(137) قاعدة فى معيار الحكم على أعمال الكاتب أو الأديب أو الروائى
د. أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7306
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يقول العلماء : ما من فعلة وإن صغرت، إلا وينشر لها ديوانان: لم، وكيف. أى لم فعلت وكيف فعلت. فالأول سؤال عن علة الفعل وباعثه والداعى إليه. هل هو لغرض من أغراض الدنيا من محبة المدح من الناس، أو خوف ذمهم، أو استجلاب نفع عاجل أو دفع مكروه. أم الباعث على القيام بالفعل هو القيام بحق العبودية والتودد والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى وابتغاء الوسيلة إليه. وبمعنى آخر هل الفعل لله أو الهوى. والثانى: سؤال عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. هل ما يكتبه الكاتب أو الأديب أوالروائى فيه متابعة للرسول صلى الله عليه وسلم أم لا ؟. أى هل كان الفعل طبقا لما شرعه الله تعالى على لسان رسوله، أم كان عملا لم يشرعه الله ويرضاه. السؤال الأول عن الإخلاص، والثانى عن المتابعة. فإذا قيل أن أمر الإخلاص أمر لا يمكن الحكم عليه فهو بين الكاتب وربه، فإن أمرالمتابعة لا يحتاج إلى عناء فى معرفة مدى موافقته أومخالفته لأمر الشارع. ولا بد للعمل - حتى يقبله الله تعالى - من أن يكون خالصا، أى يتجرد فيه الإخلاص لله، وأن يكون صوابا أى يجرى طبقا لما شرعه الله تعالى على لسان رسوله. والعمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل.
فإذا تقرر هذا انبنى عليه عدة قواعد منها : أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهى أو التخيير، فهو باطل بإطلاق، لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه وداع يدعو إليه.فإذا لم يكن لتلبية الشارع فى ذلك مدخل فليس الباعث إلا مقتضى الهوى والشهوة. وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق، لأنه خلاف الحق بإطلاق. وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق هو الأمر والنهى أو التخيير فهو صحيح وحق، لأنه قد أتى به من طريقه الموضوع له ووافق فيه صاحبه قصد الشارع فكان كله صوابا.
ولعل هذه القاعدة هى التى تجعل البعض يرفض بشدة تطبيق الشرع على الأعمال الأدبية أو الروائيه، لأن الشرع يحكم عليها بالبطلان طالما أنها تخالف أحكامه. لكنهم يحكمون عليها بالإبداع لأنها تجرأت وخالفت هذه الأحكام.
وقد وضع العلماء عدة قواعد فرعية فى هذا المجال يمكن إجمالها فيما يلى :-
1- لا يركن أحد إلى شرع نفسه وشرع ابيه وبين يديه شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا وهو لا يعلم ولايهتدى. وليقل عن نفسه أو ليقل عنه غيره ما يشاء أنه يعلم وأنه يهتدى، فالله سبحانه وتعالى أصدق. ومن يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس فهو مغترضال جهول.
2- استحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم فى الأمر، والأدب مع الله يقتضى تلقى أحكامه يالقبول والتنفيذ.
3- لا يعترف الإسلام بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا فى ذاته صالحا.، ولا يتصور إمكان إنفصال أى جزئية فى حياة المسلم عن الإسلام لأنه ليست هناك جوانب من جوانب الحياة يمكن أن تخرج عن منهجه. وبعنى آخر فإن كل جزئية فى الحياة الأنسانية يجب أن تخضع خضوعا مطلقا لسلطان الله المطلق.يتمثل هذا السلطان فى شريعة الله والخروج على سلطان الله فى جزئية صغيرة يعنى الخروج عن الدين جملة
4- مشركوا العرب كانوا يقرون بوجود الله وما كانوا يجحدون الله تماما، بل كانوا يقرون بوجوده سبحانه وبأنه الخالق الرازق المالك المحي المميت، لكن انحرافهم الذى وصمهم بالشرك هو أنهم ما كانوا يعترفون بمقتضى اعترافهم ذاك بتحكيم الله سبحانه فى أمرهم كله، ونفى الشركاء له فى تدبير شؤون حياتهم، واتخاذ شريعته وحده قانونا ورفض مبدأ تحكيم غير الله فى أى شأن من شؤون الحياة. هذا الذى وصمهم بالشرك والكفر مع إقرارهم بوجود الله سبحانه.
ولنأخذ "نجيب محفوظ" مثالا لذلك. كان الإخلال بهذه القاعدة هو السبب فى قوله : " أنا مسلم مؤمن وأعتقد أن الدين الإسلامي يدعو إلى الإشتراكية، وأنا شخصياً لا اختلف مع الماركسية إلا في شقها الفلسفي المادي فقط ". ويكرر ذلك في موقع أخر فيقول : "الحق أني معجب بالماركسية فيما تحقق من عدالة إجتماعية ورؤية إنسانية شاملة وإعتمادها على العلم، ولكني أرفض ديكتاتوريتها وفلسفتها المادية ". وهو السبب فى خلطه صوت الآذان بأصوات منكرة فى رواياته، وهى التى جعلته يقول فى أحد رواياته "لا حكمة في الماضي.. اين الله ؟.. وما أساطير الديانات؟ وما جدوى التفكير في مسائل لا يمكن أن تحل ؟.... فكما أنقذتنا الديانات من الوثنية يجب أن يتقدم العلم وينقذنا من الديانات" وهى السبب فى قوله :" إن القدر اعتقاد فاسد لايجدر للاقوياء التسليم به"
وكثيرا ما يحاول الأدباء الإدعاء بأن ما يقولونه من أفكار وآراء فى رواياتهم ليست هى آراؤهم وإنما هى من قبيل إكمال الصورة الاجتماعية فى الرواية ولا يهدفون منها إلا بيان قوى التصارع أو التفاعل الفكرى فى مرحلة معينة من مراحل تطور المجتمع الذى يكتبون عنه
لكن مريدى نجيب محفوظ نفسه يؤكدون أن الأفكار التى يعرضها " نجيب محفوظ " فى رواياته هى أفكاره الشخصية. يقول أحد هؤلاء المريدين :" أنه في مختلف الصور التي يعرضها "محفوظ" لفكرة الإله يبدو أثر فكره الفلسفي مثلما يفوح العطر من الوردة بل يتخذ من أبطال قصصه في بعض مواقفهم ما يمثل صورة موازية لبعض مواقفة في بعض فترات حياته الفكرية والنفسية إلا أن ذلك بالضرورة لا ينطبق تماماً كما يتطابق المثلثان وانما تحس خلال عرضه الفني بأن هنالك وشائج خاصة تربط بين البطل وبين المؤلف حتى إنه من الممكن في بعض اللقطات السريعة أن تستبدل احداهما بالأخر وانت مطمئن الى ما تفعل ".
كان أول نتاج لقلم " نجيب محفوظ " هو مقالة له نشرت في عدد أكتوبر 1930 من مجلة سلامة موسى ( المجلة الجديدة) ولم يكن وقتها قد بلغ التاسعة عشرة من عمره، وفي مثل هذا السن – كما يقول مريدوه - يكون الشاب أكثر ميلا للثورة والخروج على العرف والقيم السائدة يحلم بتغيير العالم واثقا من قدرة الذات واسع الطموح أكثر ميلا الى الادعاء". يقول "محفوظ" فى هذا المقال: " وليس من شك في أن استقرار الحياة وثبات المدنيات وسير الأمور في مجراها الطبيعي خير من ذلك الإضطراب المروع، ولكننا مع ذلك لانبتئس بقرب زوال المعتقدات البالية ولاندعو المفكرين إلى الكف عن بحثها ونقدها والأفضل للإنسان أن يكون له إيمان ديني فإذا لم يتوافر هذا الايمان الديني فلا بد له من ايمان بديل يسلم اليه نفسه وفكره ".
ويقول أحد كبار مريدى " نجيب محفوظ " معلقا على ذلك : " كان يمكننا أن نرفض موقف "نجيب" في المقال ولانهتم به اهتماما كبيرا رغم ذلك كله باعتباره تجربة أولى لشاب ناشيء لايمكن الحكم عليها أو عليه لولا أن الأفكار الرئيسة التي يدور حولها المقال ظلت من المحاور الثابتة في تفكير "نجيب محفوظ" وأدبه وإن إكتسبت بمضي الزمن قدرا أكبر من النضج والعمق والوضوح.
---------------------
( انظر مقالاتنا عن نجيب محفوظ فى نفس الموقع بعنوان :
تعدى نجيب محفوظ على الله والأنبياء :"إبداع أدبى وحبكة فنية روائية أم انحراف عقدى"
وكذلك :تهافت الإدعاء بالإسلامية والروحية في أدب نجيب محفوظ ).
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: