الأنبا "تاوضروس" وجماعة الأمة القبطية .. اتفاق أم حرب تكسير عظام ؟
يحيي البوليني - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 5553
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في الرابع من نوفمبر عام 2012 اعتلى البابا تواضروس الثاني كرسي البابوية؛ ليصبح مطران الكرازة المرقصية رقم 118 خلفا لشنودة الثالث الذي رحل في بداية عام 2012 .
ويواجه الرجل عدة مشكلات ضخمة خلفها له سلفه , فمنها مشكلات داخلية بقضايا عالقة مثل الزواج الثاني ومنها ما هو أخطر على المستوى الخارجي وخاصة في علاقة الكنيسة بالدولة وعلاقة المسيحيين بالمسلمين في طول البلاد وعرضها وخاصة بعد أحداث عنف وتوترات كثيرة حدثت في فترة البابا شنودة التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً.
إلا أن الموقف الأبرز الذي سيواجه البابا تواضروس والذي سيحكم عليه من خلاله التاريخ المصري بوجه عام والتاريخي المسيحي في مصر بوجه خاص هو موقفه من تلك الجماعة المتطرفة التي باتت تتحكم في كثير من مفاصل كرسي البابوية وهي جماعة "الأمة القبطية " .
وهذا الموقف بالتحديد هو الذي سيرسم خارطة طريق النصارى في مصر للفترة المقبلة التي سيكون فيها تواضروس هو بابا الكنيسة وربما ما بعدها.
فربما لايعرف الكثير من المسلمين أن هناك خلافات حادة بين الطوائف النصرانية تصل إلى حد التكفير العلني المتبادل بينهم لدرجة أن الأنبا شنودة الثالث رفض مقابلة بابا الفاتيكان يوحنا بولس في زيارته لمصر ومنعه من أن يدخل كنائس الارثوذوكس لاعتقاده بكفره.
وربما أيضا لا تعرف النخب المثقفة غير المُتابِعة بدقة للشأن القبطي في مصر أن هناك جماعة شديدة التطرف والدموية والحقد موجودة كتيار قوي داخل الكنيسة تفرض كلمتها وسيطرتها وسطوتها على الكثير من قرارات الكنيسة وتوجهاتها , وتعتبر هي المسئولة الأولى بشكل مباشر وغير مباشر عن كل إحداث الفتن التي حدثت في مصر منذ نهاية الستينات للآن ولم يسلم من شرورها وجرائمها أحد حتى النصارى أنفسهم.
ومن أهم ملامح تدخلات تلك الجماعة المتطرفة تغيير فكر المؤسسة الكنسية من دورها كرعاية روحية للنصارى لتأخذ منحى جديدا بتدخلها المباشر في السياسة والتعامل مع القضايا السياسية الداخلية والخارجية وكأنها تعبر عن رعايا لدولة خارجية داخل الدولة المصرية , واعتبرت وكأنها دولة داخل دولة تتحكم في رعاياها وتوجههم سياسيا , فعمقت لدى النصارى إحساسا شديدا بالغربة عن المجتمع المصري وفصلتهم كليا أو جزئيا عن المشكلات الحقيقية المصرية وحصرت كل تفكيرهم في صراعات بينهم وبين المسلمين من جهة وبين الدولة من جهة أخرى لتتأجج على فترات متعاقبة حوادث فتنة في موجات مد وجذر متتالية .
ولعلنا نرجع قليلا للخلف لنرى الخطوات التي اتخذتها تلك الجماعة الدموية في التغيير الفكري لدور الكنيسة وتأجيج الفتن .
البداية:
ففي أوائل القرن العشرين وعلى يد راهب يدعى انطونيوس أنشئت جماعة ذات توجه فكري جديد مناهض لتوجه وأفكار الكنيسة الارذوكسية في ذلك الوقت , وكان المنطلق الفكري الأول لها أن يتم تقسيم من سموهم بأعداء الكنيسة لأقسام والعمل على سحقهم بمختلف الطرق تمهيدا لبناء كنيسة قبطية عظيمة كشرط لاستقبال المسيح عندما يعود للأرض.
وبالطبع ووجهت تلك الجماعة باعتراض ورفض شديدين من الرهبان والكهنة , واعتُبرت تلك الأفكار خروجا صريحا عن تعاليم المسيحية فزاد تحذير الكهنة والرهبان منهم , فاعتزل انطونيوس بأنصاره في دير في أقصى الصحراء الغربية ليصقل خبراتهم ويعدهم لخوض معارك طويلة مع العديد من الجبهات وكان من ثمارها وأهدافها المشاركة – بصفة جماعية – في العملية السياسية تحت شعارات مثل " اطعن عدوك بخنجره .. أو بعدو لكما " وهي المبادئ التي اعتبرتها الكنيسة خروجا عن تعاليمها التي سارت عليها منذ قرون طويلة .
وكان الزمن في صالح جماعة " الأمة القبطية " التي كانت تجتذب باستمرار كهنة ورهبان جددا في حين كان يتقلص المعارضون لها بعوامل الزمن والدسائس والمكر , فكان من التلاميذ الجدد " عازر يوسف عطا " والذي أصبح فيما بعد البابا " كيرلس السادس " وأيضا تلميذه النجيب الدكتور سعد عزيز الذي أصبح يعرف بعد ذلك بـ " الأب متى المسكين " ثم جاء التلميذ الأكثر شهرة والأوفر حظا بينهم , ألا وهو نظير جيد روفائيل الذي أصبح يعرف في بدايته ككاهن باسم أنطونيوس السرياني ثم أصبح بعد ترسيمه بابا للمسيحيين باسم " الأنبا شنودة الثالث".
وهكذا حدث الانقلاب الفكري في تاريخ المسيحية في مصر فاحتلت تعاليم الأمة القبطية مكان تعاليم المسيحية الأرثوذكسية للكنيسة القبطية دون أن يلحظ كثير من النصارى أنفسهم ما يحدث داخل الكنيسة من صراع فكري وتغيير استراتيجي.
الحدث المأساوي التاريخي:
ومثلت اللحظة الفارقة في تاريخ المسيحية في مصر اللحظة التي شعر فيها الأنبا يوساب الثاني البطريرك رقم 115 من عام 1946 - 1956 م بالنشاطات المريبة من الكاهن متى المسكين , فأمر بعزله , وبعدها أصدر المجمع المقدس قرارا بسحب الاعتراف بدير مار مينا بمصر القديمة حيث كانوا يقيمون , فكانت اللحظة الحاسمة للانقضاض على كرسي البابوية وذلك في بدايات عصر ثورة يوليو 1952 التي أعلن حكامها حيادهم وعدم تدخلهم في خلافات الرهبان مما زاد جماعة الأمة القبطية قوة , واشتد الصدام بين الجانبين بينما غضت الحكومة العسكرية الطرف عن حادث قطار الصعيد الذي راح ضحيته عدد من الكهنة ورجال الدين المعادين لفكر تلك الجماعة ويتردد أن من دبره هم أعضاؤها , وبعدها اجتمع أعضاء من جماعة الأمة القبطية لمطالبة البابا يوساب الثاني بكتابة استقالته واعتزاله لكنه رفض وأصر على أن يستمر في موقعه .
وفي أكثر الفصول إجراما ودموية , فبعد خمسة أشهر فقط من وقت عزل الراهب متى المسكين حيث قام رهبان تلك الجماعة بالهجوم مرات متعددة على المقر البابوي واقتحامه وإصابة كثير ممن فيه بإصابات بالغة , حتى تمكنوا في إحدى هذه المرات من اختطاف البابا يوساب الثاني بقوة السلاح , وتم اقتياده إلى أحد الأديرة يقال انه دير المحرق بأسيوط ولكنه عاد بعد أيام , فتم إرساله بالقوة إلى المستشفى القبطي للعلاج - وهو بغير علة – وذلك ليعيش تحت حراسة مشددة لعزله عن العالم , ولكنهم لم يتمكنوا من تنصيب بابا آخر لمخالفة ذلك لتعاليمهم فالبابا لا يزال حيا .
وعاشت الكنيسة بأبنائها تلك الفترة وهم لا يعلمون شيئا ولا يستطيع أحد منهم أن يتدخل , فقليلون من يدركون حقيقة الأمر , فالرجل ظل بصحة جيدة وهو قيد الحبس الجبري , ولكن بعد مرور وقت قليل أعلن فجأة وفاة البابا يوساب الثاني وسط شكوك لها وجاهتها حول تعرضه للقتل العمد , بينما أكد آخرون أن الرجل كان مخدرا تماما وجرت مراسم الدفن تحت تأثير ذلك المخدر ثم نقل إلى احد الأديرة ليكمل فيها حياته حتى يتمكنوا من إعلان بابا جديد للنصارى في مصر .
وتمكنت جماعة الأمة القبطية من فرض ابن من أبنائها وهو البابا " كيرلس السادس " ليعتلي الكرسي البابوي في 10 مايو 1959 عن طريق ما يسمى القرعة الهيكلية – التي يبدو أنها تعمل وفق قواعد محددة - لتختار كيرلس متقدما على الكثيرين ممن هم أولى منه بمنصب البابوية , وكانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ الكنيسة التي يتم فيها اختيار البابا بطريقة القرعة هذه اليهودية الأصل , وبعد تنصيب كيرلس يبدأ نظير جيد ( شنودة ) طريقه للكهنوت الذي منعه يوساب الثاني منه ليكون بعدها البابا التالي لكيرلس والذي كانت جماعة الأمة القبطية في عهده في أزهي عصورها .
شنودة خلاصة فكر جماعة الأمة القبطية:
وفي عهد كيرلس يتولى شنودة التعليم بالكنيسة ليخرج أجيالا من المؤمنين بفكر جماعة الأمة القبطية والتابعين له شخصيا وليزداد نفوذه في الكنيسة لدرجة أنه تمرد – بعد أن انضم له معلمه متى المسكين - على كيرلس بابا النصارى ليبدأ فصل جديد من فصول الصراع بين الأمة القبطية والبابا الذي خالف قليلا بعض أوامر جماعة الأمة القبطية , فسارع كيرلس بتجريد الراهب متى المسكين وتلاميذه وعلى رأسهم الراهب انطونيوس السريانى ( شنودة ) من مكانتهم الكهنوتية ثم أصدر قرارا بالتجريس بمتى المسكين وتلاميذه والعزل من رتبتهم الكهنوتية ومن انتمائهم إلى الرهبانية وتم نشر القرار في جريدة الأهرام ., وحينها هاجر بعض النصارى من أبناء الأمة القبطية خارج مصر خوفا من الضربات التي يتعرضون لها من البابا كيرلس وخشية فضحه لمؤامراتهم وخاصة أنه كان منهم ويعلم كثيرا من أسرارهم , فخرجوا لينشئوا كنائس ارسوذوكسية موالية لجماعة الأمة القبطية لتكون بؤر تجمع أخرى إذا ضربت حركتهم في مصر وليحملوا اسما شهيرا ومؤثرا فيما بعد وهو اسم " أقباط المهجر " .
وحاول كيرلس بعد ذلك تصحيح أخطائه تجاه كل الرهبان الذين تم التنكيل بهم وأيضا لما فعله من تحويله للأديرة إلى سجون ومعتقلات وإقامات جبرية لأعداء فكر جماعة الأمة القبطية لكن الموت كان قريبا منه .
وفي هذه الأثناء يموت عبد الناصر الذي كان من اكبر الداعمين لجماعة الأمة القبطية ويتولى المنصب أنور السادات الذي كان يكن عداء وبغضا شخصيا للأب متى المسكين الذي كان يلقبه بالراهب الشيوعي وبالتالي يكره كل تلاميذه وعلى رأسهم شنودة .
فما كان من الأمة القبطية إلا أن تتحرك وبسرعة قبل أن يستعين كيرلس السادس بأنور السادات ليقضي عليهم , فكان لابد من انتزاع كرسي البابوية من كيرلس السادس بأي ثمن , وبنفس الكيفية أعلن فجأة عن وفاة كيرلس السادس في الثلاثاء 9 مارس 1971 في نفس الوقت تقريبا الذي أعلن فيه عن وفاة بابا نصارى إثيوبيا المعين من قبل كيرلس تزامنا مع وفاة عبد الناصر !! .
شنودة بابا للكنيسة:
ولعبت القرعة الهيكلية لعبتها للمرة الثانية فأخرجت شنودة الثالث رغم أن عمره لم يتعد 48 عاما وكان أصغر بكثير ممن نافسوه وعلى رأسهم أستاذه متى المسكين , واختارت القرعة الهيكلية شنودة كي لا يتم صدام مباشر مع السادات ولإمكانياته العالية في المفاوضات والمناورات السياسية , اختارت شنودة لتبدأ أكثر فترات حكم الكنيسة عنصرية وإجراما ودموية وظهرت على الأفق مصطلحات جديدة أهمها مصطلح الفتنة الطائفية التي لم تنته ولم تتوقف حتى آخر لحظة من حياته وكانت في حياته محطات شهيرة منها مع الرئيس السادات الذي عزله ووضعه تحت الإقامة الجبرية ومنها مع الرئيس المخلوع مبارك الذي أعاده وأعاد لجماعة الأمة القبطية المتطرفة عنفوانها وليمتزج – بعد ذلك - معها سلطة المال والإعلام لتتدخل تدخلات مباشرة وسافرة في السياسة المصرية داخليا وليكتمل التدخل بتصرفات أقباط المهجر في الخارج .
والآن جاء دور الأنبا تواضروس لتكون له الكلمة ليعطي بشكل عملي إجابات واضحة على أسئلة لابد وانه يعيشها الآن , فهل ينتمي تواضروس لجماعة الأمة القبطية بمفاهيمها وافكارها ودمويتها ومكرها , وخاصة أنه يعلن مرارا أنه من تلامذة البابا شنودة ؟
وهل يكون للمنشأ الذي نشأ أو مر عليه ثلاثتهم تأثير على شخصياتهم؟
فالأب متى المسكين كان يعمل صيدلانيا ويمتلك صيدلية بمدينة دمنهور , والأنبا شنودة عاش أكثر من نصف حياته الأولى في دمنهور عندما اصطحبه أخوه الأكبر للإقامة معه فيها , بينما عاش " وجيه حنا باقي سليمان " - تواضروس الثاني - في دمنهور ومنها حصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الإسكندرية وعمل قبل الرهبنة مديرا لمصنع أدوية دمنهور وكان آخر منصب كنسي له أسقف عام البحيرة , وخاصة أيضا بوجود أكبر دير للنصارى في مصر في البحيرة وهو دير الأنبا بيشوي في وادي النطرون وفيه دفن البابا شنودة .
ولو لم يكن تواضروس من أبناء تلك الجماعة الدموية فهل يستطيع أن يعود بالكرسي البابوي إلى أيام البابا يوساب الثاني ويقلص من نفوذ تلك الجماعة داخل الكنيسة وخارجها ؟ وهل يستطيع مواجهتهم أم سيخذله النصارى الحقيقيون في احدث صدام بينه وبين جماعة الأمة القبطية كما حدث مع يوساب الثاني وكيرلس السادس في آخر حياتهما ؟
15-11-2012
|