حسن الطرابلسي - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5994
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لئن كانت النهضة في مفهومها العام تعني اليقظة وإعادة الإحياء وتجديد إمكانيات الأمة وتراثها من أجل بناء شامل لمستقبلها فإن "التنمية تعني الزيادة والنموّ، وأنّه في مجال الإنشاءات الصناعية والإقتصادية والزراعية خاصّة يعبّر عنه بالأشياء المتحققة نتيجة الأخذ به. فالتنمية تعني مصانع تقام، وطرقا تعبّد، وعمائر تبنى، ومالا يستثمر، وقنوات تشقّ، وأرضا تصتصلح، ونباتا يزرع ويحصد، وحيوانا يرعى ويراعى فيتوالد ويكثر وهكذا... وهي (أي التنمية) تعني أيضا هياكل وإدارات تشكّل، وتدريبا علميّا وفنّيا وبحثا علميّا. وهي المستشفيات والمدارس، وهي الإنسان يعلّم ويطبب ويرفّه".(د. ابراهيم أحمد عمر: فلسفة التنمية، رؤية إسرمية، ص 15) وهكذا فإن عملية التنمية أشمل من مجرد زيادة الدخل الإقتصادي بل هي تشمل الإقتصاد والمجتمع والسياسة.
ومنذ الثورة الصناعية أصبح المثال التنموي الغربي هو المثال المحتذى وأصبح هو مصدر كلّ عملية تنموية، إلاّ أنّ هذا النموذج لم يكتب لبريقه أن يواصل لمعانه إذ سرعان ما تكشف للجميع الطابع الإستعماري والهيمني الذي يتميّز به، فأصبح حلم النموّ الذي بشّر به زيفا لم يعمّر فترة طويلة. و"إنه اليوم بسبب سيطرته الإقتصادية والسياسية والعسكرية التي لا يشاركه فيها أحد، يفرض على العالم، بأكمله نموذجه في النموّ الذي يقود إلى انتحار سكّان كوكبنا جميعا لأنّه يولّد في آن واحد تفاوتات متزايدة، وينزع من نفوس المعدمين وأكثر الناس عوزا كلّ تفاؤل بأمل في المستقبل، ويعمل على إنضاج التمرّد اليائس، في الوقت نفسه الذي يوقف فيه ما يعادل خمسة أطنان من المتفجّرات فوق رأس كلّ واحد من سكان الكوكب الأرضي" كما يقول الفيلسوف روجيه غارودي. وأهم النتائج التي أدّى إليها هذا النمط التنموي استلاب الإنسان وتفكّكه إذ ما يميّز حياتنا حاليّا، في النموذج الغربي للنموّ وفي النموذج الثقافي الذي يتضمّنه، هو انخلاع الإنسان وتفكك المجتمع. فقد فقد الإنسان كلّ وحدة في علاقته مع الطبيعة والمجتمع والله.
وهكذا غدت الحضارة الغربية كما يقول الأستاذ طارق البشري "جادّة في استيعاب حاضر العالم كلّه... وبهذا تكون قد استوعبت صورتنا عن مستقبلنا أيضا، لقد صار الغرب هو مستقبلنا".
إلا أن ثورات الربيع العربي أعادت سؤال النهضة والتنمية إلى واجهة الأحداث من جديد فنظرة سريعة إلى البلدان العربية التي نجحت لحد الآن في اقتلاع رموز الطغيان ثم نجحت في اختبار التحدي الإنتخابي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن تُبرز لنا المركزية الكبرى لقضيتي النهضة والتنمية في المشاريع والبرامج الإنتخابية خاصة لدى الأحزاب والتنظيمات الفائزة.
ويعتبر رموز هذا الربيع أن من التحديات الأساسية في عملية التنمية تحقيق ثلاثة أشياء وهي أن "ننتج غذاءنا وأن ننتج دواءنا وأن ننتج ونمتلك سلاحنا" كما لخصها الرئيس المصري محمود مرسي في كلمة له يوم 5 اوت 2012 وهو بدون شك محق في تصوره لأن تحقيق الإكتفاء الغذائي وتوفير الدواء وامتلاك أو صناعة السلاح بأيد وطنية تجعل هذه الدول تتمتّع بالحصانة الذاتية الكافية.
والتجربة التاريخية لمصر منذ القديم تمنحنا الثقة في قدرتها على الخروج من النفق المظلم والنجاح في إنجاز عملية تنموية رائدة. فالقرآن يحدّثنا عن تجربة يوسف عليه السلام الذي قاد عملية تنموية ناجحة جعلت مصر على عهده مركزا تجاريا عالميا يأتي إليه الناس من كلّ مكان لشراء القمح والتبادل التجاري.
وكان من عوامل نجاح هذه التجربة أن يوسف عليه السلام أقامها على مبادئ أساسية بدونها لا يمكن لتنمية أن تنجح. وتلخص المصادر النقاط الأساسية لهذه الخطة، فيقول القرطبيّ: "ولمّا فوّض أمر مصر إلى يوسف تلطّف بالناس وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به، وأقام فيهم العدل فأحبّه الرجال والنساء... ثمّ دخلت السنون المخصبة فأمر يوسف بإصلاح المزارع، وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة فلماّ أدركت الغلّة أمر بها فجمعت ثمّ بنى لها الأهراء، فجمعت فيها تلك السنة غلّة ضاقت عنها المخازن لكثرتها، ثمّ جمع عليه غلّة كلّ سنة كذلك، حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة". وهكذا نرى أن يوسف عليه السلام أقام سياسته على المبادئ التالية:
العدل، اصتصلاح المزارع أو الإصلاح الزراعي والفلاحي، التوسع في المساحة الزراعية، بناء المخازن والإستثمار في شكل صندوق تنموي تشرف عليه الدولة.
أ ـ العـــــدل
يمثل العدل، باعتباره أساس العمران، الضمانة الأساسية لنجاح هذه الدول في عملية النهضة والتنمية، فبالعدل تنهض الحضارات، وبه يكرّم الإنسان ويعزّ، فتفجّر طاقاته الإبداعية فعلا خلاقا في البيئة والمجتمع، فالضعيف يردّ إليه حقّه والقويّ لا بدّ أن يؤدي حقه نحو الضعيف، فالعالم مرتبط بوحدة متماسكة ومترابطة لا تنفصم عراها فهو كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى، ولقد توصّل يوسف عليه السلام بعدله إلى تأسيس هذه الخليّة العاملة في مجتمعه كما وصفه القرطبيّ قائلا:"ولمّا أصاب النّاس القحط والشدّة ونزل بأرض كنعان بعث يعقوب عليه السلام ولده للحيرة، وذاع أمر يوسف في الآفاق للينه وقربه ورحمته ورأفته وعدله وسيرته وكان يوسف عليه السلام حين نزلت الشدّة بالناس يجلس للنّاس عند البيع بنفسه، فيعطيهم من الطعام على عدد رؤوسهم لكلّ رأس وسقا". ولما كان للعدل هذه القيمة الكبرى فإنه لا يسعنا إلا تثمين تصريحات رئيس الوزراء التونسي حمادي الجبالي الذي أعلن في حوار أجرته معه القناة الوطنية التونسية يوم 4 أوت 2012 أنه لن يتدخل في القضاء وأنه لن يتدخل في عمل القضاء، وبذلك فإنه أرسى اللبنة الأولى لمستقبل مشرق للبلاد.
ب ـ الإصــلاح الزراعـــيّ
قام المشروع الزراعي ليوسف عليه السلام على توسيع المزارع قال القرطبي:" وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة". وهي فكرة أساسية في كلّ عملية فلاحية فبقدر ما تكبر المساحة الزراعية بقدر ما يكثر الإنتاج وتتوفّر الفرص للزراعات المتنوّعة.
ج ـ التخطيــط والحسـاب
إضافة إلى العوامل السابقة، ثمّة عامل مهم جدّا ساهم في إنجاح التجربة التنموية ليوسف عليه السلام وهو التخطيط والحساب فالعلماء يذكرون أن يوسف أوّل من كتب يقول القرطبي: يوسف أوّل من كتب في القراطيس" ويقول الله تعالى في سورة يوسف: "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ". والحفيظ كما قال المفسرون هو الحاسب الكاتب.
وبهذه المنهجية أسس يوسف عليه السلام ما نسميه اليوم بصناديق الإستثمار التي تتولى حماية الدولة أثناء الأزمات وتوفر رصيدا للأجيال القادمة.
وقد كتب لهذه التجربة أن تنجح نجاحا باهرا فاستطاع يوسف عليه السلام أن يتجاوز السنين العجاف بسلام حتّى وصف القرطبي نتائجها: "وذاع أمر يوسف في الآفاق".
إلى جانب هذه المبادئ العامة فإن تفعيل دور الزكاة في العملية التنموية من شأنه أن يساهم في عملية النهضة، باعتبارها "الرّكن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتين وإقام الصلاة، ويقصد بها ذلك القدر من المال الذي يعطيه المسلم سنويّا لوليّ الأمر لإنفاقه على مستحقيه. واقترنت الزكاة في القرآن بالصلاة "ووردت مسبوقة بصيغ الجمع (وآتوا) لما لهذه العبادة من نشر روح التوادّ في المجتمع. وقد قال الله تعالى: "وَأَقِيمُوا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله". البقرة 110 "وقد كانت الزكاة في صدر الإسلام ركيزة تعتمد عليها الدولة في التنمية الإقتصادية والإجتماعية". وكان ابن تيمية يشترط في جامع الزكاة حتّى تؤدّي أغراضها الأساسية ، الخبرة والأمانة فهو يقول: "فأمّا استخراجها وحفظها فلا بدّ فيه من قوّة وأمانة فيولّى عليها شادّ قويّ يستخرجها بقوّته وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته". "وقد فتح الإسلام باب التطوّع بالصدقات ليشمل بعض أفراد المجتمع تحقيقا لمزيد من التنمية الإجتماعية... فالصدقة تنمية مستمرّة للمجتع وللمتصدّق نفسه، إنّه يعوّد نفسه العطاء ولو بالقليل".كما يقول د. أحمد ماهر البقري في كتابه الزكاة ودورها في التنمية.
ويستتبع دور الزكاة تفعيل مؤسسة أخرى مهمة وهي مؤسسة الأوقاف لما لها من أدوار مهمة تتعدى توفير مصادر مالية إلى توفير حصانة اجتماعية وروحية لعناصر المجتمع، ولذلك فإن إعلان وزير الشؤون الدينية التونسي بأنه سيحيي هذه المؤسسة هي خطوة في الإتجاه الصحيح.
وتقوم التنمية الإجتماعية على السلام فهي لا تنطلق بالخوف وبالإرهاب، ولا بالفوضى العارمة القائمة على الخلط بين المطلبية والنضال النقابي وبين التشويش على الثورة وعلى البرامج والخطط التي أعدتها قيادات شرعية اختارها الشعب لقيادة العملية التنموية في دول الربيع العربي.
فالتنمية إذن ذات مفهوم يتّسع للمجالات جميعا: الزراعة والصناعة والإقتصاد والإدارة والتعليم. كما أنّ العدالة والحدب على المستحقّين بوفاء الكيل لهم كما طلب إخوة يوسف من يوسف أولى بالإتباع من سياسة البطش وظلم الرعيّة. (نفس المصدر السابق ص 62 إلى 66 بتصرّف)
وأعتقد أن دول الربيع العربي لكي تنجح في تحقيق نقلة اقتصادية وبناء عملية تنموية ناجحة لا يجب أن تتقوقع على نفسها بل يمكنها استيراد التقانات والتكنولوجيا خاصة إذا كانت التقانات المستوردة تستجيب لإحتياجات هذه الدول لأن عملية النقل إن كانت مبتورة وغير متلائمة مع معطيات البيئة القابلة فأنّها تساهم في إحداث فجوات واختلالات حضارية لها تبعات خطيرة، ولقد أدّى دعم الدول الصناعية الكبرى إلى كثير من الحكومات في دول العالم الثالث إلى تدعيم للدكتاتورية التي أصبحت للأسف تنفذ مشاريع ترسمها الدول الإستعمارية. وقد أدّت عديد المشاريع غير المدروسة إلى تعميق ديون العالم الثالث وهو ما ساهم في المزيد من تفقيرها وتجويع شعوبها.
ولكن رغم ذلك استطاع عدد قليل من بلدان العالم الثالث الإفلات ـ ولو بنسب ضعيفة ـ من القبضة المستحكمة التي فرضها الغرب عبر نموذجه الأحادي، فكانت التجربة الكورية وتجربة ماليزيا وغيرها من أقطار آسيا الشرقية خير مثال للإفلات من هذه القبضة المستحكمة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: