د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4482
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ليبيا، محل أطماع الطامعين وما أكثرهم لعظيم ثرواتها وقلة عدد شعبها، تعاني اليوم بل ومن قديم الزمان من جيران الكفر والنفاق وأدعياء الصداقة والتعاون، حتى تكاد تَعدم من يكون لها صديق وشقيق في الملمات. وبالأخص منذ انبثاق البترول على أراضيها. فلم تمض عشر سنوات على اكتشافه حتى قلبت الثورة كرسي العرش على مليكها، بقيادة ضباط شباب من الجيش الأكثر تأثراً بريح القومية والاشتراكية لتحرير بلدانهم من الاستلاب. فلم يكد يظهر ظلهم أول الصباح حتى تسارعت العواصم الى الاعتراف بهم كربيع الثورات العربية، كمقدمة للتحكم في مصائر بلدانهم. وليس أية عواصم، ولكن العواصم التي راودت فيما بعد لاستنزاف طاقاتها وخيراتها، وظلت ترصُدها وتترصد لها قبل تفقيس البيض، لإفشال كل مبادراتها للوحدة والتعاون حتى مع أقرب جيرانها وأشقائها. وهذا دأب الدول بين ضعيف وقوي، وإلا لما قامت عصبة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لجمع الدول في حظيرتها وممارسة الضعيف على الأضعف نفوذه تحت جناح القوي فالأقوى.
وظل الأمر على ذلك تقريباً مع تغير المسميات والمجالس المستحدثة المتفرعة عنها والوكالات والمنظمات المتولدة على غرارها وتحت رُقْبتها. ولم تكن هذه المنظمة العتيدة التي يقبع لعهود طويلة على رأس جهازها التنفيذي "مجلس الأمن" ليفكر أصحاب القول الفصل فيها لتعديل تركيبته بوزن أمم العالم وليس بوزن الأقوى فيها وغير المغلوب.
ولذلك رأينا "الأمم المتحدة" ومجلسها للأمن لا يقوى إلا على المستضعفين، فيصدِّر الحلول التقسيمية والتضعيفية لطائفة من الدول تشكّل - للمفارقة - الشطر الأعظم من أعضاء المنظمة المائتين تقريباً. وفي مقدمة هؤلاء المستضعفين الدول العربية والإسلامية، حتى لا نذكر إلا من يخصّهم ويشبِه ليبيا في الوضعية، وكذلك سوريا والعراق واليمن وغيرهم.. وبالأمس شاهدنا الحلول التقسيمية التي توسّط لها أو تدّخل فيها مجلس الأمن، وهي تيمور الشرقية والبوسنة والهرسك، وما قراره بتقسيم فلسطين بغائب عن الاعتبار كذلك.
وليبيا اليوم في الخشية الكبرى بتدخل الاتحاد الأوروبي ودوله الأقوى للإجهاز على ثورة الأربعين عاماً للقذافي في ليبيا، لعودة الكرة اليها كالمساعد على فض مخلّفات حكمه الاستبدادي، الفريد من نوعه في الحوليات الحديثة للتاريخ المعاصر، وامتداداته بالتأثير المالي والإيديولوجي في إفريقيا وآسيا والأمريكيتين، وحتى في أوروبا نفسها. فالفصائل التي تتنازع الحكم بالحراب الآن، كلها تحمل مصير ليبيا على رأس حرابها.
وبما أنْ لا أحد يمكن له أن يتربع على عرش ليبيا بالكامل في وحدة كالسابق أو فيدرالية إلا بسند خارجي؛ لأنك تجد بعدد مليشياتها أعواناً لهم من الأشقاء والأصدقاء بالمرْقبة منهم لمدّهم بالعون والسلاح إذا اقتضى الحال، لارتباط المصالح وتقاسم المصير في حال الربح والخسارة. فقط سوف لا يحترم المواثيق والعهود إلا من يخشى العاقبة أن تدور عليه من الذين حركتهم ثورة الشعب الليبي للعودة إليه كالمستعمر في ظل تقسيمه أو وضعه في معاهدات مذلة تحت جناحه. ولذلك فشلت كل محاولات الحل السلمي لوجود كل الأطراف تحمل السلاح متهمة بكونها تستند الى دعم من الخارج للغلبة على غيرها.
وبما أن الأمم المتحدة، وهي تسعى لجمع الأطراف كلها الى جانب مائدة واحدة للتفتيش عن حل مرض للجميع يحقن الدماء ويحفظ الأرواح ويجنب البلاد مزيداً من الخسائر، متهمة بوقوعها تحت تأثير الدول الأوروبية والغربية عامة القيّمة على الموضوع الليبي، باعتبار تدخّلها في النزاع التدخلَ الحاسم الذي تدّعيه لنفسها دون كل فصائل المقاومة أو مليشيات الثورة، فإنها، أي الأمم المتحدة وإن أرخت الحبل للمفاوضات المسوغة للقرار، تبقى عاجزة عن فرض حل يراه الشعب معيباً لكرامته ووحدته وثورته وتراه الأطراف الموالية للخارج غير معيب. وإنما هو معيب، لأنها أي ثورته وبعد كل حديث هي ثورة للنهوض بنفسه من كبوة الحكم الاستبدادي الذي كان جاثماً على صدره كالمنغلق على نفسه ضد كل تفتح يفضي الى ابتزاز ثرواته وإن سقط في إهدار ثرواته تحت الحكم نفسه وبالحجة نفسها؛ فلا يمكن له أن يقبل بكل حال أن لا يرعى الخارج قوة الحق الى جانبه، وهي الحفاظ على مقوماته الدنيا، الذي هو أدرى داخلياً برعايتها عن ثقافة أصيلة لم تزل تفعل في ضميره وتقود خطوات إلهامه منذ مئات السنين..
قليلاً عدده ضعيفاً سنده، ولكنه قوي بنفسه وبإيمانه وبماضيه الجهادي للذود دونها وإن أعوزت الوسائل وطالت السنين. وله، عبر امتداده الروحي والمعنوي والجغرافي في دفء أشقائه وأصدقائه عبر الصحراء وعبر المتوسط وأبعد من ذلك، كل أواصر القربى والتآسي والمؤاثرة. ويَعرف أن وحْدته بمصر أو تونس أو التشاد أو السودان لم تحصل لا لأسباب ذاتية بينه وبين هذه الشعوب ولكن بينها وبين حكوماتها للضغوط الأجنبية عليها وارتهان قرارتها في الأكثر لرضاء الخارج لا لرضى الداخل. ولذلك كانت ثورته وثورة أشقائه في تونس مثلاً إنما كانت لتفتح على شيء أهم بينهما هو الوحدة، التي طالما أعوزتها إرادات الأنظمة الفاشلة التي ميزت تاريخهما بعد الاستقلال.
-------
تونس في ٢١ جانفي ٢٠١٦
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: