د. ضرغام الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5993
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الجماهير العربية ثائرة، وتلك التي لم تثر اليوم ففي غد ستكون ثورتها أشد هولاً، لأنها سوف تختزن كل إرهاصات الثورات العربية وتجاربها، ومرارة الصمت الطويل والصبر على إهانة الاحتمال المر، ثورات ستترى حتى تتبلور مواقف نظرية / قانونية، سياسية، وسيستغرق كل ذلك وقتاً غير يسير، ولكن لا أجد من المفيد وصم ثورة الناس بأنها: إرهاب، سلفية، مؤامرة خارجية، مجرمين ..الخ
الثورات والانتفاضات العربية بكل ما تحتويه من غث وسمين، بما في ذلك من تسلل إليها مستغلاً عفوية الجماهير وتوقها للخلاص من الاستبداد، تشير بتقديري لأمر هو جوهري، نتمنى أن يستخلص الجميع منها، سواء الحكام والأنظمة العربية، أو جماهيرنا العربية، ومفكرينا وعلماء السياسة على حد السواء، العبر والدروس، وأن أحدى أهم تلك العبر: أن عهد الأنظمة المطلقة قد أنتهي، ملكية كانت أم جمهورية.
والعامل الحاسم المؤثر في المسيرة التاريخية لإشكاليات وفلسفة النظم السياسية، هو التطور الكبير جداً في مفردات الحياة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في العالم بأسره، وتطور كبير لأجهزة الأتصال (Communication and Transport System) ووسائل المواصلات. فحقاً أن العالم قد أصبح مجرد قرية صغيرة، ولم يعد هناك مجال البتة لحجز الشعوب في عصور وأنظمة متخلفة عفى عليها الزمان، ومن يشاء التعامل بعقل الماضي مع حاضر يشع بالألوان والأنوار، فسيتحمل بنفسه وزر ذلك أمام شعبه. فالعقود المقبلة ستحمل تحديات أكبر، وقد تبدو بعض من تلك التحديات غريبة على أذهاننا وغير مألوفة، تنطوي على جفاف وفجاجة، وقد يكون من غير الممتع للأنظمة والسلطات وأجهزتها التعامل مع التقنيات الحديثة، فهي (بالنسبة للأنظمة)عدو محير لعين لا يشاهد بالعين المجردة، ولا يمكن إلقاء القبض عليه. ولأنه أمراً واقعاً، ولأنه من الحقائق المؤكدة: أن لا يمكنك أن يعيش المرء بجسده في القرن الواحد والعشرين فيما يرتاح عقله في غياهب القرون الوسطى أو حتى ما قبلها، لذلك لابد من التسليم به بالتطور..!
الفكر السياسي لا يعرف سوى ثلاث نظم:
الأولى: نظرية الحكم بتفويض إلهي: وشهدت هذه النظرية نهايتها بنهاية النظام الديني بزوال العهد العثماني، وإن هي تحاول اليوم أن تظهر، إنما هي تستغل الإخفاقات التي مرت بها حركة التحرر الوطنية والقومية.
الثانية: نظرية القوة والغلبة: حيث اعتادت الأنظمة العربية منذ تحررها من الاستعمار، أن يمكث الحاكم على كرسيه إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، ولا سبيل لأزاحته إلا باستخدام القوة، فأنقلاب عسكري يزيل منقلب، وغاصب يقصي غاصب، في سلسلة لم تعرف الانقطاع من أنظمة تكتسب شرعيتها بالقوة، في تسليم شبه مطلق لهذه النظرية.
الثالثة: نظرية العقد الاجتماعي: فقد بقيت في الشرق عامة، وفي بلادنا العربية خاصة، في شبه غياب، أو في تطبيقات مشوهة وفي تزوير فاضح لها، دون كبير اكتراث لرأي الجمهور والشعب، بوصفه لا يمتلك القوة التي تؤهله لأن يقدم الحكام للمسائلة، وإن فعل ذلك فالرصاص ينتظر من يقدم على هذه المجازفة المحفوفة بالمخاطر.
وهكذا يبدو الأفق في أقطارنا مكفهراً مظلماً، والمستقبل أشد اكفهراراً، وعمليات التنمية تسير ببطء شديد، لا تناسب قدرات الأوطان، والمجتمعات محاصرة بإشكاليات سياسية / اقتصادية / اجتماعية / ثقافية لا حل لها، في تردد بين الحداثة ومعطياتها، والموروث، وانعدام السبل لاستخلاص المفيد، أو لدراسة التجارب، أو صياغة مستحقات أفق ينقذ الموقف بسبب التمسك بالرأي وعدم القدرة على استيعاب الآخر، وكل يريد أن يفرض برنامجه كاملاً ودونه الموت الزؤام، ومثل هذه المعطيات، لا تفرز إلا الظواهر السلبية، فتطفو على السطح ظواهر متخلفة وربما تشجعها بعض الأنظمة كالطائفية المقيتة، والعشائرية، والمناطقية، أو نشوء فئات من عسكرتاريا / مخابراتية تهيمن على السلطة، ويشكل كل ذلك أبعاداً لأنظمة طغيانية ديكتاتورية، وهكذا يصبح احتمال قيام نظم حديثة تستلزم تعبأ طاقة كل المواطنين من أجل عملية الإقلاع للتنمية / التحضر، أمراً من المحال، وحرث في البحر ليس إلا ...!
الديمقراطية مصطلح وأداة وآليات حكم من نتاج وتطوير الفكر السياسي الغربي، منحت صوراً مشرقة لأوضاع سياسية واجتماعية باهرة، إلى جانب وظيفتها الأساسية كأداة لانتقال السلطة بشكل سلمي، وقد لا تخلو من الأخطاء، كما ليس بالضرورة أن يكون رأي الجمهور الذي يشكل الأكثرية سليماً على الدوام، ولكنه يبدو ربما هو الحل الأوحد الذي يضمن انتقال وتداول سلمي للسلطة السياسية.
ولئن كانت الديمقراطية هي التي جاءت بهتلر وموسوليني للحكم مثلاً، وربما بشخصيات ذات قدرات ضعيفة إلى حد ما، أو رؤساء ارتكبوا أخطاء ينبغي معالجتها، فهناك وسائل وسبل يمكن بها إصلاح الخطأ أو إدخال التعديل، عبر نظم قانونية / دستورية.
وقد اتخذت هذه السبل عبر آليات عديدة في العديد من الدول الغربية نفسها، فليس من الضرورة أن تتشابه تلك الآليات بصفة مطلقة، ولكنها قد تنطوي على ذات الجوهر في جانبه السياسي وهو تداول السلطة السلمي، والتعدد والتنوع ومشاركة أوسع للناس في العمليات السياسية، وفي استبعاد لشبح الاستبداد والطغيان والديكتاتورية. ولكن الحياة السياسية والديمقراطية لا يمكن أن تكون دون تدخل من قبل الهيئة المشرعة العامة، إذ تنص الدساتير على آليات دقيقة وتفاصيل تمنح الحدود والأبعاد الضرورية للعملية الديمقراطية، وتأكيد على الثوابت العامة التي لا جدال حولها، وهكذا فليس محتماً أن تتشابه مفردات تلك العملية في بريطانيا عن تلك التي تجري في ألمانيا أو فرنسا مثلاً أو إيطاليا.
ولكن ليس هناك من مستبد عادل، فتلك نظرية مدمرة يراد القول بها أننا شعوب تعودنا خشونة الحكم والحكام حتى بتنا لا ندار إلا بها، ليس هناك مستبد عادل، لأن الاستبداد بحد ذاته حالة تنطوي على فضاضة وجلافة واحتقار لشأن ورأي الآخرين، وجوهر النضال من أجل الديمقراطية، أو مسميات أخرى، إنما تركز بالأساس على فكرة تداول السلطة واحترام الرأي الآخر.
سيقال لنا: لقد تسلل أفراد وقوى لا تنتمي لجماهير الثورة، ولا لغدها ولمستقبلها، فلوثت عنفوان ونقاء الثورات، نعم هذا حدث وربما سيحدث لاحقاً، ذلك أن الجماهير قد أشعلت النيران ولن تطفئها، وتلك القوى المتسللة قد استغلت هذا الظرف الصعب، وتسلل بعضها ربما لأمواج الثورة، يتنقلون في هيئة صحفيين لمتابعة أخبار الثورة، أو ربما يمثلون دور المستشارين الناصحين، والثوار يتوسلون أن يستمع إليهم الناس والهيئات والدول، وكل من له دالة في هذا الكون الصغير. وعندما واجهت الديكتاتوريات الجماهير بالنار والحديد، وسالت الدماء أنهاراً، لم يعد هناك من مجال للتأكد من هوية من يمنحك ما يمكنك من الدفاع عن النفس والثورة، للأسف أن الأنظمة بوحشيتها وهمجيتها التي فاقت كل حدود، وتكالبها في الدفاع عن كراسيها، وارتكبت جرائم، واخترقت حرمات، تفوق المألوف والمسموع، تدفع الناس للتعاون حتى مع الشياطين ... لا نحبذه ولكنه حصل وسيحصل، وهو أمر مؤسف بالطبع.
أريد تشخيص مرتسمات لمقدمة، الخوض فيها ليس سهلاً، أن ليس بالضرورة أن تكون النظم متشابهة حرفياً في كل البلدان، وليس بالضرورة أيضاً أن تحمل ذات التسميات، والأمر الجوهري هو، كيف يستطيع أي مجتمع أن يضمن تداول السلطة بأقرب ما يمكن للصواب، أو كيف يمكن معالجة موقف إشكالية دستورية، بما يبعد شبح استخدام القوة، المهم هو: كيف يمكن إبعاد شبح فكرة أننا رعية لطاغية يتكرم علينا بما يشاء حتى لقمة الخبز، نريد دولة يستطيع فيها الشعب أن يقول فيها للحاكم: أنت موظف، ونحن اخترناك لتخدمنا، وأنت تنعم وعائلتك(زوجتك وأطفالك) براتب من عرق جبين الشعب. وإن شئنا استبدلناك بغيرك. وأن تكون هناك آليات ماثلة أمام الأعين وفي متناول الأيدي لتحقيقها فعلاً.
بأي سلطة قانونية أو شرعية يحتقر رئيس إرادة شعبه بالتغيير ويقابلها بالرصاص ويقتل الآلاف ويعتقل عشرات الآلاف، احترام إرادة الناس ليست جديدة علينا كعرب وكمسلمين، بل أن أساس النظام السياسي الإسلامي هو عقد بين الحاكم والرعية.
فالحكم هو إقامة الحق والعدل وهو خير في جوهره، ولكن هذا التفويض بالحكم ليس مطلقاً، بل أنه أشتراطياً، فهناك إذا الشرطية لاحظ نص هذه الآية: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " 58 ـ النساء)، والأمانات هنا ليست الأمانة بمعناه الوصفي التقليدي، فالآية هنا بأسرها مكرسة للحكم والسياسة وإقامة الحدود الشرعية، إذن هي أمانة الرعية الموضوعة في ذمة الحاكم، والأمانات بهذا المعنى هي حقوق المواطن على الحاكم المؤتمن عليها كذمة شرعية، ولذلك أعقبتها مباشرة جملة (إذا) الشرطية التي تأمر العدل في الحكم كشرط للممارسة صلاحيات وسلطات الحكم، وهو ما ورد بصورة مباشرة وصريحة.
وعن الانتخاب الحر الشرطي (البيعة)، يعبر الخليفة الراشدي الأول أبو بكر الصديق عن هذه المفاهيم السياسية الراقية أصدق تعبير إذ يقول في أول خطاب له: " أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " فالحاكم في الإسلام إذن هو رجل ينتخب من الشـعب انتخاباً حراً وليست له ميزة خاصة للحكم متحرراً من كل قيد إلا قيد الرشد والعدل والإحسان.
ـ لما بويع أبو بكر بالخلافة بعد بيعة السقيفة تكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .
(خطبة أبو بكر الصديق عند توليه الخلافة /11 هجرية)
ـ ولما بويع عمر بن الخطاب(رض) بالخلافة وهو الموصوف بالأمين القوي، نهض وقال بين الناس وقال:" إذا رأيتم في اعوجاجاً فقوموني.
فقام رجل وقال لعمر: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا " فقال عمر " الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوم عمر بسيفه " وقال: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فيّ إن لم أسمعها .
وقال عمر: كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ...
(خطبة عمر بن الخطاب (رض) عند توليه الخلافة 13/ هجرية)
هذه الموضوعة هي برسم التواصل، كمهام لعلماء السياسة العرب، وهي من أجل تطوير أو وضع اللبنات الأولى في تأسيس نظرية حكم تأسيساً على مرتكزاتنا، وثوابتنا، التي لا يختلف عليها الأكثرية، نحن شعب يمتلك ثقافة وحضارة قديمة، ومن المؤكد أننا سنتوصل لصياغة فكرية / قانونية لدول عصرية.
ـــــــــــــــــــــــــــ
المقالة جزء من مقابلة تلفازية على إحدى الفضائيات العربية خلال شهر تموز / 2011.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: