د. محمد فتحي عبد العال - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1783
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مقدمة
يخطئ من يظن أن الإبداع ليس صناعة وأن الشخص المبدع يُولد مبدعًا ويستمر في إبداعه بالسليقة والحقيقة أن الإبداع نتاج مقومات عدة أحد أهمها إتاحة المناخ الذي يترعرع في كنفه الإبداع. هذا المناخ تكفله مجتمعات ترعى مبدعيها وتؤمن بموهبتهم وتدعمهم وتستثمر فيهم دون قيود أو اجحاف أو محاباة . بالطبع هذه المجتمعات هي التي تتصدر العالم المعاصر نهضة وابتكارا واستثمارا.
معظم الإنجازات العلمية الهائلة التي أضافت إلى رصيد البشرية كانت نتاج أفكار هؤلاء المفكرين و المبدعين الذين وجدوا الرعاية والتبني والدعم من مجتمعاتهم فأطلقوا العنان لأفكارهم ورسموا المستقبل لأوطانهم.
فما نصيبنا العربي من ذلك؟ لنرى ذلك في أحداث قصتنا عن الطبيب المصري ابن رضوان!
هو أبو الحسن علي بن رضوان المصري بن علي بن جعفر ولد بمدينة الجيزة في مصر وكان والده خبازا.
لم تمنعه نشأته الفقيرة من استكمال تعليمه فجمع بين العمل بالتنجيم ودراسة الطب حتى امتهن الطب في النهاية وصار دخله يكفيه من مهنته الجديدة.
الطريف أن ابن رضوان تعلم الطب بنفسه ولم يتعلمه على يد معلم وكان من المدافعين بشراسة عن هذه الفكرة مما جعل سهام النقد تتجه إليه خاصة من خصومه وفي مقدمتهم ابن بطلان والذي ذهب في نقده مبلغا غير لائق فنعته بدميم الخلقة أسود اللون في رسالته (دعوة الأطباء) وكان ابن رضوان يرد على ذلك بأن الطبيب الفاضل ليس بالضرورة أن يكون جميلا وقد جمعهما اللقاء في الفسطاط فقد كان ابن بطلان من بغداد ورغم ذلك استمر الخلاف والردود والمساجلات بينهما.
كانت اسهامات ابن رضوان في المجال الطبي جليلة بحق فأضفى علي قسم أبقراط للأطباء طابعا إسلاميا وأضاف إليه خصال هامة منها ضرورة تحلي الطبيب بالذكاء والحرص على التعلم وحسن الخلق ونظافة المظهر وطهارة اللسان والعفة والكتمان لاسرار المرضى وعلاج الجميع على السواء الغني والفقير والعدو والصديق وألا يصف دوءا إلا بعد روية ودراسة للحالة كما قدم شروحا مستفيضة لكتب الطبيب الاغريقي جالينوس والذي بلغ تأثره به حد أن كان يراه في المنام كلما ألمت به معضلة طبية في عمله فيساعده في حلها! .
ويعتبر ابن رضوان من الآباء المؤسسين للطب الاكلينيكي في العصور الإسلامية فكان يجري فحصا دقيقا للمريض وهيئته وبشرته ونظره وكلامه وطريقة مشيته ونبض قلبه ويتفقد أعضائه الباطنية متخللا ذلك توجيه الأسئلة للمريض لتقرير حالته.
ولما ذاع صيته ضمه الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله ليكون كبيرا للأطباء في بلاطه وكان معاصرا لابن الهيثم .
ومن شدة شهرته استدعاه حاكم بلوخستان لكي يعالجه من شلل جزئي أصابه.
مكانة ابن رضوان العلمية :
تنوعت كتب ابن رضوان بين الطب والفلسفة ومن أشهرها كتاب دفع مضار الأبدان بأرض مصر وكتابه شرف الطب وكتاب النافع في كيفية تعليم صناعة الطب .
وقد ترك في كتاباته توصيات ذهبية للحفاظ على الصحة عبر ممارسة الرياضة البدنية والتغذية السليمة وتهذيب النفس عما يصدر عنها من انفعالات وقبح.
من الطريف علو شأن ابن رضوان في علوم الفلك إلى حد تسجيله الانفجار النجمي في الكرة الأرضية في 30 أبريل عام 1006 م بمنتهى الدقة من حيث الحجم والمكان وشدة الإضاءة لكوكبي الزهرة والقمر مما جعله مرجعا مهما للباحثين المعاصرين حول هذا الحدث الكوني النادر .
كما وضع مقالة في بعث نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم من التوراة والفلسفة.
مع كل هذا التميز والتفوق في المجالات المختلفة التي سار فيها طبيبنا كان القدر يخبئ له مصيرا قاسيا.
فقد وقعت بمصر في أواخر حياته ما عرف بالشدة المستنصرية لتقلب حياته وحياة المصريين رأسا على عقب.
الشدة المستنصرية :
كانت الشدة المستنصرية سابقة في تاريخ المحروسة لم يشهد التاريخ المصري ما يوازيها بشاعة حيث انخفض منسوب النيل وماتت النباتات وفقد الناس أرزاقهم وارتفعت الاسعار على نحو غير مسبوق فيما فقدت الاموال قيمتها ووصلت الأزمة إلى ذروتها حيث اختفت اللحوم من الأسواق ولم يعد أمام المصريون سوي أكل القطط والكلاب ووصل سعر الكلب إلى خمس دنايير أما القط فوصل سعره لثلاثة دنايير ومع تعاظم الخطب أكل المصريون بعضهم بعضا!!!!!!حيث كانت تنصب الكمائن في ازقة مصر لاكل المارة !!!
السؤال ما السبب الذي أوصل مصر ألى هذه الحالة الخطيرة ؟
كان السبب الرئيسي هو غياب حنكة الخليفة الفاطمي المستنصر بالله والذي تخلى عن سياسة اجداده في إدارة الازمات والمخاطر وذلك بتوفير مخزون استراتيجي سنوي من الغلة بقيمة مائة الف دينار حتى يستطيع توجيه الموارد اللازمة لمواجهة اية أزمات محتملة ومواجهة احتكار التجار في وقت الطواريء ..كان صاحب نصيحة هذا التخلي عن هذه الاستراتيجية هو الوزير أبي محمد علي البازوي وهذا سبب اخر للازمة وهو غياب القيادات الوزارية التاريخية القادرة على ادارة الأزمات والسبب في ذلك ضعف المستعصم أمام جموح أمه السيدة رصد النوبية التي استأثرت بأختيار و بتغيير الوزراء بين عشية وضحاها والتلاعب في أقدار الدولة على نحو ساعد في استفحال الأزمة ...
انتشار العناصر الاجنبية في الجيش المصري آنذاك وعدم تجانس الجيش أدى إلى انقسام خطير داخل الجيش حيث تصاعدت حدة التوترات بين العناصر التركية والسودانية فيما كانت هجمات البربر على أشدها على الدلتا..كل هذه العوامل بالاضافة لانخفاض منسوب النيل كان لها الأثر الأبرز في الشدة المستنصرية..
مات من المصريين في هذه الازمة الطاحنة أكثر من ثلثهم وخلت الشوارع من المارة ووصلت الأزمة إلى قصر المستنصر فيما فرت أمه إلى بغداد هربا من الجوع و باع المستنصر رخام قبور أجداده للحصول على الطعام بعد أن خوى قصره من كل شيء إلا سجادة تحته وقبقاب برجله !!!!ووصل الأمر أن تصدقت عليه ابنة أحد الفقهاء برغيفين يوميا ..
الطريف في هذه الأزمة هو الموقف النسائي حيث تزعمت أرملة الأمير جعفر بن هشام تظاهرة نسائية ضد المستنصر بعدما باعت عقدا ثمينا بقيمة الألف دينار من أجل شراء القليل من الدقيق لكن الناس نهبوه منها ولم يبقي منه غير ما يكفي لصنع رغيف واحد فصعدت على ربوة مرتفعة صائحة في تهكم : (يا أهل القاهرة ادعوا لمولانا المستنصر بالله الذي أسعد الله الناس في أيامه وأعاد عليهم بركات حسن نظره حتى تقومت على هذه القرصه بألف دينار ) وقد حاول المستعصم بعد توبيخ التظاهرة النسائية له على ضبط الاسعار وتوفير الدقيق الا أن الأمر قد خرج تماما من يديه ولم يعد يمتلك أية سلطة على أي شيء بمصر وخرجت أملاك امبراطورية اجداده المترامية عن نطاق سلطته .وقد اعتبرت جريدةالتايم الامريكية عام ١٩٤٧ هذه التظاهرة اول مظاهرة نسائية في العالم .
أحوال طبيبنا في أثناء الازمة :
عظم الغلاء على ابن رضوان فباع كتبه التي يقرأ فيها مع احتفاظه بعدد يسير من الكتب في الأدب والشرع والطب ومما زاد الطين بلة إقدام فتاة يتيمة رباها في بيته على سرقة مدخراته ثم هربت فأصيب بعدها بالجنون والغريب ان هذا المصير القاسي لاحق كتبه أيضا بعض مماته فضاع جزء كبير من مصنفاته التي شارفت على المائة في شتى ضروب المعرفة من الفلسفة والطب والفلك وما ظل منها بقى الجزء الأكبر منه مخطوطا دون تحقيق وهكذا يكون الجزاء لمبدع مستنير خذله الإحسان الذي أسداه لمجتمعه.
نهاية الشدة المستنصرية :
كان الخيار الوحيد أمام المستنصر لضبط الأوضاع في البلاد هو استدعاء خادمه القوي والأرميني الأصل بدر الدين الجمالي والذي كان واليا على دمشق وعكا ليتولي الوزاره وأعطاه المستنصر صلاحيات مطلقة فأعاد بدر الدين الجمالي -والذي ينسب إليه حي الجمالية في قلب القاهرة - الأمن إلى مصر وضرب على ايدي العصاة والمجرمين ونهض بالزراعة واهتم بالتجارة فعادت مصر إلى سابق عهدها من الرخاء والاستقرار .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: