د - صالح المازقي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8920
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في مناخ الحملة الانتخابية التي نعيشها في تونس بعد الثورة، تدفعني أمور عديدة "مغشوشة" لكتابة هذه الأسطر، المقتضبة، في محاولة شرحها للقراء الكرام بكل دقة وموضوعية ووضعها في نصابها وإعادة المفاهيم إلى مواضعها الحقيقة، درأ لكل ما قد يتسرب إليها من أخطاء و/أو تشوهات تزيد المشهد العام في بلادنا تعتيما؛ بما قد يفسح المجال أمام البعض ممن لم تنجلي الغشاوة بَعْدُ عن بصائرهم ليدركوا واقع هذا الشعب الأبي، المهادن لجميع حكّامه، المتأقلم مع جميع ظروفه في شدّتها ورخائها.
منذ أيام قليلة وبالتحديد في غرة أكتوبر 2011 انطلقت الحملة الانتخابية في تونس بعد الثورة. حدث تاريخي فريد من نوعه، اشتاق إليه المجتمع التونسي بكل أطيافه السياسية، منذ تأسيس الدولة الوطنية في عام 1956. كل طبقات المجتمع وجميع شرائحه في انتظار يوم الانتخاب وما ستفرزه النتائج من تركيبة للمجلس التأسيسي الثاني[*].
قد يعتقد الكثير من غير التونسيين ومن التونسيين، خاصة الأجيال التي ولدت في ظل الاستقلال، أنّ تونس مُقْدِمَةٌ على تجربة هي الأولى من نوعها وكأننا حديثي العهد بالتاريخ والسياسة والاجتماع. نمر بعد ثورة 14 جانفي 2011 بفترة من الفراغ الدستوري (ولا أقول السياسي) وما انتخاب المجلس التأسيسي إلا لملء هذا الفراغ وليس لإقامة أو بناء دولة. الدولة التونسية قائمة منذ آلاف السنين بكل مؤسساتها، متطورة مع أزمنتها، متأقلمة مع ظروفها. وهي اليوم، في حاجة لتصحيح مسارها وتقويم مسالكها فقط. من أجل ذلك قامت ثورة الشباب لتعديل انحراف حياة سياسية، خبرنا حلوها ومرّها على السواء.
لفهم مجريات الأحداث السياسية في تونس، يتأكد الرجوع إلى التاريخ السياسي والاجتماعي لهذا الشعب، لصقل ذاكرة سياسية/جماعية عَلَتْهَا طبقات من الصدأ والغبار، طمست تاريخ شعبنا، واختزلته زيفا في تاريخ رجلين، كانا في يوم من الأيام على رأس الدولة التونسية.
لمزيد الإطلاع نحيل القارئ الكريم على أمهات المصادر التاريخية التي تحدثت بإسهاب عن الحياة السياسية ومحاولات الإصلاح في تونس[**]. لم تكن البلاد التونسية بمعزل عن محيطها العربي والإسلامي الذي عاش لقرون مديدة في سبات حضاري. لم يستيقظ منه إلا و"الإسكندرية" قد سقطت بين أيدي الفرنسيين سنة 1798م بعد أن دخلها جيش "نابليون الأول" منتصرا بكل يسر وسهولة على جيش المماليك، فيما يعرف بحملة "نابليون بونابارت".
صحوة عربية/إسلامية فتحت أعين المصلحين في العالم العربي بمشرقه ومغربه على تغيّرات جذرية حدثت في بلاد "الفرنجة"، نقلتهم دولا وحكومات وشعوبا من عصر الظلومات والخرافات والأساطير التي كرستها الكنيسة بشقيها الأرثودكسي والكاثوليكي، إلى عصر العلم والمعرفة والإدارة والتّنظيم السياسي والإداري والهيمنة العسكرية والتّوسع الاستعماري.
انبهر جلّ المصلحين في العالم العربي الإسلامي بما أنجزته أوروبا، خاصة في مجال السياسة والحكم، المُقَامِ أساسا على الفصل بين السلطات وما أتبعه من حريات أسست لديمقراطية، شكلت بدورها أرضية لتعددية سياسية، متنافسة على سلطة مُتَدَاوَلَةٍ، كان فيها للحرية الفردية مكانة محورية في تقدم أوروبا وتطورها. بادر المصلحون الأوائل في كل من تونس ومصر، على وجه الخصوص، إلى إدخال بعض الإصلاحات السياسية للتخفيف من الحكم الفردي. لقد أيقن بايات تونس "أحمد باشا باي" وبشوات مصر "محمد علي باشا" أنّ طبيعة حكمهم المطلق هي سبّب تخلف بلدانهم. إثر عودة البعثات التعليمية والتكوينية التي أرسلتها حكومتا البلدين في مطلع القرن التاسع عشر إلى أوروبا (فرنسا، انجلترا وألمانيا)، ترسخت هذه الفكرة في أذهان الحكّام وارتقت إلى مستوى الحقيقة.
لم يكتف باي تونس "أحمد باشا باي" بتقارير العائدين من فرنسا، ولا بروايات بعض وزرائه ممن زاروا فرنسا، بل سافر بنفسه في عام 1846م إلى فرنسا، للوقوف شخصيا على حقيقة التّقدم الشامل الذي بلغته دولة "الفرنسيس". انتشر فكر التغيير والإصلاح في أوساط النّخبة التونسية التي تفاعلت مع الفكر السياسي الغربي عموما والفرنسي خصوصا، فحاول أهل العقد والحل من بايات ووزراء ومثقفين تنويريين تقديم رؤاهم المختلفة في تقويم اعوجاج الأمة.
سبقت تونس باقي الدول العربية في دخول عالم الدساتير الوضعية والابتعاد النّسبي عن العمل بالنّصوص الشرعية في تسيير الحياة العامة للمجتمع. كانت بداية المزج بين الأحكام الشرعية والأحكام "الوضعية" في تلك الفترة "محتشمة" و"متعثرة"، لم تتجاوز في ذلك الزمان مستوى الإرهاصات، لأسباب (لا تتسع هذه الأسطر لشرحها). لخّص المصلح "خير الدين باشا التونسي" أفكاره في مُؤَلَّفِهِ الشهير "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" بعد عودته من فرنسا حيث أقام مدّة طويلة استغلها في دراسة التطورات الحاصلة هناك ومقارنة أسباب تقدم الغرب وتخلف الشرق[1]. جاء كتاب الوزير "خير الدين" في جزأين، الأول (إصلاحات ضرورية للأمم الإسلامية) والثاني (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، ليشكل مدخلا إلى تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية للأمة الإسلامية وفي مقدّمتها بالبلاد التونسية، في محاولة تقريبها أكثر ما يمكن من النّمط (الغربي/الفرنسي)، خاصة في مجال التشريعات، المُقَنِّنَةِ لحياة المجتمع الفرنسي في مجاليها السياسي والعام.
اجتهد الوزير الأكبر "خير الدين" في التّقريب بين النّصين الشرعي والوضعي، بقراءة الأول قراءة مقاصدية، تيّسر على علماء الدين المتشدّدين والمتشبّثين بالشريعة الإسلامية ومصادرها الاندماج في مشروعه الإصلاحي. شكلت فكرة تقيّيد الحاكم بقانون (دستور) محور الرؤية التنويرية للوزير "خير الدين"؛ وقد لاقت أفكار "خير الدين باشا" استحسان الباي "أحمد باي 1837م/1855م" الذي واصل مشروع إصلاح العسكر والتّعليم والإدارة، التي انطلقت في عهد"حمودة باشا 1782م/1814م". تتوّجت إصلاحات بايات تونس بإعلان وثيقة "عهد الأمان" في سبتمبر 1857م في ولاية "محمد باي".
يعتبر "عهد الأمان" أول نص قانوني ذو منحى "دستوري"، أمّن السكان على أرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم وقد مهّد لصدور "دستور 1861م"[2] في عهد "محمد الصادق باي" بتأثير من قناصل الدول الأوروبية المقيمين بتونس من ناحية والوزير المثقف وعضو المجلس الكبير "أحمد بن أبي الضياف" صاحب كتاب (إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان) من ناحية أخرى.
يؤكد تاريخ تونس المعاصر أن البلاد ليست حديثة العهد بالحكم الدستوري وإن لم تمضي قُدُمًا في مسارها (الديمقراطي). إنّ الحدث السياسي الذي تعيشه تونس اليوم ليس غريبا عن الذاكرة الجماعية للمجتمع وليس فريدا من نوعه، بل هو امتداد لحياة دستورية زاخرة بالرغم من المؤامرات الداخلية والخارجية التي حِيكَتْ في زمانها ومكانها وبأيادي أقل ما يقال فيها أنها أيادي آثمة، أجرمت عبر التاريخ الطويل لبلادنا "وبالتوازي" في حق المجتمع والدولة.
لقد أسست تونس أول دستور في العالم العربي والإسلامي "دستور 1861" الذي أمر بإقامة "المجلس الكبير" وهو بمثابة برلمان أو (سلطة تشريعية) انتزعت جزءا من مهام السلطة التّنفيذية، ممثلة في سلطة الباي المطلقة ووزرائه. عنصر ثالث، دخل مجال العمل السياسي المحظور، ليعمّر إلا أربع سنوات، هي عمر الحياة الدستورية التي توقفت بتوقف العمل بالدستور في سنة 1864م.
أجهض "محمد الصادق باي" تجربة الحكم المُقَيَّدِ بــ (دستور) وأنهى وجود "المجلس الكبير"، مستغلا انتفاضة قبائل "ماجر" و"جلاص" بقيادة "علي بن غذاهم" عليه وما نتج عنها من فوضى عمّت البلاد، فألغى (الدستور) وتخلص من قيوده القانونية، فكان ما يشبه (إعلان قانون الطوارئ) وأصاب الباي عصفورين بحجر واحد.
لم تكن تجربة دستورية، يتيمة تلك التي عاشتها البلاد التونسية في نهاية القرن التاسع عشر، بل تلتها تجارب أخرى، اتخذت أشكالا مختلفة نذكر منها: النّدوة أو الهيئة الاستشارية التي أنشأتها سلطة الحماية سنة 1890م للمعّمرين الفرنسيين في تونس، محاكاة للحياة البرلمانية في فرنسا. ثمّ توسعت الهيئة الاستشارية 1907م لتضم 16 عضوا من التونسيين بأمر من المقيم العام الفرنسي. في عام 1922م بُعِثَ ما يعرف بالمجلس الكبير، الذي تميّز بتركيبته المتناصفة بين السكان الأصليين من التونسيين والمستعمرين من الفرنسيين.
مع الاستقلال ومنذ البدايات في سنة 1956م، عمد الساسة التونسيون إلى إحداث "المجلس القومي التأسيسي" الذي تولى إعداد دستور للبلاد الذي صدر سنة 1959م وتمّ بمقتضاه الفصل النظري بين السلطات. غير أنّ إقرار الرئيس الراحل "الحبيب بورقيبة"، بوصفه رئيسا لأول جمهورية مستقلة، بالفصل بين السلطات الثلاثة على الورق، لم يمنعه من تجاوزه واحترامه على أرض الواقع.
لقد عاشت البلاد التونسية من 1956م إلى 1987م في عباءة شخصية الرئيس التي ارتقت إلى مرتبة (الأب الإلهي Le patriarche divin). تمكّن "بورقيبة" بدهائه واتساع معرفة بطبائع الحكم في تونس، من الجمع بين الشخصية المادية للرئيس والشخصية المعنوية للدولة. مزج "بورقيبة" بين قداسة الدولة وهيبة الرئاسة، منحته هالة من الاحترام (غير المسبوق)؛ بما سمح له بالتّفرد بالحكم والدولة والحزب من ناحية وخوّل لنظام ومنظومة حكمه التّلاعب بالدستور من ناحية أخرى. أبرز ما يذكر في هذا المجال، مسألة (الرئاسة مدى الحياة).
ثم أتى من بعده الرئيس "زين العبدين بن علي" الذي ورث عن "بورقيبة" فيما ورث، الجرأة على العبث بدستور البلاد وتطويعه لأهداف ذاتية إلى أن ثار عليه سخط الشعب الذي أطاح به وبنظام حكمه في 14 جانفي 2011. في هذا المناخ اللامسؤول، الذي دام "خمسة وخمسين عاما" تحوّل الدستور التونسي إلى ما يشبه (معزوفة فلكلورية) يجري تهذيبها حسب الأهواء، ثم يفرض على الشعب قبولها وترديدها.
تواصلت التجربة الدستورية (على علّتها) إلى سنة 2002م حين تمّ إحداث مجلس المستشارين، بعد الاستفتاء عليه في نفس السنة وهو الغرفة العليا لمجلس النّواب التونسي. يتألف هذا المجلس من أعضاء "لا يتجاوز عددهم ثلث عدد أعضاء مجلس النّواب"[3]. مجلسان نيابيان لا يتعدّى دورهما دور (الكومبارس) في مسرحية سمجة لــ"ديمقراطية زائفة pseudo démocratie ".
ما أردت قوله من خلال هذه الأسطر، أن لتونس تجربة برلمانية تمتد جذورها التاريخية إلى ما يربو عن قرن ونصف القرن، لذا فإني لا أرى داعيا لمثل هذه الضجة الإعلامية في الداخل والخارج، بما يمكن وصف بــ (زوبعة في فنجان). لا أحد ينكر أن التونسيين قد اهتزت ثقتهم في كل ما يصدر عن السلطة ولو كانت مؤقتة أو انتقالية. يخشى "التوانسة" أكثر من أي وقت مضى، أن يمروا من شارع الديمقراطية، كمن مرّ تحت ظل شجرة في ظل التجاذب السياسي الرّاهن والثورة لم تكتمل بَعْدُ.
لقد بدأت الشكوك تتسرب إلى التّصورات الاجتماعية عند التونسي (العادي). شكوك تجد مبرراتها في قدرة الأحزاب السياسية، المتنافسة على ما تعتقده مدخلا للسلطة والنّفوذ، على حساب طموحات المحرومين وآمال المهمّشين في بناء مجتمع أفضل.
لعل قراءة سريعة للبرامج الانتخابية التي تحاول الأحزاب تلميعها من خلال لغة سياسية منمّقة (رغم ضبابيتها تعتيمها)، توحي بعدم فهم أصحابها للمرحلة الانتقالية فهما سياسيا صحيحا. جاءت كل البرامج المعلنة (وبناء على وعودها السياسية/الإصلاحية)، متقاربة الأهداف وموّحدة الغايات، تعطي لقارئها انطباعا بأنّ أصحابها يهيئون أنفسهم لخوض انتخابات برلمانية و/أو رئاسية. استشعر المواطن تكتيكات سياسوية مبكرة، تحاول بواسطتها الأحزاب القفز على المرحلة الانتقالية ودمجها "افتراضيا" في مخيلة النّاخب وإعداده نفسانيا لمَ بعد المجلس التأسيسي.
المواطن التونسي في هذه المرحلة في غنى عن برامج إصلاحية (لا يشكّك أحد في جدّيتها ومصدقية أصحابها) إذا جاءت في إبّانها، أي بعد أن تستقر البلاد ويتضح المشهد الدستوري، باتضاح وإقرار دستور جديد، يُسْتَفْتَى عليه الشعب، تمهيدا لانتخابات برلمانية ورئاسية، يكون للناخب فيها القول الفصل. إنّ ما تقوم به الأحزاب المائة وخمسة، (الكثرة وقلّة البركة)[*] لا يتعدى استعراضا لعضلات سياسيين قدامى، متلهفين على اعتلاء سدّة الحكم والتّعويض عن سنوات الجمر والحرمان والإقصاء. هذا بالإضافة إلى سياسيين جدّد، تدفعهم الحماسة الوطنية للتجديد والقطع مع الماضي الأليم، إلى جانب هؤلاء وأولائك، يقف الذين أبعدتهم الثورة عن دوائر السلطة، التي كانت مطيتهم للتّربح والجاه.
من أغرب الوعود السياسية (الرشوية) التي طالعت النّاخب التونسي، ما قطعه حزب حديث التّكوين على نفسه من وعود يبدأ في تنفيذها يوم غرة نوفمبر 2001 إذا فاز في هذه الانتخابات. سلوك السياسي لحزب مقدم على تشكيل حكومة أغلبية بعد منافسة سياسية مع خصوم تقليديين. أما أبرز وعده فتتمثل في: 1/ تمكين التونسيين من العلاج المجّاني. 2/ تقديم منحة البطالة لخمس مائة ألف عاطل عن العمل. 3/ وأخيرا وليس آخرا، تمتيع المسنين (أكثر من 65 سنة) من التّنقل المجّاني على متن كل وسائل النقل العمومي.
وعود قد لا تستحق التّوقف عندها لدى البعض، إلا أنّ بحثها يبد لي جديرا بالاهتمام. يبدو من اللحظة الأولى لدى المطّلعين على حقيقة الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد التونسية، الاستخفاف الصارخ بعقول المواطنين. لنا أن نتساءل إن كانت قيادة هذا الحزب تتصرف بالعقل أم بالعاطفة؟. الواقع والعقل يؤكدان حقيقة غلاء تكاليف العلاج الطبّي الحديث، من دواء وكشف بالأشعة المتطورة/المكلفة والتحاليل البيولوجية الباهظة/شديدة التعقيد وما تتطلبه هذه وتلك من تكنولوجيا بيوطبية، تعجز حتى بعض الدول المتقدمة عن اقتنائها؛ إضافة إلى ارتفاع تكلفة (الخدمة الفندقية) لإقامة المرضى بالمصالح الاستشفائية المختلفة، دون الحديث عن تكاليف العمليات الجراحية ذات التكاليف الخيالية... الخ. هل اطلع أركان هذا الحزب على الأسباب التي أدّت إلى إصلاح قطاع الصحة سنة 1991م؟ هل فكرّت قيادة الحزب في مواجهة "بارونات قطاع الصحة الخاصة" من أصحاب العيادات والمصحات الذين استثمروا، ليربحوا من خدمات تفوّقت في أحيان كثيرة على بعض خدمات القطاع العام؟ هل علم هؤلاء السياسيين أنّ "ورقة الصحة قد تؤدي إلى حرمان الرئيس الأمريكي "أوباما" من الفوز بفترة رئاسية ثانية، لعجزه عن الوفاء بوعد تعميم التغطية الصحية على الفقراء والمنبوذين الأمريكان؟"[4] وأخيرا نسألهم، من أين سيأتون بتمويلات ونفقات الصحة، في مجتمع غارق في تبعية مالية (مديونية) وتبعية ثقافية وأخرى تكنولوجية وثالثة علمية، في مقدمتها التبعية الطبية والدوائية التي لا يتعدى فيها دورنا (كدولة نامية)، دور المستهلك اللاواعي؟ أم لعل هذا الحزب ينوي العودة بالتونسيين إلى العلاج بــ"الرّعواني"؟.
أما وعدهم بمنح (500 ألف) عاطل عن العمل أو ما يمكن أن نسميه "بديل البطالة"، فهو عامل من عوامل ترسيخ عقلية التواكل في النّفوس المتواكلة، المحبطة واليائسة، التي لا تنتظر إلا قشة النجاة، في عمل بشرف، لا في على شكل صدقة تأتيها من (باب الله) دون عناء، أو (رشوة انتخابية). كان من الأجدر بهذا الحزب أن يحفّز على العمل وأن يستنهض الهمم ويدفع بالكرامة نحو قيم إنسانية ثابتة، بعد أن أثبت التونسي قدرته على تغيّير التاريخ بالفعل الإرادي، المسؤول؛ لا أن يمنيها (الهمم) بالخير الوفير والجهد القليل، لشرعنة حكم لا يزال في حيز الوجود بالقوة.
ويبقى السؤال التمويلي مطروحا بإلحاح، من أين سيوّفر هذا الحزب كل هذه الأموال المتأتية (إن تأتت) من قطاعات اقتصادية متأزمة، عاجزة عن خلق قيمة إضافية، القادرة وحدها على دفع عجلة الإنتاج وتهيئة المجتمع لاستهلاك مرّشد؟. أم أن رجال هذا الحزب سيعتمدون على الخارج في تمويل سياساتهم (إن هم وصلوا إلى السلطة) وعلى القروض والهبات الدولية، فتكون انطلاقتهم في إصلاح الأخطاء بأخطاء ونكون نحن (الشعب) كالمستجير بالرمضاء من النار؟.
من أحلام اليقظة إلى أحلام العصافير، قد تضيع ثورة الكرامة بين طموحات سياسيين همّهم العلو ولو على...
--------------
*) المجلس التأسيسي الأول تمّ بعثه سنة 1956 وتمخض عنه دستور 1959.
**) كتاب (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) الصدر الأعظم "خير الدين التونسي" وكتاب (إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان) للوزير "أحمد بن أبي الضياف"
1) سافر "خير الدين باشا" إلى فرنسا لبيع مجوهرات على ملك الأسرة الحاكمة ولتصرف لاحقا لإعانة تركيا في الحرب ضدّ روسيا (1854م).
2) دستور 1861م هو أول دستور وضعي صدر وطبق (ولو نسبيا) في العالم العربي والإسلامي.
3) الفصل 19 من الدستور التونسي.
*) تشبيه لمواطن تونسي مسنّ وهو مستمد من مثل شعبي يقول (الكثرة وقلّة البركة، كيف عظام الرأس).
4) "ردم الهوة الطبقية ومعالجة المشاكل الاقتصادية تتصدر برنامج اوباما الانتخابي".radiosawa.com
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: