فتحي الزغـــــــــل - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8465
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قال لي صاحبي و هو يُحاورُني : هل تعرف معنى كلمة "بانديّة" في الاصطلاح الشعبي؟ فقلتُ: هم على حدّ علمي الخارجون عن القانون، المتمرّدون على الأخلاق، البعيدون كلّ البعد عن الدّين. و لهم من التّسميات كثيرٌ في مجتمعاتنا العربيّة... فيُسمّونَ "بلطجيّة" في مصر مثلا، و "بلاطجة" في اليمن، و "شبّيحة" في سوريا الجريحة... فأعجِبَ بجوابي أيّما إعجابٍ دلّ على أنّه تعلّمَ منّي هذه المرّة، لأنّ الظاهر من حزمه أنّه أراد توريطي بجهلي أمام علمه، ثمّ سألني سؤالا آخر: ألا علمتَ أنّ "البانديّة" في بلدنا قد نفّذوا انقلابا أبيضا، و قد اعتلَوا منذ مدّةٍ سُدّةَ الحُكمِ، و هم الآن في قمّتها حاكمون؟ يأمُرون، و ينهُون، و يخطّطُون، و ينفّذُون، و لاستراتيجيات الظّلم و الغصب يُنَظِّرُون و يُنجِزون؟ أم أنّ خبرا كهذا، و حقيقة كهذه غائبةُ عنك؟ و أنت الذي تدّعي لنفسك التّحليل و الرّأي و الفكرَ. فلا شكّ أنّك و أمثالُك مأخوذون بمشاكل البلاد و النّاس الظاهرة، و نائمون عمّا يقع بين ظهرانينا؟ فلم تُوجِّهوا مِكشافَكُم على ما نحسُّ و نعاني كلّ يوم، و اكتفيتم بما تُسمّونَه بالقضايا الهامّة، و ما أنتم في واقع الأمر إلاّ جاهلون بها، و عَمُونَ عليها.
فأصابني الذّهولُ من سؤاله، و الدهشة من هجومه، و الجلل من ردِّه عليّ بتلك الطّريقة. و أخذتُ أقلِّب في ذاكرتي السّريعة عن خبر انقلابٍ وقع هذين اليومين و لم أسمع به. و هل لا نزالُ في زمن الانقلابات، و في حقبة البيان رقم واحد؟... و لكن كيف لي أن لا أعلم بحدثٍ كهذا؟ و أنا كغيري من الذين يتنفّسون السّياسة هذه الأيام كلّ صباح و مساءٍ، فعن أيّ انقلاب يتحدّث هذا الجاهل؟ و من هم "البانديّة" الذين وصلوا سُدّةَ الحكم؟ و لماذا لم يُعلنوا عن ذلك في "وطنيّتنا السّابعة" و لا في "نسمتنا" الملوّنة" و لا في "تونسيّتنا" الآفلة حتما و لو بعد حين؟ و هل لخبرٍ مثل هذا أن يغيب عن "حوارنا" التي عوّدَتنا على تصوير و نـــــــــــقل أي نشاط فيه فوضى أو احتجاج ضدّ الحكومة، و لو كان خصومة بين اثنين من حومة واحدة؟
إلاّ أنّي و لفرط إحساسي بالهزيمة أمامه، و أمام إصراره على خبره، تظاهرتُ بالجـــهل و بالجـــــهالة، و تناسيت الحكمةَ و الفراسَةَ و رباطة الجأش، و أجبتُه بـأنّي الغافلُ، و عن ما ورد في بلادنا شاردُ، و أنّي للحقيقة منه طالبُ، و عن أولئك "البانديّةِ سائلُ، و لكيفيّة استتباب الأمر لهم داهشُ...
فما كان منه إلا أن حملق فيَّ بنظرة أكرهُها، تُذكِّرني بنظرة زوجتي عندما أنسى يومَ عيد ميلادها، و أخذَ يدي اليُمنى، و قلَّبَ أصابعي فيها، و أخذَ يتكلّم يُعدِّدُ مظاهر تخلُّفي، و ظواهر جهلي و عِظَم علّتي و قال: ألم تعلمُ بأنّكم و بثورتكم على مخلوعكم فتحتم الباب لسُرّاقِكم- صبيانُه - أن يَحكُموكم في أيّام ثورتكم الأولى؟ فقلت له: بلى. فقال ألا تعلمُ أنّ سُرّاقَكُم فتحوا الباب بدورِهم لصبيانِهم ليعيثوا في البلاد فسادًا في كلِّ شبرٍ منها؟ فقلت: لا. فقال: ألا تعلم أنّكم بعد ذلك و بعد أن وحل الفأسُ في الرأسِ انتخبتم مجلسا يؤسّس لمستقبلكم؟ فقلت: بلى. فقال: ألا تعلم أنّكم فوَّضتم لجماعةٍ من مجلسكم أن يحكُموكم؟ فقلت: تقصد "الترويكا"؟ فقال: ذاك ما أقصد. فقلت: بلى. فقال: ألا تعلم أن هؤلاء ظهر عليهم التّعب قبل بداية الجــري، و التّردّد قبل النتيــجة، و الخوف من خصومهم قبل المواجهة؟ حتى وصل بهم الحالُ درجة من العلّةِ تقمّصوا فيها دور المعارضة و هم في الحكم. فقلت: بلى أعلم هذا، و أعلمُ أنّهم ساروا بتردّدهم ذاك، و بضعفهم ذاك إلى الفشل، و إلى إنجاح جهود المعارضة و المتحالفين معها من النقابات في ترويع البلَد و الناس، و تكبيد اقتصادنا الخسارة تلو الخسارة، و هم يتلذّذون في كلّ يومٍ وفي كلّ برنامجٍ إعلامِيٍّ بما يفعلون. فقال: أنت في طريــق الفهم أراكَ، و على درب الكياسة أخالُكَ. ثم عاد يسألني: ألا تعلم بأنّ ضعفَ الحُكومة شجّع سُرّاقَكُم على إعادة صبيانهم إلى الملعب؟ فقلتُ: بلى. فقال لي: ألا تعلم أن صبيانَهم هم الذين يُسمّون "الباندية"؟ فقلتُ: بلى. و لم يترقّب إجابتي و واصل كلامَهُ: عبثوا بأسواقها، فأصبحت السّلع لا تمرُّ إلاّ برضاهم، فأحكموا الخناق على المستهلكَ باحتكارهم، وأصبح الميزان لا يعدِلُ الكيل بينهم... و أضحى الكيلو الواحد ممّا يكيلون لكم في أسواقكم لا يزن كيلوغراما ممّا عهِدتُم ... و أصبح فيهم و في سلُوكِهم الغشُّ يحمل ثوب الوقاحة و اغتصاب أموال الناس المعدومة أصلا... و عبثوا في محطّات السّيارات، فأصبحت موطن ابتزازٍ لأصحابها، حتى أن الواحد منكم أصبح لا يتركُ سيارتَه و مركوبته على قارعة الطريق، إلاّ بعد أن يكون قد عقد اتفاقا مع كمشة من "البانديّة" على ثمن بقائها في مكانها دون إضرارٍ بها. فتحوّلَ المعلومُ عوض الضّررِ، لا عوضَ الحراسةِ... و عبثوا في الحافلات، و في محطّات النقل العمومي... فأصبحت و كرًا لهم و لألاعيبهم، يسرقون الناس فيها عُنوةً و علانيةً، و ينشلونـــــــــهم و يتفنّنون في اغتصابهم... و عبثوا في الأماكن العامّة أين يُفترَضُ النظام واحترام الغير و عدم إقلاقهم، فأضحت ملعبًا لهم يُعملون فيه الكفرَ، و قلّة الحياء... و عبثوا بمؤسّساتكم، فأضحت مرتعًا لهم، يُغلِقونها متى يشاءون، و يمنعون عنها و منها المواطنَ متى يُريدون، و يمنعون حتى موظّفيها من دخول مكاتبهم متى يُقرّرُون... و عبثوا بالطُّرقات العامّة فتمتّعوا في اغتصابها، و تواطؤوا على فضِّها، و تقطيع أوصالها.
ثمّ ترَكَ يدي، و سألني: ألا يُسمّى ذلك انقلابًا على السّلطة؟ إذا أصبحت سلطتُهم تُرى و تُعايَن و الحكومة غائبة؟ فمن يحكُم بربِّك... فقلت له بسذاجة بادية على مُحيّايَ: هم. فقال: ألا يسمّى ذلك مسكًا للحكم و تفرُّدًا بالأمر؟... إنّهم يحكمون و أنتم لا تعلمون ؟ انقلبوا على الحكم و أنتم لا تبصرون... و استتبّ الأمر لهم، و أنتم لا تُدركُون.
فقلت له: أجل، قد فهمتُك الآن، و ليتني ما فهمتُك... فغُصَّتي على بلدي زادت حدّةً و ألمًا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: