د - أحمد إبراهيم خضر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9655
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في مقالتنا بعنوان "سبعة مقترحات للقِسِّ مايكل يوسف للحدِّ من انتشار الإسلام" عرضْنا تفصيلاً ما اعتقدَ "القس" أنَّه مقارنة بين النَّصرانية والإسلام، ونحن نعتقد أيضًا أنَّ هذه المقارنة لا تكشِف عن الفروق الحقيقيَّة بينهما؛ ولهذا فإنَّنا في مقالتنا هذه سنعرض ونشْرح سبعةً مِن الفروق الجوهرية التي تَجاهلَها القسُّ، لعلَّها تعطي للقارئ تصوُّرًا أكثرَ عُمقًا ووضوحًا عن الفروق بين الديانتين.
ومِن المهم قبل عرْض هذه الفروق التأكيدُ على حقيقتَين:
الحقيقة الأولى: تنقسِم النصرانية عندَ أهل الإسلام صفحتين:
الأولى: هي الديانة التي جاءَ بها المسيحُ - عليه الصلاة والسلام - مِن الله تعالى، وهي كالإسلام لا تُخالف العقلَ والعلم، ولا المبادئَ المادية الصحيحة، ولا مناوأةَ بينها وبين الإسلام.
والصفحة الثانية مِن النصرانية: هي هذه النصرانية المُبتدَعَة بعدَ المسيح - عليه السلام - التي فيها التثليثُ وإصعادُ المسيح فوق مرتبة النبوَّة، فالإسلام يناوئ هذه النصرانية، ويناوئها العقلُ والعلمُ وتناوئها الديانة الأولى الحقيقيَّة، وليس مِن المعقول اعتبارُها من الأديان الإلهيَّة المنزَّلة.
الحقيقة الثانية:
أنَّ النصرانية أضرَّتْ بالمسلمين خاصَّة، وبالبشر عامَّة؛ ذلك أنَّ القدَر شاء أن يكون للغرْب في الأزمنة الحديثة القوَّة والغَلَبة على أُمم العالَم، وصادف أنَّه قد اعتنق النصرانية كدِينٍ مِن قديم الزمان، ولمَّا ارْتَقى الغرب في ميدان العِلم والصناعات رأى عقلاؤهم أنَّ دِينهم لا يتَّفق مع العقل والعلم، وعزَّ عليهم أن يبحثوا لهم عن دِين آخر، أو انشغلوا عن ذلك لأسبابٍ أخرى، وعملت الدعايات المعادية للإسلام على تعميقِ العداء ضدَّ الإسلام، ويرجع رسوخُ هذا العداء إلى أزمنة زحْف الصليبيِّين إلى بلادِ الإسلام، ثم زحْف العثمانيِّين إلى بلاد النصارى؛ (مصطفى صبري، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعبادِه المرسلين، 2/16 - 19).
أما الفروق السبعة بين الديانتين فهي على النحو التالي:
أولاً: القرآن واحد، والأناجيل متعدِّدة:
في الإسلام "القرآن واحدٌ والقراءات متعدِّدة، وأي اختلاف بين مصحف وآخرَ هو اختلافٌ في القراءة"، وأي جدال في هذه الحقيقة عبثٌ لا طائلَ مِن ورائه، أما في النصرانية فمِن المعروف أنَّ رجال الدين النصارى قاموا بشرْح ما سُمِّي بـ (الأناجيل) في حين أنَّ (الإنجيل) المنزَّل من عندِ الله إنجيل واحد لا معنى للتعدُّد فيه.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: "إنَّنا نرى مؤَرِّخي النصرانية قد أجْمعوا على أنَّه كان في القرون الأولى للمسيح - عليه السلام - أناجيلُ كثيرة، وأنَّ رجال الكنيسة قد اختاروا منها أربعةَ أناجيل، ورفضوا الباقي، فالمقلِّدون منهم من أهلِ مِلَّتهم قَبِلوا اختيارهم بغير بحْث"؛ (محمد علي قطب، نظرات في إنجيل برنابا المبشر بنبوَّة النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم)، مكتبة القرآن (ص 33).
ويقول النصارى عن دِيانتهم ما نصُّه: "ينقسم الكتابُ المقدَّس (لدَى المسيحيِّين) إلى: العهد القديم (التوراة)، التي تختلف قليلاً عن التوراة لدى اليهود، حيث يرفض المسيحيُّون بعض الأسفار لدَى اليهود على أساس أنَّها مضافة، ويَرْوُون في العهد القديم النبوات التي أنبأتْ عن حياة وموت وقيامة المسيح، ورجوع الملك ودَينونة العالَم.
ويتكوَّن العهد الجديد مِن أربعة أناجيل، هي: إنجيل متَّى - إنجيل مُرقس - إنجيل لوقا - إنجيل يوحنا - مجموعة من الرَّسائل والكتابات الأخرى، واشترك في كتابةِ العهد الجديد عددٌ كبير من الكتَّاب يرْبُو على الأربعين كاتبًا.
يقول "الأنبا مرقس" بمطرانية شبرا الخيمة: "حتى في المسيحيَّة نرى أنَّ بعض كتَبَة العهد الجديد كتَبوا بعضَ معلومات عن العهد القديم، والذي حدَث في العهد الجديد هو نفس الذي حدَث في العهد القديم، ولكن بنسبة أقلَّ، فقد مضَتْ مُدَّة طويلة لم تكن هناك فيها أناجيلُ مكتوبة، ولا رسائل مكتوبة، السيد المسيح له المجدُ لم يكتب أو يترُك إنجيلاً مكتوبًا، بل ترَك تعليمًا وكلامًا رُوحيًّا وحياة"، الإنجيل الشفاهي، أو "التعليم الإلهي" (الموقع الرسمي للأنبا مرقص بمطرانية شبرا الخيمة).
ثانيًا: فارق حِفْظ الكُتُب المنَزَّلة وحفظ وقائع حياة المسيح والنبي محمَّد - عليهما الصلاة والسلام -:
مِن الأمور التي يُسلِّم بها المؤرِّخون الكَنسيُّون وكُتَّاب التاريخ الأوربي، أنَّ الإنجيل المنزَّل مِن عند الله على عهْد المسيح - عليه السلام - لم يُدوَّن، إنما تلقَّاه عنه حواريُّوه بالسماع - كما أشار إلى ذلك أنبا مطرانية شبرا الخيمة، ثم تشتَّتوا تحتَ تأثير الاضطهاد الذي وقَع على أصحاب الرِّسالة الجديدة، سواءً من اليهود أو مِن الرومان.
ولَمَّا بُدِئ تدوينه بعد فترةٍ طويلة مِنْ نزوله، كان قدِ اختلط في ذاكرةِ أصحابه، كما اختلطتِ النصوص فيه بالشروح، ثم غلَبتِ الشروح على النصوص، ووقَع الاختلاف والتصحيف الذي يُشير إليه كُتَّابُ التاريخ الأوروبي ومؤرِّخو الكنيسة على السواء.
وبعدَ وقوعِ الاختلافِ والتصحيف لَم يكن هناك مرجعٌ يرجع إليه الناسُ لتصحيحه، وإرْجاعه إلى أصوله الصحيحة المنَزَّلة، كما هو الحالُ مع القرآن المحفوظ بقَدَر الله ومَشيئته مِن كلِّ عبَثٍ أو تحريف خلالَ القرون؛ (محمد قطب، العلمانية، دار الأفق، مصور إليكترونيًّا).
يقول علماءُ الإسلام: "جاء الاختلافُ والتصحيف في التوراة والإنجيل بسوء تأويلهما، وحمْل نصوصهما على ما يُطابق أهواءَ المفسِّرين، أمَّا القرآنُ فلم يطمعْ أحدٌ في تغيير شيءٍ مِن ألفاظه وحروفه، وإنَّما كان الطمع في التحريفِ والتبديل في معاني القرآن، والنقْص والزيادة في الأحاديث، وقد دَخَل ذلك في تفسير القرآن، ولكن الله وقاه مِن تحريفِ اللفظ، وقد أوكل الله تعالى الحفظَ في التوراة إلى أهلها، لكنَّه أرْجعه في القرآن إلى نفسه - عزَّ وجلَّ.
وتتبَّع فريقٌ من العلماء المحقِّقين، كابن حزم وابن تيمية ورحمة الله الهندي جملةً مِن نُسَخ التوراة والإنجيل في بيانِ ما دخَل عليهما مِن تحريف اللفظ، وتبديل العبارة.
وتحريفُ الحُكم بالتأويل الباطِل دخَل في تفسيرِ القرآن كما مُنِي به غيرُه مِن الكُتُب المتقدِّمة، ولكنَّ الله وقاه من تحريفِ اللفْظ، ولم تستطعْ أيدي الزنادقة أن تَمَسَّه بسوء.
والقرآن متميِّز بنفسه لما خصَّه الله تعالى به مِن الإعجاز الذي باينَ به كلامَ الناس كما قال - تعالى -: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]، وكان منقولاً بالتواتُر فلم يطمعْ أحدٌ في تغيير شيءٍ مِن ألفاظه وحروفه، ولكن طَمِع الشيطان أن يُدخِلَ التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطَمِع أن يُدخِل في الأحاديث مِن النقص والازدياد ما يُضلُّ به العباد.
وقد جاز التبديلُ على أهل التوراة ولم يجز على أهلِ القرآن؛ فقد قال الله تعالى في أهل التوراة: ﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 44]، فوكل الحفظ إليهم فجاز التبديلُ عليهم، وقال في القرآن: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]؛ [الشاطبي، الموافقات (2/ 38)، مجموع فتاوى ابن تيمية (1/7)].
أمَّا عن حفظ وقائعِ حياة المسيح ومحمَّد - عليهما الصلاة والسلام - فإنَّه لا يُعرَف من وقائع حياة المسيح الممتدة لثلاث وثلاثين سَنة إلا ما يختصُّ منها بثلاث سنين، حتى إنَّ هذا النقص الزائد في حياته المضبوطة حَدَا بكثيرٍ من النصارى إلى إنكار وجودِ المسيح بالمرَّة.
أما وقائع حياة النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد قُيِّدتْ ونُقلت جميعها، كما نُقِل عنه جميعُ أفعاله، وأقواله، وأسفاره، وأخلاقه، وعاداته، حتى شكْل لباسه، وصورة لبسه، وخطوط وجهه، وكيفية تكلُّمه، ومشيه، وطراز معاشرته، وحتى أكْله، وشُرْبه، ونومه، وتبسُّمه، ومساعيه، بجميع فروعه وتفاصيله.
يقول (جوستاف لوبون) في كتابه حقائق الحياة: "بينما حياة بعض مؤسِّسي الدِّيانات مثل محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم-واضحةٌ معروفة، ظلَّت حياة مؤسِّسي المسيحية على وجه التقريب مجهولةً، ويجب ألا نبحثَ عنها في الأناجيل، كما فعلوا ذلك مِن قبلُ، فإنَّ العلم لم يعدْ يعتقد إمكانَ ذلك اليوم"؛ (تابع مصطفى صبري، (4/57)، حاشية: 58).
ثالثًا: فارق الرِّجال الذين حملوا النصرانية والإسلام وعلَّموهما للناس:
هناك في الإسلام علماءُ وفقهاء، ورجالٌ صالِحون أتقياء، وليسوا (رجال دين)، يَدْعُون إلى دين الله بالقُدوة والموعِظة الحسنة، والعلم والفقه، فيتعلَّم الناسُ الدِّينَ على أيديهم، ويقتدون بهم على بصيرة، ويُمارسون الدِّينَ على وعي بأنَّ هؤلاء الرِّجال معلِّمون ومربُّون، وليسوا وسطاءَ بين العبد ومولاه.
وهناك في النصرانية "رجال دين" كَهَنة، يقومون بالوساطة بين العبد والربِّ، ويحتكرون تفسيرَ الدِّين، فتظل العقولُ مُغلَقة عن حقيقة الدِّين، لا تعرف إلا ما يقوله لها هؤلاء، وهؤلاء لا يقولون ما يَشفي الصدور، ويحتفظون لأنفسهم بمكانةٍ زائفة في نفوس أتباعهم بزعْمِهم أنهم هم الذين يَعرفون "الأسرار"، بينما الحقيقة أنَّهم لا يَزيدون علمًا بها عن أيِّ شخص آخر؛ لأنَّها - بطبيعتِها - غير قابلةٍ للفَهْم، وغير قابلة للتصديق؛ (محمد قطب، هلمَّ نخرج مِن ظُلُمات التِّيه).
ومِن المعروف: أنَّ رجال الدِّين النصارى احتفظوا بما يُسمَّى بعلم (الأسرار) التي نشأت مِن الاختلاف والتصحيف، والتي لا أصلَ لها في دين الله المنَزَّل، والأسرار المقدَّسة في النصرانية هي "نَوالُ نِعمة سِريَّة (غير منظورة) بواسطة مادَّة منظورة"، وذلك بفِعْل رُوح الله القدس الذي حلَّ بمواهبه في يوم الخمسين على تلاميذ ورُسل المسيح، وبحسب ما أسَّسه السيِّدُ المسيح نفسه وسلَّمه للرسل الأطهار، وهم بدَورهم سلَّموه للكهنة بوضْع اليد الرَّسولية"؛ (موقع المعرفة).
يقول الأنبا مرقص أيضًا: "إنَّ مِن شروط إتمام السر:........ كاهن مشرطن قانونيًّا بوضع اليد، واستدعاء الرُّوح القُدس بالصلوات، أما خادم السرِّ فهو مَن يُتممها باسم المسيح له المجدُ على أنَّه قائم مقامه، وهو الكاهن المعتبَر كوكيل الله والأمين على سرائره، وإنَّ صحَّةَ السر لا تقتضى إيمانَ الخادم أو صلاحه، فما الخدَّام إلا آلات منظورة في يدِ الله!.."؛ (تابع الأنبا مرقص).
يقول محمد قطب في كتابه "العلمانيون والإسلام": "إنَّ فكرة الإله الواحد الذي أصبَح ثلاثة، والثلاثة الذين هم في ذات الوقت واحد، والعَشاء الربَّاني الذي تتحوَّل فيه كِسْرة الخبز إلى جَسَد المسيح، وجُرْعة الخمر التي تُغمس فيها كِسرةُ الخبز إلى دم المسيح، وتتجدَّد الصلة بيْن العبد والربِّ حين يأكُلُ الإنسان جسدَ المسيح ويشرب دمَه، وكرسي الاعتراف الذي يَصعَد منه غفرانُ الكاهن للذنوب إلى الربِّ فيعتمده في عليائه، وصك الغُفران الذي يكتُبه الكاهن في الأرْضِ فيدخل به الإنسان الجَنَّةَ في الآخرة بغير حساب، إلى عشراتٍ مِن أمثال تلك الأسرار هي في حقيقتها أساطيرُ، كلها أمور لا يستطيع العقلُ أن يدركها".
ورغم ذلك يُوضَع سِرُّها في عقل كاهن لا يُشترط إيمانُه أو صلاحه، وكيف يُعتبر هذا الكاهن وكيلاً عن الله وأمينًا على سرِّه، ولا يُشترط إيمانُه وصلاحُه؟!
والإسلام على عكس ذلك، ليس فيه أسْرارٌ مُقدَّسة يحتفظ بها فريقٌ من الناس دون غيرهم، إنَّه دينٌ تأتلف عقائدُه بالعقل، وتستند إلى المعقولات، والمستحيل عندَ العقل مستحيلٌ في الإسلام؛ ولهذا يمكن القول: إنَّ كون استناد النصرانية إلى العاطفة، وكون أنَّه ليس لها مستندٌ من العقل ولا تأتلف معه، لا يلزم مِن عدم معقوليتها أن يكونَ كلُّ دِين كذلك؛ (تابع مصطفى صبري، (2/38 - 39).
بل يلزم مِن عدم توافقِ النصرانية مع العقل بطلانُها من الأصل، وأنَّ كل مَن تدين بها فهو مخدوعٌ أو مخادع؛ لأنَّ كلَّ مَن سلك طريقًا مناقضًا للعقل فهو مخدوعٌ أو مخادع، بلا خلاف بيْن أهل الأرض.
رابعًا: فارق ارتباط العقيدة بالشريعة:
مِن المعروف أنَّ العقيدة في النصرانية منفصِلة عنِ الشريعة، وذلك على عكسِ الإسلام الذي ترتبط فيه العقيدةُ بالشريعة ارتباطًا لا يَنفصِم، ولم يحدُثْ أن حكَمت الشريعة شيئًا من حياة النصارى إلا في الأحوالِ الشخصية، بمعنى أنَّها لم تُحَكَّم لا في الأحوال السياسيَّة، ولا في الأحوال الاقتصاديَّة، ولا في الأحوال الاجتماعيَّة في جملتها، والشريعة عند النصارى هي مجرَّد مواعظَ خُلُقية ورُوحيَّة، مَن شاء أن يتقيَّد بها تقيَّد، ومَن شاء أن يتفلَّتَ منها فلا سلطانَ لأحد عليه في الأرْض.
والدليل على ذلك: أنَّك لو سألتَ أولئك الخارجين من سماع الموعظة يومَ الأحد عن رأيهم الدِّيني في التعاملات الاقتصاديَّة الرِّبويَّة التي تقوم عليها حياتُهم، فلن تجدَ عندهم من يُحَرِّمها أو يستنكرها، بل يقولون: إنَّها مسألة اقتصادية، ولا علاقةَ للدِّين بالاقتصاد، ولو سألتَ أحدًا منهم: ما رأيك في كذِب الساسة بعضهم على بعض في السياسة الدوليَّة، وعلى شعوبهم في السياسة الداخلية؟ وما رأيك في الالتزام الحِزبي الذي يُلزِم صاحبَه بالمعارضة أو التأييد حسبَ وضْع حزبه من السُّلطة؟ وما رأيك فيما تَكتُبه الصحافةُ السياسيةُ بقصد التشويش على الحقائق، لا بقصد إظهار الحق؟ سيقول على الفور: هذه مسائلُ سياسية، ولا دخل للدِّين بالسياسة.
ولو سألتَ الفتاةَ وصديقَها الخارجَيْن من الصلاة: ما قولكما في العلاقة القائمة بينكما؟ أليس الدِّين يُحَرِّمها؟ سيقولان: إنَّ الدين مسألةٌ اعتقادية، ولا علاقة له بالعلاقات الاجتماعيَّة، هذا إن لم يقولا - كما يقول الكثيرون والكثيرات -: إنَّ الجِنس مسألةٌ بيولوجية بحْتة، لا علاقة لها بالدِّين، ولا علاقة لها بالأخلاق.
ويختلف الأمرُ في الإسلام اختلافًا بَيِّنًا، فالعقيدة فيه غيرُ منفصلة عن الشريعة، ويرى المسلمون أنَّ الالتزام بالشريعة - في دين الله الحق - هو مقتضَى العقيدة ذاتها، مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، بحيث لا تكون الشهادةُ صحيحةً وقائمة إن لم تُؤدِّ عند صاحبها هذا المعنى، وهو الالتزام بما جاءَ مِن عند الله، والتحاكُم إلى شريعة الله، ورفْض التحاكُمِ إلى أيِّ شريعة سوى شريعة الله؛ يقول تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]؛ (تابع، محمد قطب، العلمانية).
يقول المفكِّرون الإسلاميُّون: "يُلزِم الإسلام المسلمَ بأن يتحرَّى حُكم الإسلام في الصغيرة والكبيرة مِن شؤون حياته، ولا يُقدِم على عمل حتى يستيقنَ مِن حُكم الإسلام فيه، فما أقرَّه الإسلام كان هو دستورَه وقانونه، وما لم يُقرَّه كان ممنوعًا وحرامًا عليه... ولا يجتمع في قلْب مسلمٍ الخوفُ من الآخرة والحياء مِن الله مع الاعتراض على تحكيمِ كتاب الله في كلِّ شيء مِن شؤون الحياة، أو القول بأنَّ حياة الناس دُنيا لا دِين، وأنَّه لا ضرورةَ لإقحام الدِّين في حياة الناس العَملية، وارتباطاتهم الاقتصادية، والاجتماعية، والعائلية أيضًا... ومِن طبيعة الإسلام ألاَّ تنفصلَ فيه الشعائرُ التعبُّديَّة عنِ المشاعر القوميَّة عن التشريعات التنظيميَّة، ولا يستقيم إلاَّ بأن يشملَ أمورَ الدِّين وأمور الدنيا، وشؤون القلْب وشؤون العلاقات الاجتماعية الدولية، وإلاَّ أنْ يُشرِف على الحياة كلها، فيصرفها وَفقَ تصوُّر واحد متكامِل، ومنهج واحد متناسِق، ونِظام واحد شامل، وأداة واحدة هي هذا النظامُ الخاص الذي يقوم على شريعةِ الله في كافَّة الشؤون".
لم يَفهمْ "القس مايكل" مِن ارتباط عقيدةِ الإسلام بشريعته إلا الارتباط بيْن الإسلام والسياسة فقط، متأثِّرًا بما يُعرف اليوم بـ"الإسلام السياسي"، وصاغ ذلك بقوله: "يجب ألاَّ ينخدعَ الناس في القوْل بأنَّ الإسلام هو دِينُ السلام، فنحْن نُحذِّر، إنَّ الإسلام عملةٌ ذات وجهين: دِين في وجْه، ونِظام سياسي في الوجهِ الآخَر، وجهان لا ينفصلان".
خامسًا: فارق موقِف النصرانية والإسلام من الحياة الدنيا وإعمار الأرْض:
الدِّين الذي قدَّمتْه الكنيسة للنصارى على أنَّه الدِّين الإلهي دِينٌ لا يقيم وزنًا للحياة الدُّنيا، بل يحتقرها ويَزدريها، ويدعو إلى إهمالها وعدمِ الالتفات إليها في سبيلِ الحصول على (الخلاص).
وخلاص الرُّوح هذا لا يمكن الوصولُ إليه إلا بالتجرُّدِ مِن متاع الأرض، والاستعلاء على مطالبِ الجسد، والتطلُّع إلى ملكوت الربِّ الذي يتحقَّق في الآخرة، ولا سبيلَ إلى تحقيقه في الحياة الدنيا، ومِن هنا فإنَّ هذا الدين في صورته الكنسية تلك لم يكن يسعَى إلى تحسينِ أحوال البشَر على الأرض، أو إزالة المظالِم السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي تقع عليهم، وإنَّما يدعو إلى الزهد في الحياة الدنيا برُمَّتها، وترك كلِّ شيء على ما هو عليه؛ لأنَّ فترة الحياة الدُّنيا أقصرُ وأضأل وزنًا مِن أن يحاول الإنسانُ تعديلَ أوضاعه فيها، إنما يسعى جاهدًا إلى الخلاص منها دون أن يَعْلَق برُوحه شيءٌ من الآثام، والمتاع ذاته هو مِن الآثام التي يحاول المتطهِّرون النجاةَ منها بالرهبنة، واعتزال الحياة، بل أكثر مِن ذلك: إنَّ احتمال المشقَّة في الحياة الدنيا، واحتمال ما يقع فيها مِن المظالِم هو لونٌ مِن ألوان التقرُّبِ إلى الله الذي يُساعِد على الخلاص.
تحصُر النصرانية كيانَ الإنسان إذًا في نِطاق محدود محصور أشد الحصْر؛ ليبرزَ جانب الأُلوهية في أكملِ صورة، وألوهية الله في ذلك الدِّين معناها السلبية الكامِلة للإنسان، وحصْر دوره لا في العبادة بمعناها الواسع؛ أي: على النحو الذي قرَّره الإسلام، والذي يشمل عمارة الأرْض بمقتضى المنهج الإلهي، إنَّما في الخضوع لقدَرِ الله القائم، وعدم العملِ على تغيير شيءٍ مِن الواقع المحيط بالإنسان؛ لأنَّ محاولة التغيير في النصرانية - ولو إلى الأحسن - تحمل في طيَّاتها (عدمَ الرِّضا) بالأمر الواقع، وهو نوعٌ من التمرُّد على إرادةِ الله، الذي لا يُقرُّه ذلك الدِّين.
والإسلام على العكس مِن ذلك، دِينٌ يُقدِّم المنهجَ الصحيح للحياة، فلا هو دينٌ أُخروي بحْت؛ بمعنى: إهمال الحياة الدنيا، ولا هو الدِّينُ الذي يفرِض السلبيةَ الكاملة على الإنسان، ويَفرض عليه الخضوعَ للأمر الواقع، وعدم التفكير في تغييره، إنَّه دينٌ يعمل للآخرة مِن خلال العمل في الدنيا، ويُبيِّن أنَّ العمل للآخرة لا يَعني إهمالَ الحياة الدنيا؛ يقول تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]، ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32].
وهو دينٌ يعمل لإصلاحِ الحياة الدنيا بإقامةِ المنهج الإلهي الذي يأمرُ بالعدل والقِسط، كما يدعو إلى الجهادِ لإقامة هذا المنهجِ ومنْع الانحراف عنه، ذلك الانحراف الذي يُؤدِّي إلى فسادِ الحياة وإلى وقوعِ الظُّلم على الناس؛ (تابع، محمد قطب، العلمانية).
سادسًا: فارق موقف النصرانية والإسلام من العلم:
يقول الكاتب النصراني (فرح أنطون): "إنَّ الإيمان على الأكثر يكون أقوى مِنَ العلم"، أما علماء الإسلام فيقولون: "إنَّ الإيمان غير المستند إلى العِلم؛ أي: الدليل، عرضةٌ للتزلزُل بتشكيك مشكِّك"؛ (تابع مصطفى صبري، 2/24).
ومِن المعروف في تاريخ النصرانية، أنَّ هناك صراعًا بين الدِّين والعلم، وأنَّ هذا الصِّراع قد بدأ حين هاجمتِ الكنيسةُ العلماءَ الذين قالوا بكروية الأرض، وهدَّدتْهم بالحرْق أحياءً في الأفران، وما كان على الكنيسة أن تَقِف هذا الموقفَ مِن أمور عِلمية بحتة، يُخطئ العلماء فيها أو يُصيبون، ولكنَّها تظلُّ في دائرة العِلم لا يتدخَّل فيها رجالُ الدين.
أمَّا العلاقة بين الدِّين والعلم في الإسلام، فقدْ حدَّدها "محمد قطب" على النحو التالي:
1- أنَّ الدِّين الصحيح لم يُحرِّم البحثَ العلمي، وإنما لفَتَ النظر إلى آياتِ الله في الكون، وقال لهم: تَفكَّروا فيها وتدبَّروا؛ لتعرِفوا قدرةَ الخالق العظيم، دون أن يُقيِّدهم بنظرية معينة في تفسيرِ ظواهر الكون، بل ترَك ذلك للعقل البشري يحاول فيه بقدْرِ ما يُطيق.
2- أنَّ الفِطرة السوية لا تفصِل بيْن الدين والعِلم؛ لأنَّ كلاًّ منهما نزعةٌ فِطرية سويَّة لازمة للكيان البشري، ولازمة لمهمَّة الخِلافة التي وُجِد الإنسان من أجلها في الأرض، فالإنسان عابدٌ بطبعه، راغبٌ في المعرفة بطبعه، ولا تَعارُضَ في الفطرة السوية بيْن نزعة العبادة ونزعة المعرفة، ولا بيْن الإيمان بالغيب والإيمان بما تُدرِكه الحواس.
3- أنَّ العلم ذاته جزءٌ مِن العبادة المطلوبة من الإنسان، يستوي في ذلك العِلم بأمور الدنيا، والعِلم بأمور الدِّين، فإنَّ عمارةَ الأرض بالمنهج الإلهي تحتاج إلى ذلك العِلم، وذاك: العلم الدُّنيوي مِن أجل عمارة الأرْض، والعلم الدِّيني لجعْل هذه العمارة مستقيمةً على المنهج الإلهي؛ (تابع، محمد قطب، العلمانية).
الخلاصة هنا هي: "أنَّ الإيمان في النصرانية يفترِق عن العقل وعن العلم المبني على العقلِ المحض، وعن العِلم المبني على العقلِ مع المشاهدة، أمَّا في الإسلام فالإيمانُ يجامع كلَّ ذلك، حتى العلم المبني على المشاهدة، ولا يُخالِف العلم بجميعِ أنواعه، ولا يحتاج إلى هدْم العلم، وإنكار المحسوساتِ لتثبيت نفسِه"؛ (تابع، مصطفى صبري، 2/23).
سابعًا: فارق الواقع التاريخي بين النصرانية والإسلام:
مِن المعروف أنَّ لدَى المسلمين واقعًا تاريخيًّا طُبِّق فيه الدِّين بتمامه، فكان أفضلَ ما عرفتْه البشرية في تاريخها كلِّه، ذلك عصر النبوَّة والخِلافة الراشدة، ثم جاء واقع تاريخي امتدَّ بعدَه عِدَّة قرون، وقعَت فيه انحرافاتٌ وتجاوزات، ولكن بقِيَ فيه من حقيقة الدِّين ما أنشأ حضارةً مميَّزة، وحركةً عِلمية فائقة، وتمكنَّا في الأرض في جميعِ المجالات: السياسيَّة والحربيَّة، والعلمية والفكرية، والخُلقيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، ملأ سمعَ الدنيا وبصرَها، ووعاه التاريخ، وعند أوربا في مقابلِ ذلك - باعترافهم - ظُلماتُ القرون الوُسطَى المظلِمة، المرتبطة في حسِّهم بسيطرة رجال الدِّين النصارى، وطغيانهم الرُّوحي والمالي والسياسي، والفكري والعلمي، وفي جميعِ الميادين؛ (تابع محمد قطب، هلم نخرج من ظلمات التيه).
هذه سبعةٌ فقط مِن الفروق التي تجاهلها القس "مايكل يوسف" عندَ مقارنته النصرانيةَ بالإسلام، والتي مِن شأنها أن تُعطي تصوُّرًا أكثرَ وضوحًا، وأكثر عمقًا للفروق بيْن الديانتَيْن.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: