تونس: إعادة اكتشاف
خواطر حول زيارتي لتونس بعد عقدين في المنفى
حسن الطرابلسي - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9331
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يسعد موقع "بوابتي"، إنضمام الأستاذ حسن الطرابلسي للمساهمين بالنشر بموقعنا، وحسن الطرابلسي قيادي قديم في الإتحاد العام التونسي للطلبة وعضو بحركة النهضة، قضى عقدين من الزمن في الغربة مطاردا من النظام البائد.
محرر موقع "بوابتي"
--------------
بشعور مزدوج بالحب والحنين، بالرهبة والشوق، سافرت يوم السبت 5 مارس /آذار 2011 إلى وطني تونس بعد عشرين سنة قضيتها في المنفى بألمانيا. وقد صحبني في رحلة العودة هذه ابني ياسين ذو السبع سنين والذي لم يتيسر له زيارة تونس من قبل.
كانت رحلتنا هي أول رحلة من مطار ميونيخ إلى مطار النفيضة الدولي، الذي تشرف عليه مؤسسة إستثمارية تركية. وكان تعامل الموظفين معنا في المطار راقيا وحضاريا.
إستقبال تاريخي:
بمجرد أن تجاوزت بوابة مراقبة الجوازات حتى رأيت أمي لأول مرة بعد عشرين سنة، إذ لم يتيسر لها زيارتي لأنها كانت محرومة طيلة هذه الفترة من الحصول على جواز سفر، ورغم أن السنين قد أثرت فيها وفيّ إلا أني عرفتها وعرفتني، فجريت إليها فضمتني إليها بعيون دامعة، وبمجرد أن رآني بقية الأهل حتى ارتموا علي احتضانا وتقبيلا.
وكان اللقاء حارا ومثيرا، التقت فيها الزغاريد مع العويل، الضحكة مع الدمعة.
في هذا اللقاء سلم علي كثير من الشباب لا أعرفهم ولكنهم كانوا يقدمون أنفسهم، على أني عمهم أو خالهم أو أحد أقاربهم، مما جعلني لا أستطيع أن أذكر أسماء الكثير منهم وأخطأ فيها، ولكنهم كانوا يقدرون ذلك ويستقبلونه برحابة صدر.
بعد هذا اللقاء التاريخي توجهت قافلتنا نحو بيتنا الذي يقع في منطقة بئر بن عياد التي تبعد خمسة وعشرين كيلومترا شمال غربي مدينة صفاقس. وصفاقس هي الولاية الثانية في الجمهورية التونسية ويصل عدد سكانها إلى حوالي 900 ألف نسمة. وهي مدينة جميلة اعتبرها الروائي الأنجليزي رونالد فايربانك أجمل مدينة في العالم، فهي تجمع بين الجانب التاريخي والصناعي. ويشتهر أهلها عند التونسيين بالذكاء والنشاط والتوفير.
في حدود الساعة الخامسة مساء وصلنا إلى البيت لنجد عددا أكبر من المستقبلين منهم بقية أفراد العائلة الذين لم يتيسر لهم المجيئ إلى المطار. وقضيت بقية اليوم في استقبال الزوار والمهنئين. ولما غادرنا آخر الزوار اجتمعت العائلة في جلسة ملؤها الدفئ والحنان وتواصلت السهرة إلى ساعة متأخرة من الليل.
لما كان وصولي يوم السبت مساء بادرت يوم الأحد منذ الصباح الباكر إلى زيارة المقبرة حيث يرقد والدي الذي توفي سنة 2008 باعتبار أن زيارة القبور من الأمور المستحبة لأنها تذكر بالموت والآخرة للإتعاظ وقد روى الأمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور أهل البقيع ويقول: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية.“ ثم تلوت ما تيسر من القرآن ودعوت لوالدي بما شاء الله من الأدعية، وقد صحبني في هذه الزيارة أخواي رضا وعلي وابني ياسين.
بعد ذلك عدت إلى البيت لأقضي يوم الأحد في منزلنا مع العائلة في استقبال الزوار والمهنئين.
ولما كان الإنسان بطبعه يحن إلى مراتع الصبا والطفولة كما يقول ابن الرومي
وحبب أوطان الرجال اليهم*** مارب قضاها الشباب هنالكا
اذا ذكروا اوطانهم ذكرتهــم*** عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فإني بادرت يوم الإثنين، قبل أن تبدأ الزيارات، بجولة في المنطقة وفي الأراضي الزراعية المحيطة بها.
وقد اصطحبي في هذه الزيارة ابني وأخي الأكبر أحمد وابنه محمد، وهو مهندس بناء يرأس مشروعا كبيرا لمؤسسة بناء في الجماهيرية وقد عاد إلى تونس فبل أيام من وصولي بعد اندلاع ثورة ليبيا ونجاه الله بأعجوبة من اللجان الثورية الذي افتكوا بطاقة هاتفه النقال.
في حدود منتصف النهار عدنا إلى البيت لنجد بعض الزوار في انتظارنا حيث سلمنا عليهم واحتسينا بعض كؤوس الشاي التونسي.
مما أثار انتباهي في هذه الجولة أن المنطقة رغم تزايد عدد سكانها لم تشهد في مستوى البنية التحتية اي تحسن بله أي تغيير يذكر.
فالمدرسة الإبتدائية، التي درست فيها أثناء طفولتي، لم يتغير فيها شيء، سوى أنه تمت إحاطتها بسور حجري.
كما أن المستوصف الوحيد في المنطقة والذي يغطي احتياجات دائرة سكانية تتجازوز مساحتها خمسون كلم مربعا لم يتغير فيه شيء ولا يزال يزوره طبيب واحد مرة واحدة في الأسبوع وهو ما يراكم المشاكل الصحية ويعقدها لدى المتساكنين الذين أصبحوا يطالبون بعد الثورة بإنشاء مستوصف جديد يخفف كثيرا من أعباء التنقل خاصة على النساء الحوامل والأطفال الذين قد تضطرب عمليات تلقيحهم.
أما الطرقات، فحدث ولا حرج، فهي بدلا من أن تتحسن ازدادت سوءا، إذا استثنينا الطريق الرئيسية الرابطة بين تونس وسوسة وصفاقس والمقرر ان يتواصل تعبيدها باتجاه قابس لتصل إلى الحدود الليبية التونسية وهي تعتبر النقطة الوحيدة المشرقة في عالم الطرقات.
كما لاحظت أن الماء يمثل مشكلة حقيقية لأن المنطقة تفتقد لمحطة لتوزيع المياه على السكان مما جعل الأهالي يعتمدون أساسا على المواجل والفسقيات في توفير الماء الصالح للشراب ولا يخفى ما في هذه الطريقة من خطر لأنها تعتمد على نزول المطر ولذلك فإن الجهة تعيش في سنة الجفاف مشكلة مياه حقيقية، وقد حاول بعض الموسرين حل هذ المشكلة بطرقهم الخاصة حيث قاموا بحفر المواجن والفسقيات الكبيرة وزودوها بمحرك آلي يوزع المياه في كامل البيت. واما سائر الناس فهم ينتظرون المطر.
وفي مستوى أخر فأني لاحظت أن أغلب السكان يمتلكون مسكنا وقطعة أرض تحيط به تزرع فيها عادة بعض اشجار الغلال وبعض الخضروات وبعض الأزهار كالورد والياسمين وغيرها التي تنشر عبيرها على المكان فتزيده روعة وجمالا، حتى أن ابني المتعوّد في ألمانيا بالسكن في المدينة والعمارات وضيقها، سألني إن كان كل تونسي يمتلك فيلا وحديقة خاصة به، ورغم ما في هذا من أهمية إلا أن الناظر الحصيف يلاحظ أن هناك صعوبات مالية يعاني منها المتساكنون.
وهنا أجدني بعد هذه الملاحظات أشير إلى شيئ خطير وهو أن الدولة التي لم تقم بأي مجهود تنموي في منطقة متسعة إلا أن أغلب من تحاورت معهم أكدوا لي أنهم لا يعرفون الدولة إلا عندما يأتي أعوان العمدة أو أعضاء الشعب الدستورية لجمع التبرعات لصندوق 26/26 أو لإلزامهم على شراء انخراطات في الحزب الحاكم قبل الثورة "التجمع الدستوري الديمقراطي"والذي تم حله وتصفية كلّ أملاكه بأمر قضائي يوم 8 مارس / آذار 2011، والويل ثم الويل لمن لا يستجيب، فإنه يتهم بالتآمر على أمن الدولة، وهذا ما جعلني أتذكر وصف الأديب السايسي التونسي الطاهر العبيدي في كتابه "حفريات في ذاكرة الوطن" عندما يصف ساخرا برامج الدولة التي لا يعرف المواطن منها “سوى بطاقات الشعب الدستورية وبرنامج تحديد النسل” ص 26
ورغم ما أشرت إليه من أمثلة للخلل التنموي نظرا لفقدان الدولة لدورها وتهميشه طيلة العهود الماضية، فإني شعرت بسعادة كبيرة عندما وجدت أن الجانب الثقافي والسياسي متطور جدا لدى عموم المتساكنين، ذلك أن الحوارات السياسية والثقافية التي استمعت إليها وجدت فيها نضجا كبيرا وفهما دقيقا لما يدور في الكواليس. إضافة إلى أني كنت أسأل الشباب الذين أتوا لتهنئتي بالعودة، والذين لا يعرفونني إلا من خلال السماع، فإني لاحظت أن العديد منهم خريجون جامعيون أو حاصلون على شهادة الباكالوريا، أو أن العديد منهم أنهى مراحل دراسية مهمة أو حاصل على تخصص مهني معين. ولكن مع الأسف علمت ان العديد منهم ليس له شغل مما جعلهم يبحثون عن مهن أخرى لتأمين لقمة العيش.
صعوبات وآمال
يوم الثلاثاء 08/ 3/ زرت مدينة صفاقس وقد رافقني في هذه الجولة ابني وابنَيْ أخي أحمد: محمد ونجيب وكان أول شيء فعلته هو تغيير بعض العملة فتوجهت إلى أول بنك وجدته وبعد التحية سلمت الموظفة المبلغ الذي أردت صرفه فلاحظت أنها تبتسم فاستفسرت عن ذلك، فقالت : لا شيئ، فقط أثار انتباهي الإسم العائلي
قلت : أفهم ما تقصدين ولكني لست منهم فأنا كنت في المنفى منذ عشرين سنة، فسألتني عن السبب، وأعلمتها أني كنت في بداية تسعينيات القرن الماضي طالبا بكلية الآداب وكاتبا عاما للإتحاد العام التونسي للطلبة ونائبا للطلبة وعضوا بالمجلس العلمي للكلية ومنتميا لحركة النهضة الإسلامية.
فالتفتت إلي بتطلع وقالت أنها هي الأخرى درست في نفس الكلية وفي نفس الفترة.
وتحدثنا عن الكلية أنذاك ثم سلمتني التوصيل لأستلم ما تيسر لي.
وظلت طيلة الوقت تنظر إلي ولم أكن منتبها لذلك فنبهني محمد إلى ذلك فعدت إليها وسألتها بأدب عن ذلك فقالت إنها تذكرتني عندما كنت أسيّر الإجتماعات العامة في الكلية وفعلا فلقد تذكرت أنا الآخر بعض ملامحها وعاد بي المشهد إلى الوراء عشرين سنة خلت.
بعد أن استلمت العملة التونسية تبينت جهلي الفاضح بها مما جعل نجيب يشرح لي الفرق بينها.
وبعد ذلك قمنا بجولة في المدينة العتيقة وما فيها من أسواق عريقة ومساجد تاريخية أهمها المسجد الكبير وصلينا الظهر في مسجد سيدي عبد المولى حيث كنت قبل أن أغادر تونس أزوره كلما سمحت الظروف لأتعلم تلاوة القرآن على يد المرحوم الشيخ علي الهنتاتي
لاحظت ان أسواق المدينة عامرة بالخضروات والغلال، حتى أن الموز الذي يعتبر عند التونسين سلعة راقية، متوفر بشكل ملفت، كما لاحظت أن الأسعار في العموم مقبولة. ولما سألت أخي عليا، وهو رغم شهائده الجامعية العالية حرمه رجال الأمن والمخابرات في العهد البائد وعلى رأسهم نجيب بوغريو من الشغل في القطاع الحكومي، مما اضطره للعمل في القطاع الخاص كفنّ سام في قيس الأراضي، وأيضا أبن أخي محمد مهندس البناء فإنهما أكدا لي أنه قبل ثورة 14 يناير/جانفي 2011 كان الوضع مختلفا تماما، فلم تكن الخضر والغلال متوفرة على هذه الصورة.
ولما قمت بالبحث عن السبب تبين لي أن ذلك يعود إلى لوبي إقتصادي مرتبط بالرئيس المخلوع وأصهاره يحتكر البضاعة ويوزعها بقدر معين ليتمكن من تحديد الأسعار والتحكم في السوق.
ولقد أعجبني السوق غير الرسمي الجديد أمام "بباب الجبلي" وهو الباب الشمالي لمدينة صفاقس فأردت أن ألتقط له بعض الصور. ولكن بمجرد أن بدأت التصوير حتى لاحظت انزعاجا من التجار وسمعت منهم كلمات جارحة فعدلت عن التصوير وانسحبت بسرعة من المكان واكتفيت بصورتين اثنتين.
ويبدو أن الناس لا تزال تخشى من عودة الرقابة التي ضاقوا منها ذرعا وهو ما جعلني اتفهم هذا الإنزعاج والقلق.
بالرغم من أني ذكرت في بداية المقال جمال مدينة صفاقس إلا أني مع الأسف لاحظت أن هذا الجمال تم تشويهه نظرا لتكاثر الأوساخ وعدم قيام إدارة البلدية بالتنظيف على الشكل الكافي مما يجعل الملاحظ يرى كثيرا من الأوراق المتناثرة وبقايا قراطيس السجائر وغيرها في كل مكان.
ولما أبديت امتعاضي أعلمني بعض الأصدقاء أن السبب يعود إلى إدارة البلدية المتهمة بولائها للتجمع الدستوري الديمقرطي، والتي لم تكن تركز على نظافة المدينة رغم ميزانية البلدية الكبيرة، إضافة إلى قضايا أخرى أثارها الباحث محمد الطرابلسي منها "إضراب أعوان البلديات بفعل وضعياتهم الإجتماعية الحرجة" وهو ما جعله يتخوف من "كارثة بيئية تهدد المدينة" في مقاله في الحوارنت بتاريخ 1/4/2011.
ولعل هذا ما أغضب السكان على آداء هذه الإدارة وعلى غيرها من الإدارات المرتبطة أساسا بالحزب الحاكم سابقا ودفعهم، بعد نجاح الثورة، إلى ملاحقة العديد من ممثلي الحزب القديم وشعبه والعمد نظرا لتورطهم في قضايا الفساد من الرشوة والسرقة وغيرها.
ولم يسلم من ذلك عمدة منطقتنا فلقد لاحقه الأهالي مما اضطره إلى الهرب وترك مكتبه والتجأ إلى مكان آخر. ولقد عرف هذا العمدة بتلقيه الكبير للرشوة والجوسسة على المواطنين وتغذيته للنزاعات بينهم، ومع الأسف كان لعائلتي النصيب الأكبر من محاولته فرض سلطاته فلقد حرمت العائلة لسنوات طويلة من الحصول على الوثائق الرسمية وقام بالتجسس عليها وابتزازها وتهديد أفراد العائلة بالأمن السياسي إذا لم يشتركوا في الحزب الحاكم.
وما لفت انتباهي اختفاء الأمن من الشوارع وحل محله الجيش فأصبحت عرباته متواجدة في أهم النقاط والتقاطعات الهامة مظهرا عاديا في المدينة فأنت تجدهم أمام مقر المحافظة أو المستشفى الجامعي أو غيرها إلاّ أن تواجد عربات الجيش لا يثير قلق المواطنين كما كان يثيرهم تواجد سيارات الأمن العمومي قبل الثورة.
كما لاحظت أن شرطة المرور لا تمارس عملها بشكل كامل بل بشكل جزئي، فشرطة المرور لم تعد تلقى الإحترام من مستعملي الطريق والسائقين، فشرطي المرور لا يقوى على إيقاف سيارة حتى ولو شاهد مخالفة قانونية. ولقد رأيت ذلك بأمّ عيني في أثناء تنقلي في شوارع مدينة صفاقس إذ رأيت أحد سائقي السيارات يقود سيارته في الإتجاه المعاكس لحركة المرور وعون المرور رآه ولكنه لم يفعل شيئا، بل على العكس ابتسم له، ثمّ أحنى رأسه وغير مكانه. ولقد كان هذا المشهد مفزعا ومثيرا بالنسبة لي، فلقد أعطاني صورة جديدة عن عون الأمن لم أكن أعرفها من قبل. فما حفظته ذاكرتي عن عون الأمن أنه إذا وقف في الطريق فإنه كان يعتقد نفسه ملك الطريق وأنه لا قوة فوق قوته وأن السائق، في أغلب الحالات، لا يمر إلا بعد أن يدفع له ما يرضي طمعه وجشعه. ولكني اليوم لا أجد لتلك الصورة شيئا.
طبعا لا بد أن تسمح هذه الوضعية لبعض الإنتهازيين من استغلالها فتراهم يتوقفون بسياراتهم أين شاؤوا، وكيف شاؤوا، ولكن من الملفت للإنتباه أن هناك متوطعون يذهبون إلى مثل هؤلاء ويطلبون منهم التزام القانون وإحترام الطريق لإبراز وجه مشرف للثورة التونسية. ومما يثير دهشتي أن هذه الطريقة تنجح بشكل كبير فيعتذر ذلك المخطئ ويحول سيارته.
وهكذا يتبين لي أن النفوس لا تملكها بالسيف والقهر وإنما تملكها بالحوار والتواصل وإبراز قيمة الفرد والإنسان.
ولم يتجسد هذا البعد الأخلاقي فقط في هذه الحادثة وإنما لاحظت أن الصبغة الأخلاقية قد أصبحت سمة بارزة تراها في كل مكان فلو حدث أن ضايقك أحد في الشارع تحت وطأة الإزدحام مثلا فإنك تسمع الكثير من كلمات الإعتذار وطلب العفو.
ولقد أثارتني هذه الروح الأخلاقية المفعمة وسألت عن مصدرها، فأعلمني كل من سألته أن هذه الروح الجديدة هي من بركات الثورة.
شخصيات ومواقف
رغم أن زيارتي لتونس كانت قصيرة ولكن الله بارك فيها فيسر الله لي الإلتقاء مع عدد مهم من الشخصيات الفكرية والسياسية والعلمية والدينية ممن يتجاوز حضورها صفاقس ليكون لها إشعاع وطني وعالمي.
وكان أهم هته الشخصيات عالم الرياضيات والفيزياء التونسي الشهير الدكتور المنصف بن سالم، وقد كنت حريصا على اللقاء مع الدكتور بن سالم لأسباب عديدة أهمها:
ـ أني أحترمه كثيرا باعتباره عالما عاملا ومجاهدا جمع بين العلم والعمل
ـ أنه تعرض طيلة العهد البائد إلى صنوف متعددة من الإبتلاء والتعذيب فسجن وعذب ووقع تحت المراقبة الإدارية وحوصر في رزقه وشغله بعد أن أطرد من كلية العلوم بصفاقس التي يعتبر المؤسس الحقيقي لها وحرم لفترات طويلة من كل وسائل الإتصال كالهاتف والإنترنيت.
ـ أن الرئيس المخلوع كان يرى فيه المنافس الحقيقي له لما يتمتع به من قبول ليس فقط لدى الإسلاميين بل بين غيرهم من أطراف وطنية أو دولية ولعل هذا ما يفسر محاولات الطاغية تديمره والقضاء عليه.
ـ كما أني زرته سنة 1989 بعد خروجه من السجن في إطار "المجموعة الأمنية" وكنت يومها صحبة عدد كبير من الأصدقاء بحيث لم أستطع الإستفادة من تلك الزيارة كثيرا ولذلك حرصت هذه المرة على أن يكون الموعد يسمح بالحديث دون إزعاج.
وهكذا اتصلت به يوم الأربعاء 9 مارس وأنا أمني النفس بالظفر به وفعلا فلقد حصلت عليه فدعاني إلى بيته حيث استقبلني وابن أخي محمد الذي كان يرافقني.
كان الحوار معه ممتعا ومشجعا فالدكتور بن سالم بعد أن يروي لنا طرفا قليلا مما تعرض له يذكر أن التونسيين كادوا أن يصلوا إلى مرحلة اليأس من حصول أي تغيير ذلك أن بن علي أحكم قبضته على البلاد والعباد ولكن الله أراد غير ذلك وهنا يتلوا الدكتور بن سالم قول الله عز وجل في سورة يوسف: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين} [يوسف:110] ليخلص إلى القول بأن البلاد نجت من الهاوية.
وفي تشخيصه للمشهد التونسي قبل الثورة يعتبر الدكتور بن سالم أن تونس كانت تحت سيطرة لوبيات ثلاث:
لوبي سياسي بقيادة بن علي شخصيا، ولوبي إقتصادي تحت سيطرة أصهاره أساسا، ولوبي إداري جمع الكثير من الإنتهازيين والمتملقين الذين دفعوا رشاوى عالية للوصول إلى ما وصلوا إليه أو بانتمائهم للحزب الحاكم من أجل تحقيق مآرب خاصة. ويعتبر الدكتور بن سالم أن الثورة نجحت في إسقاط اللوبي السياسي والإقتصادي ولكن اللوبي الإداري لا يزال متمكنا من البلاد. وليثبت صحة كلامه يذكر مثالا من تجربته الشخصية فلقد التقى بوزير التعليم السابق في الحكومة المؤقتة الأولى والذي استقبله بحرارة وأعلمه أنه يرحب بعودته إلى الجامعة.
ولما عاد الدكتور بن سالم إلى صفاقس لم تصل ورقة التعيين التي أمضاها الوزير إلى الإدارة في صفاقس بل إنها فقدت ولم يعثر عليها مما عطل كل شيء.
في هذا اليوم كان لي موعد آخر مع أحد أصدقاء الدراسة الأخ عبد العزيز غربال ولما وصلت إلى مكان الموعد مبكرا وعلمت أن الأخ عبد العزيز سيتأخر بعض الشيء قررت أنا ومحمد أن نزور مقر حركة النهضة الجديد الذي تحصلنا على عنوانه قدرا من أحد الإخوة.
لما طرقت الباب فتح أحد الإخوة وأطل برأسه وسألني ماذا أريد ؟
فلما رأيت ما عليه من حذر وحيطة قدمت له نفسي بأني عائد من ألمانيا بعد عشرين سنة من المنفى بسبب انتمائي لحركة النهضة، عندها فتح الباب وسمح لي بالدخول.
لما دخلت وجدت المكتب خاليا من أي أثاث ويبدو أن ادارة الحركة في الجهة قد استلمته في ذلك اليوم أو في الأيام الأخير ولكني وجدت الكثير من الإخوة توزع بعضهم في شكل مجموعات صغيرة تتناقش وأما البعض الآخر فكان مشغولا بتحديد بعض القياسات يبدوا أنها تحاول دراسة المكتب ووضع تخطيط له فبل أن تأتي المكاتب وغيرها من التجهيزات وقد اصطحبني أحد الإخوة في جولة تعريفية بغرف المكتب وشرح لي أسباب اختيارهم للمكان.
وبينما نحن في نقاش إذ دخل أحد الشيوخ يرتدي الجبة التونسية فأحاط به مجموعة من الإخوة يسلمون عليه ويستشيرونه. ولما لاحظت الإهتمام بهذه الشخصية سألت عن اسمه فقيل لي إنه الشيخ الحبيب اللوز، أحد الشخصيات المهمة في حركة النهضة وعضو الهيئة التأسيسية بها، ولم تكن بيني وبين الشيخ اللوز معرفة شخصية سابقة ولكني كنت أعرف قدره وموقعه وكنت حريصا على اللقاء به ولكني لم أكن أعرف كيف أتصل به، فإذا بإرادة الله تسوقه إلي، فاستأذنت من الإخوة وتوجهت إليه وصافحته وقدمت له نفسي وبعد حوار قصير سألته عن تقديراته للوضع بالبلاد وعن تصوراته للمستقبل.
ورغم أنه كان له موعد آخر إلا أنه أعطاني صورة عامة عن البلاد وعن الحركة اتسمت في عمومها بالإيجابية وأن البلاد تمر بمرحلة تاريخية هامة وأنه يجب العمل بجد حتى لا تحدث انتكاسة للثورة ثم استأذن الشيخ اللوز وخرج وعدت إلى الحوار مع بعض الإخوة التواجدين بالمقر وقد تعرفت فعلا على البعض منهم.
وفي هذه الأثناء اتصل بي الأخ عبد العزيز وأعلمني أنه وصل ويريد ان يعرف مكاني فلما اعلمته به قال انتظر فسوف آتيك هناك.
بعد سلام حار خرجنا من المقر وتوجهنا إلى مقهى وتجاذبنا اطراف الحديث وتذاكرنا أيام الدراسة
وعبد العزيز هو صديق منذ أيام كلية الآداب وعندما دخلت أنا ومجموعة من الإخوة في سنة 1991 في مرحلة الإختفاء كان عبد العزيز هو خيطنا الوحيد، فيما أعلم، الرابط لنا بالعالم الخارجي فكان يزورنا تقريبا مرة في الأسبوع ليأتينا بآخر الأخبار ويزودنا بما شاء الله من المواد الغذائية
ولكنه اعتقل وتعرض لتعذيب شديد أشرف معه على الموت إلا أنه صمد ولم يقدم عنوان سكننا، وقد بدات بعد اعتقاله مباشرة رحلة البحث عن طريق للخروج من تونس ويسر الله لي الخروج عبر طريق طويل بدأ من تونس إلى ليبيا ثم مالطا ثم النمسا لأصل إلى ألمانيا في 23 جويلية 1992 حيث قدمت هناك اللجوء السياسي وأتممت دراساتي الجامعية وواصلت نشاطي السياسي والثقافي حتى سقوط بن علي
وفي يوم الجمعة 11/3 أديت صلاة الجمعة في مسجد اللخمي حيث استمعت إلى خطبة الشيخ رضا الجوادي الذي كان ممنوعا من الخطابة في عهد الرئيس المخلوع وبعد نجاح الثورة طالب رواد المسجد به إماما جديدا له. ولئن طالب المصلون بعودة الشيخ رضا الجوادي إلا أن هناك أئمة آخرون أطردهم المصلون لأنهم حادوا بالمساجد عن دورها وجعلوها بوقا من أبواق السلطة فلفضتهم الجماهير بعد الثورة كما تلفظ الحية جلدها.
وقد طالب الشيخ الجوادي المسلمين بالإنتباه والمحافظة على مبادىء الثورة وعدم السماح بالإرتكاس إلى الماضي كما طالب باحترام الهوية العربية الإسلامية للبلاد وحمل في خطبته على العلمانية وبين تعارضها مع الإسلام كما دعى المسلمين إلى عدم الفصل بين الدين والسياسة وضرورة الإهتمام بهذه المواضيع والنقاش فيها وعدم تكرار خطأ الجدود الذين نجحوا في قيادة حرب التحرير ولكنهم بعد خروج الإستعمار سلموا البلاد لقيادات لا وطنية قادتها إلى الهاوية. ومن جانب آخر طالب الشيخ الجوادي الإئمة أن يطوروا من خطابهم ليرتقي إلى تناول قضايا أساسية تهم المسلمين وعدم حصر الإسلام في دائرة الحيض والنفاس وقضايا القبض والسدل. (لمزيد الإستفادة يمكن العودة إلى مقال لنا حول هذه الخطبة بعنوان: مسجد اللخمي يستقبل الشيخ رضا الجوادي إماما جديدا له).
استخلاصات نهائية
في هذه الزيارة التي قمت بها بعد حوالي عقدين من النفي يمكن أن أسجل النقاط التالية:
ـ إنه من أجل أن تعبر تونس هذه الفترة الإنتقالية بسلام لا بد أن يتم القطع بشكل نهائي مع الإستبداد والدكتاتورية باعتبار الحرية والكرامة هم الضمان الأساسي لتنمية ناجحة.
ـ التنمية يجب أن تركز على البنية التحتية من تعبيد طرقات وبناء مدارس ورياض اطفال ووحدات صحية وغيرها لأنه دون ذلك لا يمكن ان تنجح تنمية.
ـ الدولة التي تم طيلة العهد البائد تحييدها وتهميش دورها يجب أن تعود إلى عملها بعقلية جديدة تتسع لحق المواطنة والديمقراطية والحرية وبناء تونس الغد بعيدا عن القبضة الأمنية وسيطرة الحزب الواحد.
ـ اللجان الشعبية ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية التي نجحت بامتياز في انقاض الدولة و البلاد من السقوط وقامت بحماية المواطنين وتصدت لمحاولات الإنقلاب على الثورة يجب ان تتجه إلى الإندماج في الدولة حتى تستطيع بناء إدارة وطنية تقضي على اللوبي الذي لا يزال مسيطرا ويحاول الإنقلاب على الثورة.
ـ الأمن وشرطة المرور خاصة يجب أن يعودا لممارسة عملهما والقيام بواجبهما دون مبالغة ولا تجاوزات من شأنها أن تهمش هذه المؤسسات.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: