في الذكرى التاسعة لوفاته: "علي عزت" بيجوفيتش والربيع العربي
حسن الطرابلسي ـ المانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6302
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ما هي علاقة "علي عزت" بيجوفيتش بالربيع العربي وهو الذي توفي يوم 19 اكتوبر 2003 أي قبل حوالي عقد من الزمان ؟ وما جدوى استحضاره في هذا الوقت؟
هل تكمن أهميته في أنه لعب "دور المجاهد والمجتهد، ودور الفارس والراهب " كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري؟
أم لأنه "أدرك أن للإسلام خصوصية متفرّدة لا يشاركه فيها دين آخر ووصفه بأنه وحدة ثنائية القطب... وهي الفكرة التي بنى عليها بيجوفيتش نموذجه التفسيريّ وطبقه على الإسلام فى كل جوانبه" كما يقول محمد يوسف عدس الذي قام بترجمة أهم كتبه "الإسلام بين الشرق والغرب"
أم لأنه كما اعتبرناه في مقال لنا سنة 2009 من "أصحاب الهمم العالية" لأنه بعث أمة وأحيى شعبا " فلقد جاء وشعب البوسنة يكاد يفقد هويته، وتنمحي حضارته، فجدد في البوسنيين روحا وأعاد للإسلام عزا" (الفجرنيوز، 18/09/2009)
يمكن القول أن كل تلك الأسباب مجتمعة تتوفر في علي عزت بيجوفيتش ويمكننا أن نظيف إليها أسبابا أخرى تجعل منه أحد الفاعلين الأساسيين في الربيع العربي أهمها:
التأسيس لمبدأيين مركزيين وهما التأكيد على الحرية كقيمة مركزية للإنسان وعلى إرسائه لبناء نظري وعملي لمبدأ التعايش والتوافق مع الآخر
ومما لا شك فيه أن المطالبة بالحرية والكرامة هي أهم الأسباب التي قادت ثوار الربيع العربي إلى التصدي لأنظمة الطغيان التي كانت سائدة وأسقطتها لأن الحرية قيمة مركزية للإنسان. وهي تصبح ملاذا يفر إليه الإنسان عندما تدلهم عليه الخطوب، ف"الحرية لا تعطى وإنما تؤخذ" كما يقول علي عزت في كتايه هروبي إلى الحرية (ص147)وهذا ما فعله ثوار الربيع العربي في ساحات الحرية في "القصبة" و"ميدان التحرير" و"بنغازي" و"صنعاء" وهو ما يواصلون رسمه بدمائهم الزكية اليوم في سوريا.
وتمثل الحرية قضية مركزية من القضايا التي تناولها علي عزت بالبحث. وهي عنده "ليست بالشيء الذي يفهم بذاته أو يفهم كقيمة، على الناس أن يطالبوا بالحرية كعقيدة أصيلة" (هروبي إلى الحرية، ص 156) ومن هنا فإن الحرية مرتبطة بالإنسان أساسا ولذلك فإنه لا يمكن فهمها إلا بفهم الإنسان وأصله، فهو يقول "قضية أصل الإنسان هى حجر الزاوية لكل أفكار العالم، فأية مناقشة تدور حول: كيف ينبغى أن يحيا الإنسان، تأخذنا إلى الوراء. حيث مسألة أصل الإنسان" (ص 47) من هذا النص يستنتج الدكتور عبد الوهاب المسيري أن "علي عزت" ينطلق في بحثه عن الحرية من السؤال المعرفى "ما هو الإنسان ..؟" بطريقة خاصة تجمع بين المجرد والمتعين. فالإنسان عند علي عزت "لايمكن أن يوجد إلا بفعل الخلق الإلهي" (ص 40). إن هذه العودة للبحث في أصل الإنسان تجعل علي عزت يقيّم الإجابات والتفسيرات التي قدمت حول هذا الموضوع لذلك نجده في مواجهة مباشرة، ووجها لوجه، مع النظريات المادية وأشهرها نظرية التطور ونظرية التفسير المادي للتاريخ.
وفي هذا الإطار يتناول بالتفصيل نظرية داروين ويثبت فشلها كنموذج تفسيري ويعتبر أنها قاصرة على تقديم الإجابة المقنعة عن الإنسان وهو في هذا التمشي يأسس لمنهج جديد لم يتعارف عليه داخل الكتابات الإسلامية التي راحت تنقض نظرية داروين من خلال تعارض نتائجها مع العلوم والحفريات الجديدة. ولكن "علي عزت" يتناولها من جانب آخر فيثبت قصورها وعدم صلاحيتها كنموذج تفسيري.
الإنسان عند علي عزت أعمق مما تحدثت عنه نظرية التطور التي تناولت فقط الجانب الخارجي للإنسان وحاولت تفسيره، فتناولت قدرته على تحسين امتلاكه للآلة وتطويره للإنتاج وبالتالي بنائه للحضارة. وأما الحياة والضمير والروح فلا وجود لها فلم تتناول بالبحث عن الإنسان في بعد المتعالي وبالتالي فإن "الجانب الجوّاني" أو ما عبر عنه علي عزت بمفهوم "التطلع إلى السماء" (ص 61) عند الإنسان لم يكن موضوعا لبحوثها. ولذلك فهي أهملت البعد الخلاق في الإنسان والذي تحدثت عنه الأديان، ولذلك فإنها تحد من حرية الإنسان التي هي القيمة الأساسية التي يتمع بها، فلولا الحرية لما كان الإنسان متعبدا ولذلك فأن "قضية الخلق هي قضية الحرية الإنسانية“ لأنه بدون فعل الخلق لا يستطيع أن يكون الإنسان حرا.
ويعتبر علي عزت أن اكثر ما تظهر هذه الحرية في الإسلام لأن الإسلام عنده " يُعنى بالدعوة إلى خلق إنسان متسق مع روحه وبدنه" (ص 36) كما أنه يعني "البحث الدائم عبر التاريخ عن حالة التوازن الجواني والبراني" (ص36) في حين أن أقصى ما قامت به الفلسفة المادية هو تفكيك "الإنسان إلى أجزائه التي تكونه" (ص 48) وبالتالي فإن الإسلام يغدوا كنموذج تفسيري أقدر على فهم الإنسان باعتبار أنه قائم على ثنائية أسماها "الوحدة ثنائية القطب" والتي نجدها في كل مبادئ الإسلام .
فالشهادتين التي يعلن بهما "الشخص اعتناقه للإسلام تُؤدى أمام الشهود" (ص 301) وذلك لسببين : الأول هو انضمام إلى جماعة روحية وهذا لا يحتاج إلى شهود لأنه مسألة بين الإنسان وربه وأما الثاني فلأن الشهادتيتن هما إعلان دخول إلى مجتمع جديد وإلى نمط حياتي جديد مع ما في ذلك من "تبعات اجتماعية وسياسية وقانونية" (ص 301) يجعل إعلانهما أمام شهود مسألة ذات مغزى كبير.
والصلاة، التي يعتبرها علي عزت، شفرة الإسلام (mot de passe) وسمته الأساسية، هي في جوهرها نشاط روحي، ولكن لا يمكن آداؤها بشكل صحيح إلا من خلال عمل مادي، وهو الوضوء والإتجاه إلى القبلة وتحديد أوقات الصلاة "حيث أنه لا صلاة بدون طهارة و لاجهود روحية بدون جهود مادية واجتماعية تصاحبها" (ص 293) وتقتضي هذه الجهود مثلا تحديد موقع الأرض في مدارها الفلكي حول الشمس.
والزكاة "وهي ، على قدر علمنا، أول ضريبة من نوعها في التاريخ" (ص 295)، تحتاج في آدائها إلى حساب دقيق. ويجد علي عزت الثنائية ذاتها في الصيام لأن "الصيام الإسلامي وحدة تجمع بن التنسك والسعادة بل حتى المتعة في حالات معينة" (ص 301) فالصوم "ليس مسألة شخصية تخص الفرد وحده، وإنما هو التزام اجتماعي" (ص301). كما ان الحج يمثل عنده "شعيرة دينية، معرض تجاري، تجمع سياسي.. إنه كل في واحد" (ص 301) إضافة إلى أن الحج يحتاج إلى معرفة بالمسافات والطرقات تتجاوز البعد التعبدي البحث. وهكذا دواليك فإن فرائض الإسلام تجمع بين ما أسماه علي عزت "الوحدة ثنائية القطب“ او كما يسميها الدكتور يوسف القرضاوي (الثنائية التكاملية).
وتعد الأشكال التعبدية تعبيرة هامة على قدرة الإنسان على الإختيار وتحمل المسؤولية وبالتالي فهي تعبيرة راقية عن الحرية. وهكذا فإن التفسيرات المادية التي أعادت موضوع الحرية إما إلى الصراع الطبقي أو إلى امتلاك الإنسان لعلم طور به كفاءته للسيطرة على الطبيعة ظلت قاصرة على الإحاطة بمفهوم الحرية. وبهذه النتيجة يلتقي "علي عزت" مع كارل ياسبرس إلذي أكد "أن الله والحرية لا ينفصلان "
وفي مستوى ثان نجد أن النظرية "البيجوفيشية" قائمة على التواصل والحوار مع الإخر وليس على الإقصاء والنفي، لأن "الإسلام يعني، عند بيجوفيتش، ان نفهم ونعترف بالإزدواجية المبدئية للعالم، ثم نتغلب على هذه الإزدواجية" (ص 33) فالإسلام ،عنده، "هو منهج و ليس حلا جاهزا " ولذلك فإن "الإسلام هو البحث الدائم عبر التاريخ عن حالة التوازن الجواني والبراني" (ص36) وفي لغة السياسة تعني هذه النظرية الدعوة إلى التعايش مع الأخر والوصول معه عبر الحوار إلى توافقات للوصول إلى قاعدة تكفل التعايش السلمي وتثمر تحولا للمجتمع. ولإبراز صحة نظريته يضرب مثلا دقيقا يدفع الشك حول فاعلية نظريته وجدواه ويقود إلى التحول المجتمعي السلمي ويتمثل هذا المثال في الوقْف الإسلامي. فالوقْف الإسلامي عند بيجوفيتش هو "ثورة هادئة" (ص 298) وعميقة الجذور "توفر الأمل في أن غايات إجتماعية معينة يمكن تحقيقها بدون عنف" (ص 299) ويساهم الوقْف الإسلامي في إعادة توزيع الثروة توزيعا عادلا ويقضي على الفقر .. إضافة إلى انه يمثل مؤسسة هامة تتصدى لهيمنة الدولة وتمنع تغولها وبالتالي تعتبر مؤسسة الوقْف الإسلامي ضامنا أساسيا لإستقلالية المجتمع المدني. وبهذه الصورة فإن عملية التحول التي يقودها الإسلام خالية من العنف والتخريب مقارنة بالثورة الشيوعية التى كرست العنف وحرب الطبقات، أو الثورة الفرنسية، عندما انحرفت مع روبسبيار، واعتمدت المقصلة كأداة لحسم الخلافات. أن ثنائية بيجوفيتش التكاملية تجعل الإسلام أكثر الأديان قدرة على التعايش مع الآخر والقبول به، لأن الثنائية عنده هي نوع من الحياة الإنسانية السامية، تتكامل فيها الثقافة والحضارة، وتعصم من الإلحاد والتطرف. فالإسلام يصنع إتساقا بين الإنسان ومجتمعه، وهذه الخاصية تجعل المسلمين أكثر استعدادا وقابلية للحوار مع الآخر والتواصل معه، وتجعل المسلم منفتحا على الآخر.
إن الحزب الإسلامي تبعا لهذه النظرية هو الحزب الذي لا يتنصل من إسلاميته وهويته الدينية ولكن ذلك لا يمنعه من الدخول في توافقات وتصالحات سياسية تخدم الصالح العام
وكما رأينا من خلال ما سبق أن النموذج التفسيري الإسلامي كما يقدمه بيجوفيتش مرن وله قدرة كبيرة على قبول للآخر ، فإنه يثبت أيضا وفي نفس الوقت أحقية الحزب الإسلامي في الحكم إذا كان هو صاحب الأغلبية في بلد من البلدان وتم الوصول إلى هذه النتيجة بشكل عادل ونزيه. إذ تذكر لنا المصادر أن عبد الناصر استفسر من صديقه "جوزيف تيتو" عن بيجوفيتش، فأجابه بأنه رجل أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين في مصر لأنه يطالب بأن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في أي بلد تكون لها الأكثرية فيه.
وهكذا فإن "علي عزت" يصبح في قلب المعترك من هذا الربيع العربي خاصة بعد فوز الإسلاميين في اول انتخابات حرة نظمت في كل من تونس ومصر أساسا. كما أن ثورة الربيع العربي أثبتت لنا صحة نظرية بيجوفيتش التفسيرية أكثر من سائر النظريات المادية. فمثلا لا نستطيع باعتماد النظريات المادية أن نقدم تفسيرا دقيقا ومقنعا للإنخراط المبكر لقطاع المحامين في الثورة التونسية، ولكننا لو اعتمدنا النموذج التفسيري "البيجوفيتشي" لوجدناه يقدم لنا الصورة الكاملة ويطلعنا على الأسباب العميقة لهذا الدور. فالمحامي وهو ينتمي إلى طبقة لا تشعر بالخصاصة المادية إضافة إلى الإمتيازات الخاصة التي يتمتع بها والتي يمثل انخراطه في الثورة تهديدا مباشرا لها على عكس العاطل عن العمل.
إن المحامي، الإنسان والثائر، تحرك "خارج الإطار المادي فثمة حيز للإنسان يتحرك فيه بحيث يمكنه الاختيار بين بدائل مختلفة، فيختار -مثلا- أن يتجاوز البرنامج الطبيعي الحتمي ويقوم بفعل قد يبدو غير عملي وغير مفيد من الناحية المادية، مثل أن يدافع عن كرامته أو يرفض الظلم.“ إن هذه التضحية كما يقول بيجوفيتش "تمثل ظهور مبدأ جديد بين والإنسان والحيوان. لكن هذا المبدأ مناقض لمبدأ المصلحة والمنفعة والحاجات. المصلحة حيوانية، أما التضحية فهى إنسانية" وهو بالضبط في اعتقادنا البعد الرائع و"الخلاق" بتعبير برجسون في سلوك المحامي الذي أسهم في الثورة، ولذلك يكون المحامي الثائر هو التعبيرة الأسمى للإنسان.
إن هذه المبادئ التي عرضناها والتي بسطها بيجوفييتش في كتبه، خاصة منها ، "الإسلام بين الشرق والغرب"، والتي مارسها كسياسي عندما قاد شعبه ضد عملية إبادة رهيبة كان حصيلتها أكثر من ثلاثمائة ألف شهيد بوسني، على مرأى ومسمع من العالم الحر، هو ما جعل بيكوفيتش يقاوم ويفاوض ويتفاعل مع هذا الواقع وقبل التوقيع على اتفاقية "دايتون" رغم ما فيها من ظلم لأنه قدر أنها تحفظ شعبه وهويته من الإبادة.
هذا الفهم العميق والأصيل للإسلام جعل علي عزت يعتبر منذ ثمانينات القرن الماضي أن الإسلام "دين مستقل من الناحية الأيديولوجية" (ص96) وهو ما جعله يبشر منذ ذلك التاريخ البعيد بأن "عملية الإستقلال السياسي والعقائدي للدول الإسلامية سوف تستمر" (ص36 ـ37) لأن ذلك عند بيكوفيتش "هو الوضع الطبيعي للإسلام في عالم اليوم" (ص37) وبالتالي فإن ما نراه الآن من محاولات دول الربيع العربي من بحث عن الإستقلالية وضع طبيعي وصحي بل هو بالضبط ما يطالب به علي عزت من خلال دعوته إلى أن يدخل الإسلام في ما أسماه "عصر المعضلات الكبرى" (ص 37) فيتحمل "الإسلام دوره كأمة وسط في عالم منقسم" (ص37) ويقدر بالتالي على بناء نهضته لأن" كل نهضة تبدأ بالشعور بالإحترام تجاه نفسها" كما يثبت "علي عزت" في كتابه هروبي إلى الحرية (ص165)
ولكن مع الأسف فإن "علي عزت" جاء في فترة انتشرت فيها نظرية صراع الحضارات وكانت أصوات الداعين إلى الحوار ضعيفة وغير مسموعة فَضَيع الغرب واروبا فرصة التفاعل مع فلسفة علي عزت وظل الغرب سادرا في تكبره وغيه، ولكن يجب على ثوار الربيع العربي أن لا يضيعوا فكر هذا العبقري الجهبذ.
-----------
ملاحظة:
النصوص المأخوذة من كتاب "هروبي إلى الحرية" أثبتنا مصدرها في المقال وأما بقية الشواهد فهي كلها من كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب"
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: