ويقول العلامة الشهيد سيد قطب ــ رحمه الله ــ: " إن هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية ، وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة ، نختار منها وجها : إنها إشارة بالتنزيل إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف ، وهي في متناول المخاطبين به من العرب ، ولكنه ــ مع هذا ــ هو ذلك الكتاب المعجز ، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله ، الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور مثله ، او بسورة من مثله ، فلا يملكون لهذا التحدي جوابا ... " .
**********
وبشأن الحروف السابقة نستخلص ما يأتي :
1- أنها كلها لا تخرج عن سورة الفاتحة ... فكل حرف منها له وجود أساسي في هذه السورة.
2- أننا تعاملنا معها على اعتبار كل من ( طه ) و ( يس ) حرفين .
3- أن سورة ( ص ) هي السورة ( 38) ترتيبا ونزولا ، أي أنها في ترتيب نزول السور كانت رقم ( 38 ) . وهو نفسه رقم الترتيب في المصحف ، ونحن نعلم أن ترتيب سور المصحف وآياتها إنما هو ترتيب توقيفي ، وبذلك تكون سورة ( ص ) هي الوحيدة ــ في المصحف كله ــ التي تجمع بين الترتيبين النزولي والمصحفي .
4- أن الترتيب النزولي لسورة ( ق ) هو ( 34 ) ، أما ترتيبها في المصحف فهو ( 50 ) . وبينها وبين سورة (ص) ــ إذا نظرنا إلى الترتيب النزولى ــ ثلاث سورهي : البلد و( ترتيبها النزولي ) ( 35 ) والطارق ، و( ترتيبها النزولي ) ( 36 ) ، و ( القمر ) وترتيبها النزولي ( 37 ) .
**********
وسورة ( ص ) تتخذ من هذا الحرف اسما ، كما تبدأ به ( ص والقرآن ذي الذكر ) . وهذا الحرف يعكس من المضامين ــ المباشرة وغير المباشرة ــ ما يفتح النفس ، ويهز الوجدان : فمنه الصباح ، والمصباح ، والصبر ، والصلاح ، والصلاة ، حتى أصبح من الدارج أن يتخذ هذا الحرف للدلالة على الصلاة على رسول الله ، فيقال " أمنت بالله ، وبمحمد ص " أي صلى الله عليه وسلم .
وهذه السورة تدور حول محاور اساسية متعددة هي :
1- النعي عن الكفار كفرهم ومروقهم .
2- توظيف القص التاريخي للأنبياء وغيرهم ، والخلوص منه إلى العبرة والعظة .
3- توظيف الإسلوب الحواري على نطاق واسع ( مع داود ، وغيره) ، بل إن الله سبحانه وتعالى بسماحته لا يغلق المجال لإبليس الذي يخاطب ربه بقوله " قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) ومنه الحوار النفسي الداخلي كما نرى في حالة سليمان حين شغل بالخيل عن ذكر ربه ... الخ .
وفي الحوار تلوين فني ، وتنويع أسلوبي يقودنا إلى ما شاءه الله من دروس وعظات .
4- الاستتاب ( أي طلب التوبة ) ، بطريقة مباشرة ، أو بالثناء على التائبين والصالحين . فمثلا تكرر الآيات كلمة (أواب )أربع مرات: "... وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( اية 17 )
" وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ " ( أية 19 )
" وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ " ( أية 30 )
" ... إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( أية 44 ) .
ومعروف أن التكرار يستعمل لتأكيد المعنى أو للتلذذ بالذكر .
وهذا عنصر أساسي في السورة التي بدأت بحرف يفتح النفوس
والقلوب .
5- إصدار الأحكام الحاسمة مستخلصة من الدروس المعروضة .
**********
وحرف القاف ــ اسما للسورة وبداية لها ــ يدخل في نطاق التحدي وإبراز إعجاز القرآن ، شأن الحروف الآخرى في مطلع السور . هذا الحرف حرف قوي صاخ ، يوحي ابتداء بالقحل ، والسحق ، والمحق ، فلا عجب أن تأتي السورة وقد تكرر في كلماتها هذا الحرف أكثر من خمسين مرة ، في أولها ووسطها ، وأواخرها ، مما يقودنا إلى معايشة الجو الذي تسيطر عليه السورة .
وجاء النسق التعبيري لسياق السورة بصورة تدل على الإعجاز وهي : إتـْـباع كل مجموعة من آيات الشدة والصعق بآية أو آيتين يحملان " استراحة للتنفس والاستعادة " ، وذلك في صورة مشهد أو موقف هادئ . ومثال ذلك " كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) ... الخ ، فيليها قوله تعالى في بيان هادئ : " أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) .
ويقول تعالى " وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)" إذ تليها الآية التالية : " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) " .
**********
ومن إعجاز هذه السورة استعمال اللفظ الواحد بمعان مختلفة ، تبعا للسياق كالفعل ( ألقى ) على النحو التالي :
1- وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) .
2- أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) .
3- الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) .
**********
ومن الإعجاز أن هذه السورة فيها كلمة لم تستخدم في أية آية من آيات القرآن الكريم وهي كلمة ( سائق ) " وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) " . والسائق هو : الملك الذي يسوقها إلى جهنم ، والشهيد نجده في قوله تعالى " يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( النور 24) .
ولا شك أن كلمة ( سائق ) توحي بالمهانة والذلة والتحقير، وهي كلمة انفردت بها سورة ( ق ) دون القرآن كله .
**********
وما ذكرته آنفا ليس بحثا في سورتي ( ق و ص )، بل وقفات ... مجرد وقفات أمام السورتين، داعين الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
والحمد لله رب العالمين .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: