحلة الثانوية لكني زدت على ذلك الرغبة في معرفة لماذا أدرس الدالتان الجيب وجيب التمام والتوابع ظل (ظا)، ظل تمام(ظتا)، قاطع (قا)، وقاطع تمام (قتا) ؟!! وأحاول أن أفهم مغزاها وفائدتها لي إلى حد أن قررت أن أرجع لكتب تدريس اليونيسكو للرياضيات الحديثة في مصر في السبعينات لأفهم من أين نشأت ؟!!فوجدت أكواما من المثلثات زادت الأمر أمامي تعقيدا وجعلتني أغادر الرياضيات بشكل كامل دون عودة .
الأكثر أهمية في هذا الكتاب ما أشار له الباشا من ضعف تدريس اللغات الأجنبية في مصر "وأن المتخرج عاجزا عن التعبير عن آرائه البسيطة وغير قادر على أن يكتب خطابا بأية لغة " وهو أمر مستمر إلى يومنا هذا وإذا أضفنا لذلك جمود اللغة العربية والذي أشار له شفيق باشا في مذكراته في نصف قرن أصبح تشخيص الداء واضحا فيما يتعلق باللغات وضرورة تطوير سبل دراستها والإلمام بنطقها الصحيح والتعود على ممارستها بالمدرسة وخارجها وضرورة اختزال قواعد النحو والإملاء الخاصين باللغة العربية.
الملاحظ في هذا الكتاب أنه يقص نسخة كربونية من واقعنا التعليمي فجمود اللغة العربية وصعوبتها وضعف الطلاب في اللغات الأجنبية وازدحام الفصول وضعف البنية الصحية للطلاب وهي مسائل بات من الواضح أننا تركناها وغيرها دون حل فظلت تتراكم مع الوقت حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من جمود.
لذلك فالحلول واضحة وهي إعداد المعلم والإنفاق على تعليمه أولا وتدريبه وتزويده بالأساليب العصرية للتعامل مع الطلاب وإرشادهم بعيدا عن الضرب والعنف وأن تهدف المناهج الدراسية إلى تعليم الطالب أساليب البحث وليس الحفظ والتلقين وأن تكون كافية لتزويده بالمعلومات الأساسية والقيم والأخلاق والمبادىء التي تصنع منه فردا نافعا و تعينه على التفاعل مع مجتمعه وليس تكديسا لعلوم من كل حدب وصوب مكانها هو مرحلة التخصص في الجامعات والمعاهد العليا وإننا أحوج في هذه الفترة لالتماس هذه السبل مع شيوع الجرائم البشعة بين أوساط المتعلمين تعليما عاليا فما فائدة التعليم إن لم يعالج مشاكل المجتمع الحقيقية ويلبي احتياجاته؟! .
وفي ختام مبحثي هذا أود أن أشير أن أكثر فترات التعليم استحقاقا للدراسة وتسليط الضوء عليها في وجهة نظري كباحث وكواحد من هواة اقتناء الكتب القديمة في مطلع القرن الماضي وهي للأسف مصدرنا الآن للوقوف على حال التعليم في الماضي نظرا لندرة الدراسات في هذا المضمار هي فترة حكم الملك فؤاد والتي امتدت من 1917 وحتى عام 1936 فقد كان الملك فؤاد شغوفا جدا بالعلم والمعرفة ومتابعا لكل ما هو جديد بأوربا وشديد العناية بتدريب المعلمين والمعلمات والإهتمام بتدريس الأخلاق في المدارس فنجد كتاب للأخلاق للأستاذ أحمد أمين مقررا على الطلبة عام 1929 وقد استعرضته بشكل تفصيلي في كتابي "مرآة التاريخ" كما نجد كتاب "الرحلة العلمية لناظرات المدارس الأميرية إلى أوربا "في صيف عام 1926 بقلم سنية عزمي ناظرة مدرسة المعلمات الأميرية ببلاق وبرنامج الرحلة تضمن دراسة جغرافيا العالم والجغرافيا الداخلية قد تبدو لك عزيزي القارىء أن الجغرافيا ليست بكل هذه الأهمية للذهاب لأوربا للاطلاع على مستجداتها ولكن ستدهش حين تعلم أن أي كتاب عن منابع النيل كان يسارع الملك فؤاد للعناية به وترجمته وتدريسه إضافة أن الأطلس المدرسي كان يطبع بمعرفة جورج فلب بلندن كما يظهر من غلاف الأطلس الإبتدائي في طبعته الأولى عام 1926 بإشراف ومعاونة محمد عوض ابراهيم بك ومحمد فهيم بك بوزارة المعارف العمومية .البعثات الخارجية شملت كافة التخصصات حتى الطهي فنظيرة نيقولا صاحبة أشهر موسوعة للطهي كانت في بعثة بجامعة جلوستر بأنجلترا في فنون الطهي وشغل الإبرة وذلك عام 1926 ولا ننسى زيارة الملك فؤاد للدارسين من المصريين بجامعة مانشستر ببريطانيا عام 1927 والوقوف على أحوالهم.
المثير أيضا في هذه الفترة السعي نحو مكافحة العامية فنرى كتاب "الخلاصة المرضية في الكلمات العامية وما يرادفها من العربية لتلاميذ وتلميذات المدارس" بقلم عبد الرؤوف ابراهيم رئيس مدرسة محمد سعيد الأولية الأميرية بالبغالة وسيد على الألفي رئيس مدرسة السلحدار بالجامع الأحمر عام 1924 فنرى المادة العلمية مقسمة قسمين أحدهما للبنين والآخر للبنات وموضوعة في جداول: الكلمة العامية بالجدول مثلا "أجزجي" وما يرادفها بالعربية "صيدلاني" ثم تطبيق عليها "أعطاني الصيدلاني الدواء".
الحقيقة أن هذه الحقبة في وجهة نظري كانت أنجح فترات التعليم في مصر ونتاجها نراه في شكل المتعلمين وتمكنهم من مهامهم بإتقان كامل على مدى فترات زمنية طويلة لاحقة ويكفي أن نعلم أن أول دواء للبلهارسيا أنتجته شركة باير الألمانية عام 1929 حمل اسم الفؤادين تكريما لجهود الملك فؤاد في دعم التعليم والبحث العلمي بمصر ..
إن الوقت لايزال أمامنا لتعود المدرسة بيتا للحياة كما كان يسميها أجدادنا الفراعنة "بر عنخ " وأن يصبح المعلم على الدرجة الكافية من التدريب والكفاءة للقيام بمهمته المقدسة ووقتها نرى لمقولة أمير الشعراء صدى في بلادنا .
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: