سامر أبو رمان - الأردن
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8613
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
من السهل على المتتبع للعلاقات الفاتيكانية الإسرائيلية، بما فيها من قرارات وسياسات ولقاءات وندوات وحوارات وكلمات وغيرها، أن يدرك ما يشبه الحقيقة السياسية في تهويد المؤسسة الكاثوليكية، والعلاقة الطردية بين الزمن والتنازل والخذلان والخنوع الفاتيكاني للكيان الصهيوني، بدءاً من منتصف القرن العشرين ولغاية الزيارة الأخيرة للمنطقة لبابا الفاتيكان. وقد أتيحت لي الفرصة البحثية من قبل لإثبات ذلك من خلال تحليل العلاقات بين الطرفين، مستخدماً منهج ما يسمى بتحليل القرار السياسي لِما يزيد عن أربعين عاماً من القرارات بين الفاتيكان والكيان الإسرائيلي.
ولكن ما الذي صنع وأثَّر على هذه السياسة الإيجابية الفاتيكانية تجاه إسرائيل؟ وكيف استخدمت دولة الكيان الإسرائيلي هذه الاستراتيجيات في السابق، وفي زيارة بابا الفاتيكان الأخيرة لتحقيق مزيد من هذه المكاسب؟
هناك عدة أسباب اختصت بعضها بقرار معين وفي فترة محددة، وهناك وسائل واستراتيجيات مشتركة وعامة أثَّرت في مسار تلك العلاقة، وهذا ما سنتعرض إليه هنا.
عمدت اليهودية إلى غزو المبادىء الكاثوليكية المتعلقة بإقامة دولة إسرائيل والنظرة الكاثوليكية لليهود؛ فكما هو معلوم أن الكنيسة الكاثوليكية كانت من أشد الطوائف عداءً لليهود، بالاستناد إلى العديد من العقائد، من أبرزها أن الله طرد اليهود من فلسطين عقاباً لهم على (قتل المسيح)، ثم انقلبت هذه الفكرة رأساً على عقب بإعلان البراءة التاريخية لليهود في بداية الستينيات من القرن الماضي، ثم جاء اتفاق الاعتراف والتبادل الدبلوماسي في بداية التسعينيات لتتلاشى جذور هذه العقوبة الإلهية وتصبح نعمة ربانية! وأصبحت النصوص تملأ خطاباتهم للدلالة على هذا الاختراق، فمثلاً في وثيقة الاعتذار البابوي عن المجازر النازية جاء فيها دعوة الكاثوليك “بأن يجددوا معرفتهم بالجذور اليهودية لعقيدتهم المسيحية، وأن يتذكروا بأن المسيح هو أحد أبناء داود، ومن الشعب اليهودي ولدت مريم العذراء والحواريون، وأن اليهود هم بحق الشقيق الأكبر».
وتابع بابا الفاتيكان في زيارته الأخيرة السير على هذا النهج، وتثبيت هذه القرارات المخالفة لأصوله الدينية؛ فمن على جبل نيبو في الأردن أعلن البابا عن هذا الترابط بين اليهودية والمسيحية “غير القابل للكسر”، وتغزَّل بعمق رابطة العلاقات المسيحية اليهودية داخل دولة الكيان الصهيوني. وما تأكيده على حل الدوليتين إلا مزيد من التنازل والتأكيد على قرارات سابقة مثل الاعتراف، والتبادل الدبلوماسي في بداية التسعينيات، التي تعتبر مخالَفة أخرى لإحدى عقائد الكنيسة الكاثوليكية!
كما أن تغيير المسيحية الكاثوليكية لبعض الألفاظ في الشعائر التعبدية ـ كما جرى في صلاة الأحد التي كانت تشير إلى اليهود بأنهم الشعب العاصي ـ دلالة أخرى على هذا الاختراق والتغيير!
ومن ميادين الاختراق أيضا الدخول بالجسم الكاثوليكي والتخريب من الداخل، كما جاء في أحد الخطابات اليهودية، ونقله محمد السماك عن كاثوليك جازيت (مصدر كاثوليكي ): “أمَرْنا عدداً من أبنائنا بالدخول في جسم الكاثوليكية مع تعليمات صريحة بوجوب العمل الدقيق والنشاط الكفيل بتخريب الكنيسة من قبلها، عن طريق اختلاق فضائح داخلية، ونكون بذلك قد عملنا بنصيحة أمير اليهود الذي أوصانا بحكمة بالغة (دعوا أبناءكم يكونون كهنة ورعاة أبرشيات، فيهدمون كنائسهم)».
تعميق الكره الكاثوليكي لليهود
وذلك من خلال مبالغتهم بالحقد والعداء الذي يكنه الكاثوليك لليهود، بسبب تحميل اليهود تعذيب و(قتل المسيح كما يعتقد النصارى)، واضطهاد اليهود للمسيحيين في بداية الدعوة المسيحية، والوقوف ضد نشر المسيحية، وهذه كلها شكلت أسباباً ودوافع لاضطهاد اليهود من قبل المسيحية الغربية الأوروبية.
فما فتيء اليهود يُذَكِّرون بهذا الكره والعداء التاريخي لهم في كل مناسبة، بل ضخَّموه بدرجة كبيرة. وقد ألَّف اليهود تطبيقا لهذه الاستراتيجية – بحسب د.أنيس القاسم – كتاب (مؤامرة على الكنيسة)، تحت اسم مستعار، حيث تضمن هجوماً عنيفاً على اليهود، وقدْراً كبيراً من الشتائم ضدهم، متهماً إياهم بأنهم شياطين، ليوصل الفاتيكان إلى موقف الدفاع عن النفس بإصدار قرارات تنفي هذه التهم، وللحصول على المزيد من التنازلات. والمتابع للإعلام الإسرائيلي قبل وأثناء وبعد الزيارة البابوية الأخيرة يدرك أن هذا الموضوع مايزال حياً في الثقافة اليهودية؛ فهذه أسرة التحرير في صحيفة (هآرت الصهيونية غير راضية عن زيارة البابا، وتستصعب محو ذاكرة ورواسب مئات السنين.
استغلال عقدة الذنب
بالغ اليهود في إبراز اضطهادهم من قبل أوروبا، وخاصة في المجازر النازية؛ حتى يعطف ويشفق عليهم جميع الخلق، ويبقى الضمير العالمي ـ والمسيحي بشكل خاص ـ يؤنب نفسه عليهم. ومع الفاتيكان استخدمت هذه الوسيلة مراراً وتكراراً، وخاصة في اتهام الأب بيوس الثاني عشر بالتقصير إبان المجازر النازية قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، فلم يفتر اليهود عن ذلك بمختلف الطرق، وقد سخروا ميادين كالمسرح والأدب، ودفعوا ملايين الدولارات من أجل ذلك؛ مما اضطر الفاتيكان في كثير من الأحيان إلى الدفاع عن نفسه، كما جاء على لسان مسؤول ديني: «إن البابا كان ضد الديكتاتورية.. ولكنه لم يكن في وضع يخوله حق التدخل الفعلي لمنع التنكيل الجماعي».
وأصدر الفاتيكان قرار الاعتذار البابوي عن هذه المجازر بـ(وثيقة Shoah). ومن يقرأ بعض المقتطفات منها يعجب إلى أي درجة من الضعف والهوان وصلت إليها المؤسسة الكاثوليكية في الدفاع عن النفس أمام اليهود، منها مثلا: «علينا أن لاننسى من ساعد لإنقاذ أكبر عدد من اليهود مُعَرِّضاً حياته لخطر الموت خلال الحرب وبعدها، بما في ذلك البابا بيوس الثاني عشر، الذي فعل ذلك شخصياً أو من خلال الأساقفة والرهبان ورجال الدين». وأيضا الدفاع عن النفس بالتذكير «بأن البابا استقبل لجان ممثلة عن اللاجئين اليهود القادمين من معسكرات الاعتقال في ألمانيا، والذين عبروا عن الشرف العظيم لأنهم تمكنوا من تقديم الشكر شخصياً لقداسة البابا للكرم الذي قدمه لهم عندما كانوا مطاردين خلال الحقبة النازية الفاشية المرعبة»! وبعد كل هذه التسويغات جاء في نهاية الوثيقة: «بعض المسيحيين كانوا، وبسبب ذلك، وللأسف مذنبين»!
وفي هذه الزيارة لم يُفَوِّت الصهاينة فرصة العزف على هذه الوتيرة المملة، واستثمار الأصل الألماني للبابا ومشاركته حين كان شاباً يافعاً في الحرب العالمية الثانية مع كراهيته لذلك! فلاحظنا ما يشبه الإجماع في دولة الكيان الصهيوني بعدم الرضا من مختلف الفئات، وتعبيرهم عن خيبة الأمل كما فعل حاخام النصب التذكاري للمحرقة، وأشار للتلفزيون الإسرائيلي بقوله: «كان هناك شيء مفقود، لم يتم ذكر الألمان أو النازيين الذين شاركوا في المجزرة، ولم تصدر أي كلمة آسف».
استمر الغاصبون الصهاينة بهذه الاستراتيجية بالرغم من تجرؤ بابا الفاتيكان في البت بهذه القضية الحساسة والجدلية تاريخياً وسياسياً، وذكره لرقم ستة ملايين في عدد القتلى اليهود في المجازر النازية، وكأنه يقدم لهم اعتذاراً وتوضيحاً ورفضاً لتشكيك الأسقف (ريتشارد وليامز) الذي أنكر المحرقة برواية ملايين القتلى، وما تبع ذلك قبل أشهر من رفع الحرمان عنه، والذي سادت على إثرها أجواء مشحونة نسبياً بين الطرفين، والذي اعتبره البعض تقويضاً للحوار الكاثوليكي اليهودي. ولكن الآن، ومع خطاب البابا أمام النصب التذكاري، وتأكيده لرقم القتلى، فهو إقرار ما بعده إقرار بميل البابا إلى الكيان الصهيوني، ورواياته المكذوبة أو المبالغ فيها.
وعندما نقارن هذا السلوك اليهودي وهذه الاستراتيجية في استغلال كل المواقف لمصلحتهم السياسية، وبين ردة فعل قومنا، وخاصة كبار المسؤولين، الذين انتقدوا وحاولوا إسكات كل صوت طالب بابا الفاتيكان بالاعتذار عن إساءته للإسلام لتصريحاته في عام 2006، ندرك إلى أي درجة من الذل والهوان وصل إليه هؤلاء العربان المهزومون، الذين حرصوا على عدم تعكير أجواء زيارة البابا وخدش نفسية «قداسته» أو التأثير على ثمار السياحة المرتقبة منها!
الأماكن المقدسة والقدس والرعايا المسيحيون
يرى بعض الباحثين أن مصالح الطائفة الكاثوليكية هي أكثر ما يوجه سياسية الفاتيكان في الشرق الأوسط، والمتتبع لبعض القرارات بين الطرفين يجد أن هذا الموضوع ظل حاضراً فيها، فمثلا في اتفاقية الاعتراف والتبادل الدبوماسي التي وُقِّعت في عام 1998 كان من ضمن محاورها تحديد حقوق الكنيسة في الأراضي المقدسة، فظلت الأماكن المقدسة والقدس والرعايا المسيحيون ورقة ضغط رابحة استخدمها الصهاينة منذ قيام (دولتهم) وحتى الآن، وتزداد أهميتها في ظل تناقص المسيحيين في المنطقة، والذي يدركه الفاتيكان جيدا، وهي قلقة بشأنه، وكذلك قضية القدس، والتي تعد لغاية الآن من القضايا العالقة والخلافية بين الطرفين، ففي حين يطالب الفاتيكان بتدويل القدس، ويصر بشدة على ذلك، نجد الكيان الصهيوني يتقصد دوماً إبعاد الفاتيكان عن أية مفاوضات سياسية فيما يتعلق بها، ويصر على السيطرة الكاملة عليها. وبالرغم من حساسية وجدلية هذا الموضوع، رأينا كيف رحب رئيس بلدية القدس الإسرائيلي نير بركات بالبابا في القدس بقوله: «عاصمة إسرائيل»!
وفي محاولة الكيان الصهيوني تحديد برنامج زيارة البابا لبعض الأماكن، ومنعه من أخرى، واستمرار رفضهم لمنح حقوق لمسيحيين هُجِّروا من ديارهم برغم صدور بعض القرارات القضائية الإسرائيلية، مؤشر من مؤشرات الابتزاز الصهيوني باستخدام هذه الأداة لمزيد من التنازلات والتأثير على المؤسسة الكاثوليكية.
وبعد دراسة اتجاهات العلاقات الفاتيكانية اليهودية، لن نستغرب بل نتوقع أن يتنازل الفاتيكان عن القدس والعديد من الأماكن المسيحية المقدسة لمصلحة الكيان الصهيوني، كما تنازل في قضايا عقائدية من قبل، وخاصة في ظل أفكار تبث من داخل الفاتيكان نفسها على أنه منذ أن سيطرت إسرائيل على الأماكن المقدسة فإن إقامة الحجاج المسيحيين أصبحت أكثر سهولة ومستحبة!
ويمضي الكيان الصهيوني مع المسيحية الكاثوليكية باستخدام هذه الاستراتيجيات في إنتاج مزيد من الدعم والتأييد لمشروعه في السيطرة وبسط نفوذه في المنطقة. وكانت زيارة بابا الفاتيكان الأخيرة فرصة تاريخية أخرى تضاف إلى إنجازات الهيمنة الاستراتيجية الصهيونية على المؤسسة الكاثوليكية بغلاف التسامح واحترام الآخر والحوار بين الأديان والحج المسيحي للأراضي المقدسة.
--------------
ينشر بالتوازي مع صحيفة "النبأ" البحرينية، وشبكة "القلم" الالكترونية
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: