القرارات السياسية في الولايات المتحدة
حسابات خاطئة، ونتائج كارثية
د- ضرغام الدباغ - ألمانيا
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 1365
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يسود الاعتقاد في بلداننا، أن القرار السياسي الأمريكي عملية دقيقة معقدة. فالمعلوم أن هناك حلقات وقنوات ودوائر عديدة (بالطبع متفاوتة في الأهمية) معنية بهذا الأمر، تدقق وتناقش، وتفحص، من أجل أن تصدر القرارات صائبة خالية من أدنى خطأ. كما يساهم في العملية، إنضاج القرار بصيغه الابتدائية والمتقدمة، (حين يدور الأمر عن خيارات متعددة، بدرجات تصعيد مختلفة)، علماء وفلاسفة واستراتيجيون، وقادة عسكريون أذكياء مجربون محنكون وخبراء أمن، دورهم هو العمل على إنضاج الخيارات، وحساب ردود الأفعال : من يحتمل أن يكون معنا، أو ضدنا، أو يقف على الحياد لحين، أو غير مكترث، أو عديم القدرة على إبداء رد فعل يستحق الاعتبار.
وبالطبع أن هذه التقديرات لا تخلو من المبالغة، وبعض من ذلك بسبب أن العقل الشرقي ميال تلقائيا للمبالغة، من جهة، ومن جهة أخرى، فإن معلوماتنا وإدراكاتنا عن الولايات المتحدة تحملنا على الاعتقاد أن قدراتها هائلة وغير نهائية. والأمريكان أنفسهم بأعتبارهم المالكون لهذه القدرات الكبيرة بالطبع لابد أن يكون هناك شيئاً من الغرور والعجرفة في اتخاذهم لقراراتهم، وربما هناك من القادة السياسيون والعسكريون (من بلداننا وبلداناً أخرى) من يعتقد أن قناعات وقرارات القيادة الأمريكية، هي إرادات سامية وقرارات يجب أن تنفذ وتسود. ودون ريب أن قدرات الولايات المتحدة هي كبيرة، وبالفعل تشارك قنوات وجهات عديدة في إنضاج وصياغة القرارات السياسية، ولكن إذا فكرنا بشكل براغماتي، وتقييم دقة وصواب عمل هذه القنوات من خلال النتائج النهائية، (والأميركان لا يقربون السياسية بالنظريات والآيديولوجيات العقائدية) فإننا سنلاحظ أن أعمالها حافلة بالأخطاء، فطالما سمعنا من مسؤولين أمريكان إدانتهم لقرارات كبرى سبق وأن اتخذتها قيادات سابقة، وتعثر سبيل تحقيقها، بل آلت إلى فشل ذريع، وأحياناً يصح وصفها بالهزيمة. فهل أخطأت كل هذه القنوات والفلاسفة والشخصيات والقادة، والمؤسسات الأستخبارية والعلمية ...؟
وأعترف أن شيئ من هذه القناعات كانت عندي أيضا، ولكنها ابتدأت تتضاءل تدريجياً، أو بعبارة أدق وأكثر وضوحاً بدأت تفقد ذلك الوهج وتلك المصداقية (credibility). ترى ما السبب في ذلك، هل هو بسبب قناعتي أن الولايات المتحدة هى العدو الأول للعراق والأمة العربية، أقول ... كلا، فأنا منذ أن امتهنت السياسة صرت لا أحب أحد ولا أكره أحد. وامتهان السياسة، وسوف أوضحها (منعاً للالتباس) هي عندي ابتدأت منذ أن صرت موظفا دبلوماسياً، أتقاضى راتباً على عملي السياسي، وتعزز ذلك بعد أن درست السياسة كعلم على أيدي علماء جهابذة، وتعلمنا أن نتعامل مع القضايا السياسية كحالات (Cases) ولا علاقة للأمر بالمزاج والمعنويات، بل أن أي قضية سيصيبها عطب شديد إذا مرت عليها نسائم المزاج والعواطف.
ولكن هل بوسع السياسيين أن يتخلوا عن المزاج وأحكام الهوى ....؟
يفترض نعم ... وبالمقدار الذي تتسلل في العواطف في السياسة سيلحق العطب أو الوهن بالموضوع / القضية. ولكن هذا لا يعني أن السياسي يعمل بدون قلب ...! بالتأكيد أنه يحب بلده، ومخلص لها، ولقضاياها، وعليه أن يعمل، ويعمل كثيرا جداً لكي يخدمها أفضل خدمة. ولكن بالوسائل المفيدة. وبأساليب علمية ناضجة، ليضمن لها النجاح. ومنذ السبعينات (1973 فصاعداً) صار نصيب حكم الهوى يتضاءل في أحكامي وتصوراتي السياسية. وكنت منذ بداية عملي في السياسة كحزبي، أعلم تماماً أن المرء يتعلم عن سبيلين أثنين :
• العلم.
• التجربة.
إذا كان العلم موجود في الكتب التعليمية، وفي الجامعات، فالتجربة تستمد مصادرها، من تجاربك الشخصية، وتجارب غيرك، وتجارب الغير تشاهدها أمامك، أو تسمعها، أو تقرأها في كتب ومصادر التاريخ الرصينة. وهكذا ابتدأت تتراكم في الفكر التجارب والدراسة والقراءة الكثيفة، وهي المسؤولة عن مزيد من الرؤية العميقة فكريا وعملياً. من التجارب تعلمت مبكراً الكثير. ومن الكتب المهمة التي تلقي الأضواء الكشافة على السياسة الأمريكية :
ــ كتاب: (نغودين خاكفين: عجز التقنية الأمريكية في فيثنام، بيروت 1968) قرأت بدقة كيف تجرد الأرقام قشور وتهريج البربوغاندا. في هذا الكتاب، تحليل مادي علمي كيف أن صمود الشعوب، يوقع التقدم التكنولوجي بالعجز، وأن تعميق النضال وتوسيعه يشتت قوى العدو ويضعفها. وبهذا المعنى، قال القائد غيفارا " لابد من فيثنام ثانية وثالثة لإيقاع الهزيمة بالإمبريالية ".
في وقت لاحق، وحين تعمقت دراستي السياسية، قرأت كتبا كثيرة مهمة ومن تلك:
ــ نشوء الولايات المتحدة. وهذا كتاب ينبغي أن يقرأ بعمق ليطلع الدارس على الأصول التاريخية لنشأة الولايات المتحدة ودور القوى المختلفة في هذه العملية.(باللغة الألمانية / مترجم).
ــ مذكرات الجنرال الأمريكي روبرت هويزر" أياديكم ملطخة بالدماء " عن دور الولايات المتحدة في الثورة الإيرانية عام 1979.(باللغة الألمانية/ مترجم).
ــ مؤتمر بوتسدام / 1945، وفي هذا المؤتمر يلاحظ الكثير من المساعي الأمريكية واستخفافها وغدرها حتى بحلفاءها المقربين. (باللغة الألمانية/ مترجم).
ــ الإمبراطورية الأمريكية، كلود جوليان،(رئيس تحرير صحيفة الموند الباريسية)، وفيها حقائق مذهلة عن القرارات الأمريكية السياسية والاقتصادية.
ــ استراتيجية للغد، هانسون بالدوين (باحث أمريكي)، وهذا كتاب يوضح أصول القرار السياسي الأمريكي في حقبة الحرب الباردة.
ــ محاضرة للمستشار الألماني الأسبق هيلموت شمت، التي تنبأ فيها بضعف متواصل للولايات المتحدة وعجزها عن كسب معاركها. (باللغة الألمانية / مترجم).
ــ عقد من القرارات، وليم كوانت.
ــ الاشتراكية والبلدان المتحررة، (Uljanowiski, A.: Der Sozialismus und die befreiten Länder, Berlin 1973)
ــ بريماكوف، يفغيني: تشريح نزاع الشرق ا(وسط، دمشق 1979
وأعمال أخرى كثيرة أكثر من أن تحصى، وفي اتجاهات متعددة، أوصلتني لقناعة أن ليس من الضروري أن يتمتع القادة السياسيون والعسكريون الأمريكان بالنزاهة التامة كما نتصور. ولا بالعبقرية التي نعتقدها، وإلا بماذا نفسر الحجم الكبير جداً من الفشل والاخفاقات وتراجع مكانة الولايات المتحدة السياسي والأخلاقي قبل الاقتصادي، رغم الاستخدام الكثيف جدا للقوة المسلحة المتفوقة، وللقوة المالية. وقد قرأت تقارير عديدة ومن مصادر ممتازة، تشير بدقة إلى تورط قادة سياسيون بقضايا فساد مالي، وضباط من القوات المسلحة الأمريكية، بتهريب المخدرات (أفغانستان) وتورط آخرين بغسيل الأموال، وتهريب الذهب والأحجار الكريمة، وفي العراق كانت البيوت التي تتعرض للتفتيش (لأي سبب) وتتعرض لسرقة الأموال النقدية، الدولار والعملات الصعبة، والذهب، والتحف. وقد تعرضت دوائر عراقية كثيرة لسرقة الآثار الخيالية السعر، وقضايا تحف من القصور الرئاسية، وآثار وأعمال فنية (لوحات ومنحوتات). وكنت خلال دراستي وإقامتي في ألمانيا قد أطلعت على معلومات ومعطيات مؤكدة، أن الجنود الأمريكان (بشكل خاص من قوات الاحتلال)، سرقوا ونهبوا الكثير جداً من التحف ألالمانية التي كانت حتى الاحتلال من البلدان الراقية والثرية في العالم. عدا الموجودات من العملات الصعبة في البنوك .
أما عن تورط العسكريين في جرائم حرب وإبادة، والاغتصاب، فهذه أكثر من أن تعد وتحصى، في ألمانيا وفي كوريا، وفيثنام والعراق وأفغانستان لا حصر لجرائم الاعتداء والاغتصاب والقتل والتعذيب حتى الموت، وحتى إقامة مجازر بإشرافهم المباشر، أو بتوجيه أذنابهم من العملاء المحليين. وفضائح السجون السرية، وانتهاكات غوانتنامو.
أما على الصعيد السياسي، فلا تتورع القيادات الأمريكية من استغلال الأمم المتحدة ومجلس الأمن استغلالاً بشعاً، فأساليب الضغط على الدول الأعضاء كثيرة ومتنوعة، تبدأ من الضغط، إلى التلويح والتهديد، إلى عرض مزايا (قروض)، وصولاً إلى تقديم الرشاوي، وهناك شبكة لها امتدادات خيالية، وأبعاد مذهلة. فعلى سبيل المثال كشفت الأحداث صدفة، أو من خلال صحفيون يتميزون بالجرأة، أن عصابة الأربعة " الرئيس بوش، ورامسفيلد، وديك شيني، وكونداليزا رايز" هم في الواقع من كبار المتنفذين في الشركات والبنوك العملاقة، واحتكارات صناعة الأسلحة. وقد شاهدت لقطات تلفازية، الشعب يهينهم ويحتقرهم، ولكن هذه قليلة الأهمية في العالم الرأسمالي، فالاعتبارات المعنوية والكرامة لا قيمة كبيرة لها، فالمهم هو حجم الرصيد في البنوك، والأسهم والمداخيل.
القادة الأمريكيون، يحكمون دولة عظمى، تمتلك قدرات هائلة، ومع ذلك فقادتهم ورؤساءهم لا يتورعون عن الإتيان بأعمال مخجلة، حتى يصاب المرء بالذهول، كيف بلغت هذه الطحالب إلى قمة الهرم، ولا يتورعون عن إطلاق الشتائم البذيئة، وبعضهم هزيل المستوى الثقافي بدرجة مخجلة. وإذا كان هذا مقبول تقريباً في أي مكان، وإذا كان النظام الأمريكي دقيق للغاية ونصدق ذلك، إذن كيف يتكرر هذا الأمر، بلوغ قادة للصف الأول على هذه الدرجة من الضعف. وكيف تتواصل الهزائم الأمريكية والنكسات والأخطاء الفادحة (وفق تقديراتهم). وكيف تقبل المؤسسات البريطانية وهي دولة قديمة ورزينة، أن يكذب رئيس وزرائها بطريقة غير لائقة أبداً على الحكومة والبرلمان والشعب علنا ..؟ وبعضنا يعتقد أنهم دول عظمى مهمة ...! يمتلكون أسلحة فتاكة نعم، ولكنهم عظمى ومهمة ... للأسف لا ...!
الولايات المتحدة لم تحقق النجاح التام في كوريا، رغم أنها كانت تحتكر السلاح الذري، ووجود عسكري وسياسي طاغ في شرق آسيا، وجلبت معها جيوش الناتو، ثم أرغمت على هزيمة مرة في فيثنام، وكابرت لمدة 20 عاماً في أفغانستان هذا البلد الفقير الذي لم يساعده أحد، شعب باسل قاوم الأمريكان وحلفاءهم بقدراته الذاتية المتواضعة، وبلحم صدورهم عشرون عاماً. وفي حملة حمقاء في العراق تتراجع وتتخبط في تصريحات قادتها " أننا أخطأنا... فننسحب بتعقل كما تورطنا بحماقة ". ولكن المعطيات تشير إلى أنهم فعلوا كل شيئ بتخطيط دقيق، ولكنه تخطيط عدواني وبقيادات فاسدة، فلسفة رجعية معادية لحركة التاريخ، تعاملت في الشأن العراقي كصفقة، وفي حرب لم يكن لها داع، خربوا بها بلداً كاد أن يغادر قطاع البلدان النامية، وأعادوه كما خططوا للعصور ما قبل الحجرية. ولكن المطامع في التهام الشرق الأوسط بقضه وقضيضه. والهدف النهائي هو وضع العالم بأسره تحت هيمنتهم وخدمة اطماعهم التي لا سقف لها، فهي كالوحش الذي يجوع أكثر كلما ألتهم أكثر.
أميركا بلد عملاق ذو اقتصاديات جبارة، ولكنه اقتصاد فاسد، هناك ثراء فاحش جداً، وفقر مدقع جداً والمشردين في الشوارع، مجتمع يفتقر تماماً إلى روح التضامن بين أفراده (solidarity) وهذا البلد الثري ليس فيه التأمين الطبي، والمواصلات العامة في أوطأ درجاتها، اعتادوا على النهب وأدمنوه، وسوف لن يتمكنوا من العيش من دونه، خططهم قائمة على معطيات خاطئة، لذا يصطدمون حتى مع أقرب حلفاءهم وأصدقاءهم، فهم مكروهين في كافة أرجاء العالم.
هناك دائماً خطأ ما في مكان ما يبحثون عنه بعد حلول الكوارث ... ولا يجدوه لماذا ...؟ لأن الخطأ يكمن في الجوهر، ولا أحد يقوى على ذكر الحقيقة الكبرى ... فعلوا المستحيل لكي يضعوا أقدامهم في أفريقيا، ولكن الأفريقيين لا يودون حتى رؤيتهم، فالسياسة الأمريكية هي خلطة / تركيبة (Combination) من الأحلاف، والتعامل الاقتصادي غير المتكافئ، والاستهانة والاستصغار، والتدخل في الشؤون الداخلية، وإذا احتاجت اللوحة إلى اللون الديني لتكتمل ألوانها، فيستعينون بالمؤسسة الدينية المسيحية والإسلامية واليهودية، لا يهم، فالمهم والأهم أن تخدم الغرض السياسي، ولا يساعدون في حل أبسط مشكلة في البلاد التي يتدخلون بها، بل يزيدون الصراعات الداخلية تأججاً، ويبحثون عن ثغرات الضعف ليعمقوها .... لذلك سوف لن يأسف أحد على أفول شمس الإمبريالية الأميركية.
في السياسة لا يوجد شيئ نهائي ....هذه سنة الحياة في السياسة، لأنها تعتمد على أسس قابلة للتغير. والولايات المتحدة ستفقد قلاعها إن عاجلاً أو آجلاً، (وأرجح عاجلاً) ستتساقط في كوريا الجنوبية، وفي إيران بفعل التناقضات الداخلية والخارجية، وإسرائيل بوصفها الكيان الخطأ في المكان الخطأ، هذه الأطراف الثلاثة مرغمة ومحكومة بالتحالف مع الولايات المتحدة، فهي أساس وجودها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: