يواخيم هاينز / ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2280
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مقدمة
كانت بريطانيا قد توصلت إلى نتيجة مفادها أن العراق مهم جداً لسياستها الاستعمارية، لأهميته الجيو سياسية، فبالإضافة إلى ثرواته الكامنة، وقد توصلت إلى هذه الحقائق نتيجة لاستطلاعات ميدانية كثيفة قام بها أفراد وجماعات، باحثون ورحالة ورجال استخبارات وشركات ملاحية وتجارية وحملات استكشاف وبعثات جيولوجية وأركولوجية، وحتى مغامرون وشذاذ آفاق، توصلت بريطانيا بموجبها إلى حقيقة مفادها: أن العراق هو درة الشرق الأوسط الثمينة. وابتدأت منذ القرن التاسع عشر بصياغة الخطط (مؤامراتها ودسائسها)، وحياكة شبكة معقدة من العلاقات والاتصالات ضمن المجتمع العراقي ودراسة زواياه وخفاياه حتى قبل نشوب الحرب العالمية الأولى، فقد كانت أوضاع تركيا العثمانية " الرجل المريض " تنبئ بانهيار قريب، وكان الإعداد والاستعداد لتلك المرحلة جارياً على قدم وساق، ولنا فيما نشر وترجم للعربية عن أعمال بعض هؤلاء الرحالة والكشافة ورجال الاستخبارات، ما يؤكد هذه التوجهات المبكرة.
وما أن اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وهي أساساً حرب استعمارية ما قامت إلا من أجل إعادة تقسيم العالم بين القوى الاستعمارية القديمة (فرنسا وبريطانيا) والجديدة (ألمانيا والنمسا) وكانت منطقة الشرق الأوسط، والعراق تحديداً إحدى نقاطه الملتهبة، وموضع تباحث واتفاق بين القوى الاستعمارية كما تؤكد ذلك اتفاقية سايكس بيكو السيئة الصيت. فألمانيا الدولة الصناعية الناهضة المتوحدة، المنطلقة إلى التوسع، كانت تضع العراق على رأس جدول مطامعها، وقد عبرت عن تلك المقاصد بوسائل عديدة: في المقدمة منها كان السعي نحو تحقيق مكاسب نفطية / معادن عبر الأعمال المشتركة مع حليفتها الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تفتقر في واقع الأمر إلى القدرات التكنيكية أو المالية على إدارة استثمارات عملاقة وكبيرة في العراق أو في الدول العربية، أو حتى الحفاظ عليها ضمن ممتلكاتها دون الدخول في تحالف سياسي /عسكري مع ألمانيا والنمسا.
وعلى أساس من هذه الحسابات الاستراتيجية الألمانية، كما من البديهي القول أن بريطانيا لم تكن غافلة عن الفعاليات والأنشطة والنوايا الألمانية، عندما دخلت الحرب على أساس مخطط سايكس ـ بيكو، الذي يقسم ممتلكات الدولة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا التي انسحبت من هذا المخطط الاستعماري بعد قيام ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917، وفضح تروتسكي وزير الخارجية السوفيتية لأهدافه. ولكن بريطانيا وفرنسا واصلتا قدماً تنفيذ المخطط على أثر هزيمة الدولة العثمانية في الحرب، فتم التقسيم على نحو ما عرف بالمنطقةA والمنطقة B وفرضتا نظام الانتداب Mandate System وفق الفئة A / Category في عصبة الأمم وأباحت لنفسها فيه إقامة نظم استعمارية متعسفة نهابة، هيمنت فيه على مقدرات البلدان الخاضعة للانتداب بصفة كلية ولم تعر فيه إلا قدراً ضئيلاً للغاية بمقدرات الشعوب، فيما استأثرت مصالحها الشاملة على كل شيء.
وما يهمنا هنا تأكيده في هذا المجال، العلاقات العراقية ـ البريطانية أن العراق الذي وضع تحت نظام الانتداب المشار إليه كان يدار بصفة تفصيلية من قبل سلطات الانتداب الاستعمارية. وكان إلى جانب كل وزير، مستشار سياسي بريطاني، ولكنهم كانوا في واقع الأمر من ضباط الاستخبارات البريطانية (ليس مدهشاً أن أعاد الأمريكان هذا السيناريو بالضبط بعد احتلالهم للعراق عام 2003)، وكان وجودهم في الوزارات أساسياً، والوزراء العراقيون لم يكن بوسعهم على (الأرجح)، القيام بإجراءات ذات طابع جوهري دون استحصال موافقة المستشار السياسي البريطاني الذي يهيمن بصورة مباشرة على كافة الخطوط العامة والتفصيلية للفعاليات والأنشطة الإدارية والسياسية والاقتصادية وغيرها، بل أن تدخل هذه المؤسسات الانتدابية كان يطال حتى مفردات حساسة تمس السلامة والوحدة الوطنية للبلاد.
فكان الضباط السياسيون (من الاستخبارات البريطانية) يقومون بجولات واستطلاعات ميدانية إلى أرجاء البلاد كافة ومنها المراكز الدينية ويقيمون الصلات الحميمة برجال الدين ورؤساء القبائل والفعاليات الاجتماعية، والعزف على أوتار التكتلات الطائفية والعرقية ومحاولة إثارة الفتن والبغضاء والدسائس بينهم، ودفع المواقف باتجاه إثارة التناقضات عملاً بسياسة استعمارية معروفة (فرق تسد)، كما كانت صلاتهم وفعالياتهم تعمل على تفريق وحدة البلاد والمواطنين، ولم تكن لتستبعد اللعب على ورقة الأقليات القومية والدينية فكانوا يقيمون الصلات المشبوهة بدوافع الفتنة بأبناء الوطن من الأكراد، ليس بهدف تفهم الحقوق القومية، بل في استخدامهم كعناصر في إقامة توازنات تكفل هيمنتهم على البلاد، وإيقاع الضغط على السلطات الوطنية وجعلها بحاجة دائمة إلى النفوذ البريطاني، وكذلك في إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع الأقليات الدينية والعرقية واستخدامهم لذات الأغراض، وكان الهدف العام لهذه الأنشطة أن تطرح السلطة البريطانية نفسها كراعية لهذه الأقليات، وإقامة شبكة من العلاقات والخيوط تكون سلطات الانتداب ممسكة ومتحكمة بعقدة الرئيسية تضمن من خلاله ولاء كافة الأطراف للسلطة الاستعمارية واستبعاد وإضعاف محاولات القوى الوطنية العراقية في المضي قدماً صوب تعزيز الاستقلال السياسي ووضع العراقيل في سبيله.
والسيدة البريطانية غروترود بيل هي واحدة من الشخصيات التي كانت ضالعة في بناء هذا النسيج من العلاقات الذي يضمن لبريطانيا السيطرة والهيمنة على العراق. ولعبت دوراً مهماً قي هذا المجال.
ضرغام الدباغ
******************
غروترود بيل المسترجلة بشعرها الأحمر في الشرق ، بل وتتقن العربية
كانت تبدو وكأنها عالمة آثار وكاتبة، ومتسلقة جبال، ولكنها كانت تعمل للاستخبارات البريطانية، غروترود بيل كانت حقاً مغامرة، ثم طبعت لاحقاً الشرق الأوسط بطابعها.
تحرير : يواخيم هاينز : Joachim Heinz
ترجمة النص : ضرغام الدباغ
نشر بتاريخ : 14 / تموز / 2018 موقع (WELT)
تمكنت المس بيل أن تتفهم بلاد الرافدين كما لم يتمكن بريطاني آخر فعله. وقد أبدت هذا التفهم خاصة عند لقاء أبن السعود (لاحقاً الملك عبد العزيز) مع القائد العام للقوات البريطانية في البصرة السير بيرسي كوكس بتاريخ 1917.
" أن أكون وحيدة في الخارج في العالم ، ولكني غالباً ما الاحظ نفسي الآن، كيف انني اعتدت على ذلك، كبديهية وكضرب من الثقة بالنفس "، مع بعض الدهشة والاستغراب من معرفة طبيعة هذه الحياة من خلال سطور كتبتها غيرترود بيل.
ولدت هذه البريطانية في 14 / تموز / 1868 بالقرب من مدينة نيوكاسل، وهي تنتمي للطبيعة الغريبة التي أنتابت العالم في فترة الأنتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين التي أحدث تغيرات عميقة في الشرق، قبل دخول المنطقة العربية الحرب العالمية الأولى، وبعدها عندما أنسلخت عن الدولة العثمانية، أصبحت في مرمى الأهداف والاهتمامات الأوربية.
وفي هذا (التغيرات في الشرق ) كان لغرترود بيل مساهمتها، ولكن قبل ذلك .. كيف تمكنت سيدة في ذلك الوقت أن تسافر لمفردها إلى العالم ..؟ وتقوم بالكثير، وليس فقط في اكتشافها لأطلال الكنائس البيزنطية في تركيا، أو المدينة / الواحة تدمر، بل وأيضاً روائع الألب السويسرية، وفي تسلقها المدهش لجبل " الجدار الشرقي " الذي يبلغ ارتفاعه 4273 متر.
غيرتورد بيل كانت محظوظة أن تيسر لها أن تعيش في أسرة ليبرالية مستقرة مالياً، بالرغم من وفاة المبكرة لوالدتها ماري. وكان جدها اسحاق لوثيان، قد كان قد وضع الأساس وأصول صناعة الحديد والصلب وتطورها.
وتكتب غيرترود عن رغبتها بدراسة التاريخ، وكان وجود النساء (في ذلك الوقت) في الجامعات من النوادر، وبررت ذلك لوالدها توماس بيل، وزوجة أبيها فلورنس أوليفا، بهذه الكلمات " أريد أن أتعرف على شيئاً واحداً على الأقل من قاعدة العلوم " . وذهبت إلى أوكسفورد، وما كادت تبلغ العشرين من عمرها، حتى أكملت تعليمها الجامعي بأمتياز.
أول رحلة لها إلى الخارج، عقب إنهائها مرحلة تعليمها الجامعي، كان إلى طهران حيث كان هناك خالها (شقيق زوجة والدها) سفيراً لبريطانيا في بلاط فاس فرانك لا سليس. وكانت غيرترود نكن حباً ملتهباً للشرق، وكتبت تقول " لم أكن أعرف ما هي الصحراء حتى جئت إلى هنا .... إنه مكان رائع حقاً ".
ومنذ ذلك الحين كانت غيرترود تتردد على المنطقة، وسرعان ما تعلمت اللغة العربية والفارسية، حتى أفراد البدو المعروفين بصلابتهم، وهي بينهم بشعرها الأحمر وعيناها الخضر، كانوا يعجبون بها وأطلقوا عليها تودداً با " الخاتون "، أو لقب " المس " (سيدة بالإنكليزية). كانت غيرترود تبدو متألقة سيان إن كانت في لندن أو في الشرق الأوسط، تكون نقطة جذب ومحط الأنتباه.
وتذكر أحدى كتاب سيرتها، سوزان غودمان، أنه عوملت "كرجل شريف"، و"كملكة الصحراء "، وغيرترود سافرت بمعية الملوك، وكانت تستخدم أرقى أنواع الخزفيات (البورسلان)، وتحصل على حمامها حتى في التجوال.
وكتبت معلقة عام 1902، أنها أمضت أمسية في اقسى الظروف الجوية تحت المطر على نتوء صخري، مع مسؤول بريطاني " كنت أواسي نفسي بأفكار ببطل حرب البوير (جنوب أفريقيا)، الذي أمضى كذلك ليلة تحت المطر وتمكن من أن ينجو دون أذى يلحق به ".
وفي عام 1911 تحقق أو لقاؤ بين غيرترود بيل وتوماس إدوارد لورنس (لورنس العرب)، في حفريات كركميش قرب مدينة هيت، وكتبت المس بيل تقول " أمضيت يوماً لطيفاً " . وما بقي غير معروف حتى الآن نتائج محادثات لورنس مع الآثارية التي كانت معروفة في ذلك الوقت، حول القضايا الثقافية . ..!
في الحرب العالمية الأولى تكرر لقاءهما مرات أخرى " كوكلاء لجهاز الاستخبارات " في القاهرة / مصر، كان الإنكليز يريدون بسط هيمنتهم على حقول النفط، وتأمين طريق الهند، وفي هذا أستخدم لورنس وغيرترود بيل علاقاتهما واتصالاتهما ولعبا دوراً، ليحلوا كقوة ذات النفوذ والهيمنة بعد الامبراطورية العثمانية، غيرترود بيل ساعدت العراق على البروز بشكله الحالي، ولورنس قاد القبائل في شبه الجزيرة إلى تكتيكات حرب العصابات.
ولكن كلاهما لم يسعهما معرفة الآثار الحقيقة لعملهما، إذ قضت المس غيرترود بيل السنوات الأخيرة من حياتها في بغداد، حيث وضعت حجر الأساس للمتحف الوطني العراقي، وفي 12 / تموز / 1926 توفيت أثر تناولها جرعة زائدة من الحبوب المنومة، وأخيراً نال العجز البدني، والحالة النفسية (الاكتئاب)، قد عذبا هذه المرأة التي كانت تثير الاعجاب بعملها .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: