د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7097
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أحسست بالغثيان وأصابني الدوار بعد أن ختم الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية المصرية تلاوة الإعلان الدستوري الأخير وليس الآخر... ذلك لأن البقية ستأتي في نفس السياق الفاشي الذي توخّاه الرئيس محمد مرسي... والشيء من مأتاه لا يستغرب
بمجرد أن أفقت من الصدمة المنتظرة، حضرني المثل العربي " جزاء السنّمار". وبعيدا عن الخوض في الجزئيات القانونية التي اختلف فيها رجال القانون في مصر والتي لا يفقهها الإنسان العادي ولا علم له بأبجدياتها، أراني ملزما بتناول هذا الحادث الجلل والسابقة الخطيرة في الاسراع بالتّفرد بالحكم والاستيلاء على السلطة بأضلعها الثلاثة: التنفيذية والتشريعية والقضائية. ويهتف بي هاتف خفي قائلا: "لا تنسى السلطة التأسيسية".
فعلا إنّ الأمر كذلك، لا يجب أن أغفل التأسيسية، هذه البلية التي حلت بالثورات العربية وشوشت على بوصلتها الجماعية، فأضاعت عليها الوجهة الصحيحة. وجهة الديمقراطية التي باتت بعيدة المنال في حال سكت الشعب المصري وتنازل على دماء شباب الثورة وتضحياته باهضة الثمن.
اليوم تقف مصر في مفترق الطرق، كما وقفت بالأمس القريب ذات الموقف، لتختار في عسر رئيسا لها. كان النزال بين تيارين متنافرين، متخاصمين، متصارعين، صراعا لا هوادة فيه... فكان الشعب المصري كما الشعب التونسي في موقف صعب، يصوره المثل الشعب التونسي بكل دقّة ووضوح " بوس الأفعى أو طيح في البير" ومعناه: إما أن تقبِّل الأفعى أو أن تسقط في البئر. اختيار مصيري لم يوفّق فيه المصريون، فقبّلوا الأفعى وسقطوا في البئر، باختيارهم رئيس إخواني لم يمنعه منصب الرئاسة من نبذ الذّاتية والتّمسك بالموضوعية التي يتطلبها كذا منصب غاية في الحساسية...
يتحتم على المتتبع لمسار الثورات العربية والحالة تلك ن يطرح مجموعة من الأسئلة الموضوعية في مناخ معاد لكل أشكال العقلانية، ما هي الدّوافع التي جعلت الرئيس المصري يقدم على شنّ حرب صريحة على الديمقراطية في هذا التّوقيت؟ تتعدّد الإجابات وتتنوع، غير أننا سنقتصر على ما نحسبه الأبرز والأهم.
استنادا إلى مجريات الأحداث الأخيرة في مصر على المستويين الوطني والدولي، تتضح الأمور بالتّدريج أمام الباحث. الجميع يذكر الفشل الذريع الذي لحق كل القرارات التّعسفية التي كان اتخذها الرئيس محمد مرسي، بدأ بقرار إعادة مجلس الشعب المنحل بحكم من المحكمة الدستورية، وصولا إلى قرار عزل النائب العام ومحاولة تمريره فيما يشبه العنف النّاعم.
لو أضفنا إلى ما تقدّم، عدم وفاء الرئيس بوعوده الانتخابية التي حدّد فترة انجازها بمائة يوم، وكانت وعودا اختيارية، ألتزم بها الرئيس علنا من خلال خطبه الانتخابية. وأذكر جيّدا أنه قال بصوت عال، أمام ناخبيه في اجتماع شعبي " لن تغلق في عهدي صحيفة ولا قناة ولا يكتم صوت حرّ...". لم تمضي أسابيع على اعتلاه سدّة الحكم حتى بادر بغلق قناة الفراعين التلفزية ومحاكمة مالكها الدكتور توفيق عكاشة؛ وفي نفس المدّة تمّ توقيف ومقاضاة رئيس تحرير جريدة أسبوعية، ليخلي سبيله من الحبس التّحفظي، ثم عُزِلَ السيد جمال عبد الرحيم من منصبه رئيسا لتحرير جريدة الجمهورية بقرار من مجلس الشورى الذي اختاره وعيّنه في ذات المنصب...
نحن إذا أمام سلسلة من الإخفاقات المشفوعة بنكث للعهود ونقض الوعود، أحرجت الرئيس وحزبه والجماعة. كنت قد كتبت مقالا في هذا الشأن بعنوان: خطورة الخلط بين المناهج نشر على صفحة البوابة بتاريخ 15/10/2012، موضحا السبب الحقيقي الكامن وراء هذه الفشل. لم يبق أمام ثلاثية الحكم في مصر إلا البحث عن مخرج لأزمة القيادة، تخرج الرئيس من ورطته السياسية في تسيير الشأن المصري الداخلي وترفع عنه وعن الحزب والجماعة هذا الحرج القاتل... ما كان بإمكان أي منهم خلق أحداث، تنّفس من اختناق ترويكا السلطة في مصر... أبت الصدف الغبية القادمة من إسرائيل إلا أن تهدي الرئيس مرسي فرصة الخروج من مأزقه... فكان الاعتداء الفاشل على غزّة المخرج المنتظر.
قدّمت الحكومة الإسرائيلية (من حيث لا تحتسب) للرئيس المصري فرصة مزدوجة لتلميع صورته في الداخل بتصحيح أخطائه الفادحة من ناحية ومن ناحية أخرى (وهذا الأهم) أدخلته التاريخ من بابه الواسع، حين وُفِّقَ في وقف العدوان على أهلنا في غزّة وإقامة اتفاقية هدنة (هشّة) قَبِلَ بها الإسرائيليون قبل الحمساويون.
مكّن هذا النّجاح (المزعوم) الرئيس مرسي من ترميم شخصيته المهتزّة وقراراته المرتبكة، فبدا كمن عاد منتصرا من معركة وقبل أن يجف عرقه ويستحم من غباره، شهر سيفه الذي لم يغمد بعد، في وجه كل خصومه السياسيين داخل مصر. لم يرتب خصومه ولم يصنفهم، فتعامل معهم وكأنهم بيض في سلّة واحدة. وهذا خطأ إستراتيجي ثاني، يأتي مباشرة بعد الخطأ الأول ممثلا في استعمال عنصر المفاجأة، لمباغتة الجميع ووضعهم أمام الأمر الواقع، ممّا اضطر بعض مستشاريه على تقديم استقالتهم من الفريق الرئاسي، بعد أن تأكد لديهم ظهور الأعراض الأولى لداء العظمة الذي أصاب الرئيس المصري.
لقد نجحت إسرائيل ومعها الولايات في تضخيم أنا الرئيس، بعد أن بات من الواضح لديهم أنّ شخصية الرئيس بتركيبتها النفسية قابلة للغرور، خاصة بعد صعود الإخوان للسلطة وقد تناسوا وتجاهلوا عن قصد (وهذا منهجهم في التعامل مع خصومهم) أنّ من أتى بهم إلى الحكم وسمح لهم بالخروج من دائرة الظلمة إلى دوائر الضوء، هم أعداء الأمة الأزليين من بني صهيون ومن ولاهم من أمريكان. هذا ما سجلته بالقول: "التقط الغرب الصهيو - مسيحي أنفاسه واستجمع خبثه ودهاءه والثّوار في غفلة من أمرهم، فصادر الثورات بمزيّة الدّعم المالي وسماح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين لأعداء وإرهابيي الأمس (الإسلاميين)، أصدقاء وحلفاء اليوم (الإسلاميين) بحكم بلدان الرّبيع العربي"(1). يدعم هذا الرأي ما جاء على لسان الرئيس المصري المخلوع: محمد حسني مبارك فيما صرّح به من سجنه ونشر على صفحات النت حين يقول: " وصول الإخوان إلى الحكم في مصر تم بموافقة كاملة من أمريكا، وإسرائيل التي باركت المشروع "(2).
لقد غاب عن جلالة الرئيس أنّ زمن صمت الشعوب عن الظلم وقبولها بالرضوخ تحت أحذية الحاكم قد ولّى إلى الأبد، ومهما توسل جلالته كما فعل في الكلمة التي ألقاها يوم 24/11/2012 أن يسمحوا بمرور الإعلان الدستوري والإبقاء عليه لمدّة شهرين، فبدا وكأنه يستجدي شعبه بكل قواه الديمقراطية أن يكون دكتاتورا لستين يوم يعيش خلالها تجربة من سبقوه في الغطرسة والاستبداد... إلا أن عاصفة من الانتقادات المهذّبة هبت على الرئاسة وكان أكثرها حدّة ما جاء على لسان السيد حازم عبد الرحمن، وهو أحد كُتاب المقالات الرواد في صحيفة 'الأهرام' اليومية قائلا: " لم تُنتخب للحكم كي تشتغل بالقضية الفلسطينية. فقد جاءوا بك الى الحكم لتضمن الخبز والعمل وحياة أفضل. حذارِ ان تغرق في المستنقع الفلسطيني كأسلافك عبد الناصر والسادات ومبارك. ولا تنسى من الذين اغتالوا السادات ومن الذين أرسلوا القتلة"(3).
لقد استبشر زعماء الأحزاب المدنية خيرا بعد التقائهم فرادى بالرئيس، غير أنهم لم ينتبهوا إلى ما كان يخفيه صمته الرّهيب وهو يستمع إلى ملاحظاتهم وآرائهم لتجاوز تعثر الثورة المصرية وركود الحياة الاقتصادية، فكان وكأنّ سينة قد أخذته أو غفوة من نوم. كان جلالته مأخوذا بتفصيلات خطة تقديم الديمقراطية التي أتت به إلى السلطة إلى المقصلة.
دون سابق إنذار أدخل الرئيس المصري بلاده في دوامة من الغضب العارم بزعامة القضاء، ثم ركب نرجسية وليدة لتصعيد موقف خاطئ بالأساس، بالنّفخ في نار الفتنة التي كانت مصر غنى عنها. لا تزال أمام الرئيس الذي انفصل عنه بعض مستشاريه سانحة للتراجع، قبل أن تزهق أرواح لا ذنب لها إلا أنها رفضت بشكل قاطع الذّل والاستكانة. لقد أدّى الفصل الثاني من الإعلان الدستوري المتعلق بتحصين قرارات الرئيس إلى شلّ الحياة العامة، بدأ تعليق القضاء منذ الخامس والعشرين من شهر نوفمبر إثنى عشر وألفين. كما تأثرت البورصة المصرية بالغ الأثر بخسارة ما يقرب من ثلاثين مليون جنيه في فترة وجيزة، الأمر الذي جعل صندوق النقد الدولي يلوّح بحجب القرض المنتظر. أما الشريك الأمريكي فقد توجه بعض رموزه بالنقد اللاذع لتصرف الرئيس مرسي واصفين إياه بالدكتاتور.
لقد اتخذ الإخوان المسلمون من الرئيس مرسي الناطق الرسمي باسمهم وواجهة لإعلان نواياهم، فكان من سوء حظه رأس حربة لمناوشة المجتمع ودرع الجماعة يحميها من ضربات خصومها السياسيين، متجاهلا دوره في انقاذ البلاد وإصلاح حال العباد. لم تنطلي الحيلة الصبيانية التي توخاها الإخوان لتمرير استبدادهم بالمجتمع، بدسّ السّم في الدّسم من خلال الجمع في نفس الإعلان الدستوري بين الجانب السياسي والقضائي المر والجانب الاجتماعي الحلو. إنّ الخلط بين مطالب الثورة والإعلان عن إقرار تعويضات لأسر شهداء الثورة من ناحية بإقالة النائب العام وتحجيم دور القضاء وتحصين القرارات الرئيس، أفسد بتركيبته البدائية على الرئيس دور حامي الثورة، بل حوله إلى (عشماوي) الثورة الذي يلوّح بمتابعة خصومه والوقوف لهم بالمرصاد؛ ولم يخطر بباله أنّ القضاء لن يسايره وسيتصدّى له كرجل واحد...
إنّ في التاريخ لعبر، هذا ما قاله الأوائل، فالرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسن أسقطه الإعلام في سبعينيات القرن الماضي وهو في أوج قوته ولم يشفع له ، ولم يقترف ما اقترفه جلالة الرئيس مرسي الذي ينادي الشعب برحيله ويطالب بإسقاطه. وفي التاريخ القديم لم يتوانى الثوار الفرنسيون من إعدام روباسبييار أحد رموز الثورة الفرنسية دون محاكمة، بعد أن شعر حلفاؤه قبل أعدائه بانحرافه عن مسار الثورة. فاعتبروا يا أولي الألباب...
--------
1) صالح المازقي. نظرية التّبعية بين القرآن الكريم وعلم الاجتماع، ص 121. الدار المتوسطية للنشر تونس، سبتمبر 2012
2) موقع: منتديات توننيزيا سات، مقال بعنوان: مبارك يفجّر قنابل خطيرة بتاريخ 12/11/2012
3) جريدة القدس العربي 25/11/2012
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: