حسن الطرابلسي - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5998
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ببالغ الأسى واللوعة تلقيت يوم السبت 31 سبتمبر 2013 نبأ وفاة الأستاذ عبد الحليم خفاجي الداعية والمفكر الإسلامي المعروف. وقد ولد الأستاذ خفاجي رحمه الله في 6 فبراير/فيفري1932 بقرية مرصفا بمحافظة القليوبية وحصل على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة سنة 1954. وكان ناشطا داخل حركة الإخوان المسلمين وتم اعتقاله سنة 1955 بعد أن ان مسؤولا في القسم الإجتماعي وأعان كثيرا من عائلات الإخوان المعتقلين بعد أحداث المنشية سنة 1954 وقضى في السجن حوالي سبعة عشر سنة. بعد خروجه من السجن اشتغل لفترة قصيرة في مصر ثم سافر إلى الكويت وبقي فيها سبع سنوات هاجر بعدها إلى ألمانيا حيث استقر في مدينة ميونيخ في جنوب ألمانيا منذ عام 1979. في ميونيخ واصل خفاجي نشاطه الدعوي وعمل بالمركز الإسلامي بميونيخ كسكرتير للمركز عندما كان الأستاذ محمد مهدي عاكف، المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين، رئيسا له، ثم أصبح مديرا للمركز الإسلامي بعد ذلك .
أسس مدرسة تدرس المنهجين العربي والألماني سنة 1981 ثم معهدا لتعليم اللغة العربية للألمان سنة 1982. وفي سنة 1983 أسس مؤسسة بافاريا للنشر والتوزيع التي نشر فيها مجموعة هامة من الكتب باللغة العربية والألمانية، التي من أهمها تعريب كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” لصاحبه علي عزت بيغوفيتش، أول رئيس بوسني، ويعد هذا الكتاب من أهم الموسوعات الفلسفية التى قامت بنقد الفكر الغربي من داخله.
كما قامت مؤسسته بتعريب كتاب الدبلوماسي الألماني المسلم الدكتور مراد هوفمان “الإسلام كبديل” وأشرفت على ترجمة عدد من الكتب العربية إلى الألمانية منها “مختارات من كتاب الروح” لابن القيم
وله رواية مهمة تحمل عنوان "الرئيس" سلّمني منها نسخة سنة 2003 وطلب مني قرائتها ثم مناقشتها معه وأعلمني يومها أنه لا يعتزم نشرها وإنما يسلمها فقط إلى نخبة من خلص قرائه وأصدقائه. والرواية في ظاهرها قصة حب جمعت بين شاب مصري متعلم ومثقف اسمه خالد وفتاة ألمانية اسمها "ليزا" تزوجا بعد حب كبير، وشاءت الأقدار ان تُعقد في مصر أول انتخابات نزيهة ليفوز فيها الحزب الإسلامي الذي ينتمي إليه هذا الشاب وكان أيضا من أقدار الله أيضا أن حزبه قد اختاره ليكون رئيسا لمصر، فكان بذلك أول رئيس مدني منتخب لمصر. وهكذا عاد خالد، بطل القصة، إلى مصر وقاد نموذجا تنمويا رائعا.
والرواية تتكون، فيما أذكر، من سبعة عشر فصلا، وبعد أن قراتها التقيت به وأرجعت له النسخة التي قدمها لي فطلب رأيي. فناقشته وكان من بين أسئلتي له: ألم تلاحظ أن روايتك فيها شيئ لا يستهان به من الخيال ؟ الا يمكن اعتبارها أقرب إلى مدينة فاضلة نتمناها نحن الإسلاميون ونحلم بها؟
فقال لي: إنها ليست من الخيال العلمي ولا هي مدينة فاضلة وإنما هي نظرة استشرافية للمستقبل تستقرئ الأحداث وتتنبأ بمستقبل مصر.
فسألته لماذا لا ينشرها فأجابني بأن الزمن لم يحن بعد ليستقبل القارئ العربي قصته وسوف يكون موقفهم أشبه بموقفي ولذلك فإنه يفضل نشرها بعد وفاته فلعل الوقت يحين وتصبح أقرب إلى فهم القارئ. وأعتقد أن الوقت الحالي هو أنسب الأوقات لنشر هذه الرواية، ولعل عائلة الفقيد تنشر هذه القصة او تأذن لنا في نشرها ليطلع القارئ على جانب آخر من شخصية الأستاذ عبد الحليم.
وأما آخر مشاريع الأستاذ فهو بداية تأليف لكتاب يحمل عنوان "قصة الإيمان" وهو مشروع لم يكتمل ولكن فكرته الأساسية كانت حاضرة عنده إلا أن المرض أقعده عن إتمامه.
وأما أسلوبه في الكتابة فهو يتميز بوضوح العبارة وسلاسة الأسلوب وانسياب المعنى بحيث أن كتاباته تشد القارئ إليها فلا يضيع في تدقيقات الباحثين وهوامشهم ولا يسقط في كتابات التبسيطيين المخلة. وكان إلى جانب ذلك صاحب طرفة ودعابة وكثيرا ما أمتعنا في الإحتفالات التي كنا نقيمها في المركز.
ويمكن القول بأن أهم المشاريع العلمية التي قام بها الأستاذ خفاجي، رحمه الله، هي مشروع ترجمة القرآن الكريم إلى أكبر عشر لغات في العالم وكان يسمي هذا المشروع "الفتوحات العشر"وقد وفقه الله إلى تحقيق ترجمة القرآن إلى خمس لغات هي الألمانية والروسية والبوسنوية والإسبانية وأما الإنجليزية فهي لا تزال لحد الآن تحت الطبع.
وتعد الترجمة الألمانية لكتاب الله التي قامت بها مؤسته من أهم ترجمات القرآن الكريم إلى هذه اللغة فهي تتكون من خمس مجلدات كبرى "وقد تضمت هذه الترجمة كل الشروح والتفاسير من المصادر المعتمدة باللغتين العربية والإنجليزية" من أمثال المودودي وسيد قطب ومحمد أسد ويوسف علي وغيرهم...
وفي سبتمبر سنة 2001 سافر إلى البوسنة والهرسك لمراجعة النسخة النهائية لترجمة القرآن الكريم، وأثناء إقامته هناك حصلت تفجيرات سبتمبر 2011 ، ويبدوا أن الأستاذ كان مراقبا لأن القوات الأمريكية اعتقلته بعد تلك التفجيرات وانقطعت أخباره بشكل نهائي لمدة شهر كامل لتكتشف عائلته بعد ذلك أنه في مصر باعتبار أن القوات الأمريكية سلمته لمصر بعد أن حققت معه. وقد تعرض أثناء اعتقاله من القوات الإمريكية لتعذيب شديد وضرب بأعقاب بنادق الجنود الإمريكيين ضربا مبرحا وهو الشيخ الذي أشرف على السبعين من عمره وجرح أثناء هذا التعذيب جرحا غائرا في رأسه كان له السبب المباشر ، كما تقول عائلته، في فقدانه تدريجيا للذاكرة بعد ذلك إلى أن فقدها بشكل تام في السنوات الأخيرة من عمره .
بعد أن حققت معه السلطات الأمنية المصرية أطلقت سراحة لعدم ثبوت أية تهمة ضده فعاد إلى ألمانيا من جديد وكان له في هذا لتحقيق قصة مثيرة لا يتسع المقام لذكرها. وفي ألمانيا بدأ علاجه من أعراض مرض الالتسهايمر، الذس أصيب به بعد التعذيب من القوات الأمريكية، ولكن وضعيته الصحية لم تتحسسن حتى أقعده المرض في السنوات الأخيرة من عمره الفراش. فقامت زوجته وأبناؤه برعايته ورفضوا تسليمه لأي مركز رعاية للعجزة أو للمرضى بل واصلوا رعايتهم له حتى وفاته يوم السبت 31 أوت 2013 على الساعة الحادية عشر صباحا.
وتعود معرفتي، غير مباشرة بالأستاذ، إلي صائفة سنة 1986 ، حينها لم أبلغ بعد السابعة عشر من عمري، ولكني قرأت كتابه "حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون"، الذي اشتهر كثيرا بين أبناء الحركة الإسلامية في تونس، بحيث أكاد أجزم أن كل أبناء الحركة، أو أغلبهم على الأقل، قد اطلعوا عليه. وقد استفدت كثيرا من الكتاب في نقاشاتي مع الشيوعيين في المعهد الفني بصفاقس وتمنيت في تلك الفترة أن ألتقي بصاحبه حتى أتعلم منه المزيد. وتشاء أقدار الله أن تتحقق هذه الأمنية. فعلى إثر المحنة التي عاشتها حركة النهضة الإسلامية في تونس في بداية تسعينيات القرن الماضي أضطررت للهجرة حيث قادتني الأقدار، أنا وثلة من أبناء الحركة، إلى ألمانيا. ووصلت إلى ميونيخ فتعرفت على الأستاذ خفاجي الذي كان يحب التونسيين وبالذات أبناء حركة النهضة الإسلامية. فاستقبلنا وقدم لنا الكثير من المساعدة والنصح، ويشهد له أبناء الحركة أنه ساعدهم كثيرا منذ بداية المحنة سنة 1990 أي قبل أن تأتي أفواج المهاجرين التونسيين إلى ألمانيا سنة 1992 فقد فتح صدره ومؤسسته للأخوة بالنصح وبالعلاقات وبطبع بيانات ومنشورات الحركة في مؤسسته مجانا. وجعل مكتبه على ذمة الإخوة وسمح لهم بحمل ما شاؤوا من الكتب وتوزيعها دون أن يأخذ منهم ثمنها بل جعلها في سبيل الله. وقد شهد إخوة آخرون تحدثت مهم، أثناء إعداد هذا التقرير، أنه كان كريما معهم وساعدهم كثيرا بالمال وبالكتب وأنه كان يحب الخير لكل الناس.
وقد ربطتني به علاقة متينة وناقشت معه مواضيع عديدة فأعجبت بثقافته الواسعة ووجدت عنده سعة إطلاع، ورحابة صدر وانفتاح محمود مع صلابة إيمان وعقيدة راسخة ، فجمع خصالا لم أجدها في كثيرا من الشيوخ الذين أتوا إلى ميونيخ.
فلقد كان لا يتورع أن يناقش معي مواضيع يعتبرها غيره مثيرة وغريبة فكان يحدثني عن أهمية الفارابي وابن سينا وأصالة فكرهما ودورهما في تطوير المعرفة الإنسانية من طب وفلسفة وعلوم عقلية متنوعة وحتى عن دورها في تطوير العلوم الموسيقية وغيرها. وقد كنت،كطالب فلسفة، يومئذ، أتحاشى الحديث في مثل هذه المواضيع في المركز الإسلامي ولكنه كان حالة استثنائية فقد كان علمه في مجال الفلسفة والقضايا الفكرية لا يقل عن علمه في الفقه والأصول.
وإن أنسى فإني لا أنسى أنه جائني مساء يوم من الأيام في صيف سنة 2004 إلى مكتب إدارة المركز الإسلامي بميونيخ عندما كنت عضوا في إدارته. وقد كنت في ذلك المساء متعبا ومنهكا بعد أن قضيت اليوم في شغل متواصل. فلما أتاني سلم علي وتبادلنا أطراف الحديث ثم بدأ يحدثني عن تجربته عنما كان مديرا للمركز. فقال بأنه أعد ملفا مهما كان يعتزم التحرك به في ألمانيا من أجل الإعتراف الرسمي بالدين الإسلامي في البلاد ولكن هذا المشروع لم يكتمل لأن من جاء بعده أهملوا الموضوع، كما يقول الأستاذ، ولم يواصلوا في نفس الإتجاه بل اهتموا بالقضايا الجزئية واليومية وأهملوا المسائل الإستراتيجة والأساسية. واندفع يومها يوجه نقده ولومه ويحثني على أن أواصل الجهد الذي بدأه. ويبدوا، والله اعلم، أنه لاحظ أني متعب أو أن الوقت غير مناسب للحديث في الموضوع أو رأى أنه لا حول لي ولا قوة، فأنهى الموضوع ودعاني لأشرب معه ومع بعض مرافقيه شايا، فقبلت الدعوة وتوجهنا لمطعم المركز، وهناك فعلا طلبنا شايا.
ومما لفت انتباهي أن الأستاذ طلب مع الشاي حليبا ولما جاء الشاي تناول الأستاذ الحليب وأخذ يسكب في كأسه، وأنا أنظر إليه وأتعجب، كل هذا الحليب ومع الشاي، وبعد أن فرغ من ذلك بدأ يشرب بنشوة وسعادة. وكانت تلك أول مرة أرى فيها إنسانا يشرب شايا بالحليب، أو باللبن كما يقول إخواننا المصريين، فلقد كنت أسمع عن الشاي باللبن في الأفلام والمسلسلات المصرية ولكني رأيته في ذلك اليوم مباشرة. وقد أستفزني ذلك المشهد حتى قررت أن أجرب هذه الطريقة في شرب الشاي وقد جربتها فعلا عندما كنت وحدي وبعيدا عن إخواني من التونسيين فوجدت أنها جيدة ومقبولة. ولكننا لم نألفها في تونس والمرء ابن عادته ومألوفه.
وقد أقيمة جنازته بمدينة ميونيخ وحضرها جمع خفير من أصدقائه ومحبيه من كل ألمانيا بله من بعض الدول الأوروبية والعربية وقد أتوا كلهم لأن لكل واحد منهم قصة أوتجربة أوموقف مع الأستاذ عبد الحليم كما قال الدكتور أحمد الخليفة في كلمته التأبينية.
حسن الطرابلسي ـ ميونيخ 2013
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: