حسن الطرابلسي ـ ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8053
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
نيتشة (1844 ـ 1900) فيلسوف، أثار بسبب نقده العنيف والقوي الذي شمل تقريبا كل ما وصل إليه نتاج العقل الغربي آنذاك جدلا كبيرا، بدأ حياته تلميذا لشوبنهاور ومحبّا لفاجنر ومفكرا ضمن المدرسة العقلية الكانطتية وانتهى به الأمر إلى التمرّد عليها وعلى سلطة العقل وبالتالي على المدرسة الكانطية والمثالية الألمانية وعاد إلى التاريخ القديم فوجد في الإغريقية وخاصة هيرقليطس خير ممثّل له، وفي منهجية تبدو لأول وهلة متناقضة مع توجه الإغريقي اليوناني قاد نيتشة قارئه إلى أقصى الشرق، إلى زرادشت وفارس، ليستلهم من روح الشرق قراءته النقدية.
ويمكن أختصار جهد نيتشة النقدي في النقاط الأساسية التالية:
• ركز نيتشة على الجوانب اللاشعورية والإرادية للإنسان (ديونيسوس) على حساب الجوانب العقلية الشعورية (أبولو)، فهو يعتبر أن أبولو أي العقل كان في البداية في خدمة ديونيسوس، إله الخمر عند الإغريق القدماء وملهم طقوس الابتهاج والنشوة، ولكن مع الزمن بدأ العقل يفرض استقلاله تدريجيا وهو ما أدى إلى حالة من التنازع بينهما، قادت في النهاية إلى انفصال العقل عن الشعور. ولهذا قام بنقد الثنائية التقليدية كما طرحها ديكارت وكانط والتي تفصل الحياة عن الوجود، الذات والموضوع وتعتبر مع ديكارت أن الذات يمكن أن توجد مستقلة عن الموضوع وكذلك الموضوع يمكن ان يوجد مستقلا عن الذات، وقد أدى هذا التوجه بنيتشة إلى نقد المثالية، وخاصة المثالية الألمانية، التي تعقل الحياة وتنفي الوجود وأعلن بالتالي ثورة على الهيجلية.
• كما اعتبر نيتشة نقد اللغة هو العمل الرئيسي للفلسفة، فالتفكير عنده لغة تزييف الواقع.
• من ناحية اخرى نقد الأخلاق المسيحية والنفعية، وعادى الدين وآمن بالإلحاد لأنه كان يعتبر أن الله في المسيحية مثال لضعف إمكانيات التحرر والإنعتاق عند الإنسان. فكان لا بد لتحريره من إعلان موت هذا الإله.
• في بداية حياته الفكرية اعتبر نيتشة أن أعمال فاجنر الإبداعية يمكن أن تعيد إلى فكرة التصور والإرادة دورهما ولكنه بعد ذلك تخلى عن هذا الموقف واعتبر أن العلم يمكن أن يكشف للإنسان الزيف والحقيقة، عالم الحق وعالم الوهم، إلا أنه في ثمانينيات القرن التاسع عشر تراجع عن هذا التصوّر وقام بنقد معاصريه الذين حوّلوا العلم إلى عبادة جديدة.
• يضاف إلى هذا الجهد النقدي أن نيتشة يعتبر من خلال تعريفه للعدمية (النهيلية Nihilismus ) من أوائل الذين أكدوا على أن مشروع الحداثة الغربي فشل ومهد بذلك لمرحلة ما بعد الحداثة.
وهكذا شمل نقد نيتشة تفريبا كل نتاج الفكر الفلسفي حتى عصره ويمكن بالتالي أعتباره أول الذين تنبؤوا بسير العقل الغربي نحو الأزمة الشيء الذي مهد للقيام بمشاريع نقدية للفكر الغربي. فمهد نيتشة لهوسرل الذي تحدّث عن أزمة الوعي الأروبي، وشبنجلر الذي تنبأ بسقوط الغرب، كما مهد لدارسي الألسنية في نقدهم للغة والتفكير وفتح الباب لجاك دريدا وغيرهم كثير.
ورغم هذا الدور الهام لنيتشة في تاريخ الفلسفة إلا أنه، ومن الملفت للإنتباه، ظل في الثقافة العربية شبه مجهول. ويعود ذلك في اعتقادي إلى ثلاثة عوامل رئيسية وهي:
أولا موقفه السلبي من الدين ومناداته بنظرية موت الإله، التي طغت على سائر أفكاره، فحُشر في دائرة المغضوب عليهم ولم يتم التفاعل مع إنتاجه لدى النخب الإسلامية والمحافظة.
ثانيا الطريقة النقدية الحادة للنموذج الحداثي الغربي وهو ما جعل الحداثيين العرب لا يتفاعلون معه لأنه يقوض الأسس النظرية التي ينبني عليها انبهارهم بالغرب.
يضاف إلى هذين السببين عامل ثالث مهمّ وهو أن نص نيتشه صعب للغاية، فأسلوبه لا يخلو من الشاعرية والرمزية مما جعل من الصعوبة بمكان الوقوف على أبعاد خطابه الأساسية باللغة الألمانية فما بالك بالترجمات العربية. هذا الإشكال اللغوي جعل معاصريه من المفكرين الألمان ينظرون إليه على أنه باحث فيلولوجي وليس فيلسوفا إلى أن قامت الفلسفة الفرنسية باكتشافه وبعدها ظهرت دراسات كبار الفلاسفة الألمان عن نيتشة كياسبرز ، وهايدجر، الذي اعتبر نيتشة آخر ممثل للميتافيزيقا، وفاتيمو الإيطالي الذي عارض قراءة هايدجر، ومؤخرا أعلن سلوتردايك أن نيتشة أسس حقيقة جديدة وإنجيلا جديدا.
هذه العوامل مشتركة دفعت بالمثقف العربي إلى البحث عن غيره وظلت الدراسات حوله في مجملها غير معمقة.
ويمكن اعتبار الدكتور عبد الوهاب المسيري، في مشروعه النقدي "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" أحد المفكرين العرب الذين حاولوا تقديم قراءة جادة لفكر نيتشة. كما أن قراءة الباحث المغربي محمد أندلسي المعنونة ب"نيتشة وسياسة الفلسفة" والذي عارض فيها قراءة هايدجر تعتبر من الدراسات الجدية.
ولسائل أن يسأل ما الذي يجعل من نيتشة مهما في زمن الثورات العربية والتي تبشر بميلاد عهد جديد خاصة بعد الإطاحة بأعتى الدكتاتوريات العربية في تونس ومصر؟
إن أهمية نيتشة تكمن، في اعتقادي، أساسا في مطرقته النقدية التي مهدت لنقد الوعي الأوروبي ودفعته إلى مراجاعات كبيرة، وهذا بالضبط ما نحتاجه اليوم في زمننا العربي الجديد والمنفتح على المستقبل. ولذلك فاعتماد أليات نيتشة كمنهجية تفسير تجعلنا نرفض مشاريع الذين اختزلوا الإحياء والنهضة في مشاريع تبسيطية، راوحت بين الإنغلاق والذوبان، فأضاعوا رحابة الإسلام ووسطيته وخطابه المفتوح، كما تسفه قراءة حداثويين رأوا في الغرب النموذج التنموي الوحيد للمستقبل والممكن للدخول في المعاصرة.
إن الجدل الذي يدور في تونس ومصر من أجل بناء عصر جديد والذي يمكن اختصاره بأنه جدل في الأصالة والحداثة هو الذي يشجعنا على المنهج النقدي للذات وللآخر حتى تتم الإجابة عن سؤال إي مستقبل عربي وأي غد مشرق نطمح إليه ؟.
وتطلب الإجابة على هذا السؤال توفر آليات تحليل جريئة وقوية ولذلك فإن نيتشة يمثل أحد أفضل مدخل لجدل جدي حول الحداثة والأصالة للخروج من مأزق ثقافة الخنادق التي تعني "إن لم تكن معي فأنت ضدي بل عدوي" إلى ثقافة أخرى تنبني على التوافق وقائمة على اعتبار أن من يختلف معي فهو ليس ضدي أو بالضرورة عدوي ويجوز لي بالتالي اتهامه بالخيانة والعمالة. إذا هو تبشير بثقافة تعبر أن يختلف معي فهو غيري المختلف عني ما دام يجعل مصلحة الوطن هدف أساسيا لفعله، ومن ثمة فإن هذا "الآخر المختلف" يكمن التحاور معه وبناء توافقات وإتفاقات تخدم مصلحة الوطن سواء في تونس أو في مصر أو في غيرها.
وطبقا لذلك يمكن تجاوز المعادلة المقيتة القائمة على سياسة الخنادق التي سيطرت على الفكر العربي والتي يمكن اختصارها في لفظتي "إما …وإما". فإما "شروق من الغرب" وإما "غروب من الغرب"، إما الحداثة التي تعني الذوبان والعمالة وإما الأصالة التي تعني السلفية الجامدة والمنغلقة. إن الحوارات القائمة على هذه الثنائية لم تثمر ولا يمكن ان يثمر نتائج إيجابية.
أما وقد انتصرت الثورة في تونس وفي مصر وهما البلدان اللّذان بدأ فيهما جدل الأصالة والحداثة منذ بداية النهضة العربية مع خير الدين باشا والأفغاني وعبده وغيرهم … فإن هذا الحوار الذي نبشر به لن ينطلق بالتالي من فراغ وإنما سيجد له رصيدا معرفيا مما يساعده على السرعة في حسم عدد من القضايا المهمة العالقة مثل قضية تصور شكل الدولة الحديثة وموقع الإسلام والحداثة فيها ، دور المرأة بعد الثورة خاصة بعدما أثبتت المرأة مشاركة فعالة في الثورتين، دور الأقليات سواء منها الدينية أو العرقية أو حتى الفكرية الخ...
وهكذا فإن جرأة نيتشة في نقده للأنساق السائدة وللحداثة تشجعنا على بناء وعي جديد يقوم على ما أسميه " تأسيس ملكة الفهم" التي تفكك الخطاب العربي القائم على الإستبداد، شر المفاسد كما قال الكواكبي وتبني ثقافة „التعدد التوافقي“. لأن هذا التفكيك يدعوا إلى تأسيس فلسفة للحياة، فلسفة للفعل ترفض اليأس والتشاؤم "الشوبنهاوري" والذي أدى إلى سيادة روح الإنهزامية بين قطاع من المثقفين العرب الذين فاجئتهم الثورة وأربكتهم حركة الجماهير السريعة والمتدفقة والتي تنبض حياة أدت إلى إعلان موت إلاه الخوف والخنوع والإستسلام في ذاتنا العربية وإعلنت ميلاد فلسفة للفعل تحرر الدين من التوظيف والإحتفالية وتنظر إليه في انفتاحه وعمقه، كما تحرر الحداثة من انغلاق العلمانيين وتدعوهم إلى التعقل في استعمال العقل.
إن هذا الحوار يجب أن يكون مفتوحا مرنا حتى لا يسير بنا إلى العدمية التي تقود إلى الفشل واليأس، التي تحول بيننا وبين الخروج من عنق الزجاجة لنبدأ عملية إحياء لعلوم الدين تنقذ العباد من الضلال وتوصلهم إلى ذي العزة والجلال طبقا لمنهجية تفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: