تحليل عمل البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق 1958-1959
(2)
د. ضرغام عبد الله الدباغ - برلين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8338
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
2. المحور الثاني : التعريف بأهم الاتجاهات في الوثائق وتحـليل تلك الاهتمامات
لا شك أن الدبلوماسية البريطانية التي درسنا وثائقها المتعلقة بالعراق على مدى سنة وبضعة أيام اشتملت على 550 وثيقة بدأت في 2تموز 1958وحتى9 / تموز / 1959، اشتملت على موضوعات عديدة وتركزت على :
• المعلومات عن الثورة ورجالها والأنباء عن الأيام الأولى للثورة وتطورات الموقف الداخلي وحتى الشائعات .
• إمكانية إعادة التضام الملكي، والاهتمام برجال العهد الملكي ومصيرهم ومحاولات غير حاسمة من أجل إنقاذهم.
• ردود الفعل العربية وفي المنطقة(تركيا وإيران بصفة خاصة)، وردود فعل القوى العظمى (الاتحاد السوفيتي ـ الولايات المتحدة ـ فرنسا ـ ألمانيا).
• الشؤون الإدارية للسفارة، طبيعة عملها واتصالاتها مع نظام الحكم الجمهوري ورجال الحكم الجديد .
• متعلقات فنية واقتصادية عديدة في العراق.
ومع هذه الاتجاهات، كانت هناك ثمة قضايا اعتبرتها الدبلوماسية البريطانية، والغربية بصفة عامة، نشاطات تقليدية، وهنا لابد أن نسجل أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تعتبر العراق ضمن قطاع عمل واهتمام بريطانيا ونفوذها التقليدي، وإن كانت أعوام ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية قد جلبت سحباً أمريكية إلى العراق على هيئة استثمارات وخبراء وبرامج عمل وحتى تسليح ويدل على ذلك وجود رعايا الولايات المتحدة الأمريكية بعدد يوازي عدد البريطانيين تقريباً (2000) فرد تقريباً، لكننا سنركز في جهدنا على أهم المحاور التي عملت فيها الدبلوماسية البريطانية بصدد العراق وقضاياه الرئيسية .
هيمنت الثورة، أحداثها، رجالها، اتجاهاتها، وبالدرجة الأولى استقرارها السياسي على الاهتمامات الدبلوماسية البريطانية وبالتالي على نشاطاتها بحيث استغرق هذا الأمر الشهر الأول من عمر الثورة تقريباً، لاح فيه لبريطانيا منذ اليوم الأول للثورة، أنها قد تواجه الفشل بسبب من ضعف مفترض، أو مقاومة قد تواجهها من الجيش، أو العشائر أو قطاعات من الشعب. ولما بدا أن هذا الاحتمال بعيد الحدوث، تصاعدت درجة احتمال التدخل الخارجي في اليوم الأول والثاني للثورة، حين أصدرت الأوامر إلى اللواء المظلي البريطاني المتواجد في قبرص بالتهيوء للحركة في أي لحظه للتدخل في الأحداث العراقية. كما أن هذه الفكرة (التدخل الخارجي) يمكن أن تنفذ بالتداخل والإسناد أيضاً مع:
1/ الإسناد المباشر من القوة الجوية الملكية البريطانية في قاعدة الحبانية بالعراق
2/ تدخل سياسي/ عسكري من قبل الأردن ( في استعادة لملامح سيناريو الحرب العراقية ـ
البريطانية أثر حركة مايس/ 1941 حيث يضطلع الملك حسين بدور نائب رئيس الاتحاد
الهاشمي فيتقدم لقمع (التمرد العسكري)، وقد أبدى الملك استـعدادا قـوياً للعـمل بـهذا
الاتجاه.(3)
ولكن هذه الاحتمالات سرعان ما بدأ تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، فقد بدا الأمر كالمثل المعروف (لم تنطبق حسابات الحقل على حسابات البيدر) فالتفاف الجيش والشعب حول الثورة قلص من فرص إيجاد قاعدة يستند عليها التدخل الخارجي، كما أن البريطانيين والغربيين بصفة عامه لم يكونوا كثيري الاهتمام بمصير الاتحاد الهاشمي ولا بطموح الملك حسين، فيما بدا لهم الاندفاع التركي صوب العراق وسوريا ليس سوى أطماع إقليميه متهورة غير قابلة للتحقيق، وقد تؤدي إلى توتير في العلاقات الدولية على حساب معادلات الحرب الباردة، ثم استقر الموقف على هذا الأساس ولكن لفترة وجيزة جداً.
كان الحكام في القيادات العربية (الأردن ـ لبنان ـ ليبيا) بالإضافة إلى موقف تركيا التواقة إلى التدخل كما أسلفنا، تمارس ضغطاً شديداً على بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فقد بدأت هذه الأنظمة العربية تستشعر الخوف غريزياً على مصيرها، وبالهلع من أن تترك وجهاً لوجه أمام شعوبها لتواجه مصائرها المحتومة.
ولكن هذا الشعور لوحده ليس كافياً لإنضاج المواقف البريطانية والأمريكية، بل أن ما دفعهم إلى التحرك فعلاً هو انتشار المد الثوري المعادي للمصالح الغربية في المنطقة كالنار في الهشيم. وكان هناك فعلاً ما يستدعي هذا التصور، فالثورة الشعبية في لبنان كانت على وشك أن تخطو صوب تحولات تكتسب فيها ملامح ثورة قومية، وربما راديكالية واسعة النطاق معادية للغرب أكثر من كونها مجرد صراعات داخلية. وكان الرئيس اللبناني كميل شمعون يواجه صعوبات جمة في السيطرة على الأوضاع، فيما رفض الجيش اللبناني تنفيذ الأوامر بالتصدي للجماهير، لذلك كان الرئيس شمعون يطالب بإلحاح، الإسناد وإنزال قطعات أمريكية في لبنان. كما كان الموقف في الأردن لا يبدو مستقراً وبدا أن الملك يواجه ظروفاً عصيبة، فمن جهة كان الموقف السياسي والعسكري في العراق ماض إلى الاستقرار فيما كان احتمال قيام فعاليات ثورية في الأردن يبعث على القلق والخوف الشديدين. وكان على البريطانيين أن يفعلوا شيئاً يحول دون انتشار مد الثورة وإيقاف التداعي من جهة أخرى، وإرضاء وتطمين الأنظمة الحليفة.
وبالفعل، كان الإنزال الأمريكي، المؤلف من مشاة الأسطول السادس في لبنان يكفي لعدم حدوث تحولات مهمة في مجرى الثورة اللبنانية وتطمين كاف للرئيس شمعون ليشعر بالأمان لحين انتهاء ولايته القريبة على أقل تقدير، وترتيب رئاسة اللواء فؤاد شهاب للجمهورية اللبنانية والخروج بصيغة لا غالب ولا مغلوب، كما أن إنزال قوات مظليين بريطانية في الأردن يمكن أن يؤدي ذات المهمة، فيما تلقت الأسرة الحاكمة السنوسية في ليبيا تطمينات بريطانية وأمريكية كافية من خلال الوجود العسكري المباشر هناك في قاعدتي ويلس الأمريكية وطبرق البريطانية، وبنفس الوقت مثلت إشارة مهمة لبغداد بعدم المضي بعيداً في تحدي الغرب بوجود قوات بريطانية وأمريكية في مواقع غير بعيدة عن العراق.
وبدا أن هذا الموقف: الاستعداد والترقب المشوب بالحذر الذي توصلت إليه الدبلوماسية البريطانية بالتشاور مع الأمريكان، هو أفضل ما يمكن اتخاذه بعد أيام قليلة على الثورة. و كانت الدوائر الدبلوماسية في الدولتين (ونحن هنا بصدد التركيز على الدبلوماسية لبريطانية) من حيث المعطيات المتوفرة بين أيديهم تشجع على مثل هذه الموقف. ولعل أفضل ما توصلوا إليه كان: حسناً، أنهم خسروا العراق ولكن أعدائهم (مصر وعبد الناصرـ والاتحاد السوفيتي) لم يكسبوه بدورهم، وسوف لن ندعهم يكسبوه.
ومضت هذه الآراء والقناعات تتعزز بمرور الوقت على ضوء تطورات الموقف السياسي في العراق، والتحولات في التوازن الدولي. وربما لم يطل الوقت لتدرك البعثة الدبلوماسية البريطانية في العراق، أن خلافاً خفياً يتطور إلى صراعاً علنياً يدور بين قطبي الثورة، العميد الركن عبد الكريم قاسم والعقيد الركن عبد السلام عارف، وأن المسرح السياسي العراقي يعد بالكثير من المفاجئات وأن قائدي الثورة يتعاملان مع القيادات السياسية السائدة، بدرجات متفاوتة من المهارة والحنكة. فقد بدا أن عبد السلام عارف ممثلاَ للتيار القومي الوحدوي الذي كان يهدف في نهاية المطاف إلى أقامه الوحدة مع سوريه ومصر ضمن ج.ع.م بزعامة جمال عبد الناصر. وكان هذا الخيار هو أسوء ما يمكن أن تقبل به الدبلوماسية البريطانية، بل المعسكر الغربي بأسره. ونقطة الخطر في هذا التيار تتمثل في انه يستنهض الأمة العربية كلها بوجه أعدائها واستعادة أجزائها السليبة ومصالحها الاقتصادية المنهوبة، النفطية منها في المقدمة، أو لم يفعل ذلك عبد الناصر في قناة السويس؟..لذلك كان الوقوف ضد هذا التيار ممثلاً بزعيمه المفترض (عبد السلام عارف)، أو بأحزابه وحركاته السياسية وعلى رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي والتيار القومي عامة، هي في مقدمة جدول الأعمال وجوهر الدبلوماسية البريطانية.
وإذا كانت بريطانيا تكن عداءً تقليدياً للشيوعية، فأن الدبلوماسية البريطانية توصلت (وقد أستهلك ذلك منها جهداً ووقتاً طويلاً) إن عبد الكريم قاسم لم يكن منظماً في الحزب الشيوعي العراقي، ولكنه يحاول (بأساليب لا تخلو من الخطأ) أن يبلور تياراً مسانداً له يقف بوجه التيار القومي ـ الناصري ـ البعثي، فوجد في الشيوعيين وعناصر من الحزب الديمقراطي، ومستقلين وانتهازيين، ما يمكن به تشكيل معسكر مساند له ولسياسته.
وفي الواقع، فأن بريطانيا والمعسكر الغربي الاستعماري عموماً، لم يكن ليفضل أياً من الجانبين، القومي أو الشيوعي، فكلاهما شر مستطير بالنسبة إليه، ولكنهم اكتشفوا أن حلول الشيوعية في العراق أمر لا يلوح في المنظور القريب، فالخطر الداهم بالنسبة لهم كان يتمثل بالتيار القومي المتصاعد مهدداً المصالح السياسية والاقتصادية، ويصفي أنظمة حكم متحالفة معهم (ملكيات: مصر ـ العراق) ويقوم بثورات مسلحة بهدف التحرر وتصفية وإبعاد النفوذ الاستعماري في: الجزائرـ اليمن ـ لبنان، ويهدد مصالحهم الاقتصادية بقوه (تأميم قناة السويس ـ التهديد بتأميم النفط)، وإنهاء وجودهم وقواعدهم العسكرية من المنطقة (القواعد البريطانية في السويس ـ عدن في اليمن ـ الشعيبه في البصرة) . فيما بدا وجود العراق في حلف بغداد ومصير قاعدة الحبانيه الجوية الاستراتيجية /غربي الفرات، معلق بخيط واهن.
وثمة أمر آخر، فقد بدا للإنكليز وللغرب عموماً، أن المزيد من الضغط على حركة التحرر القومية سيدفع بها إلى المزيد من الالتحام مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي(4) الذي استطاع أن يجد له موطئ قدم لفعالياته في الوطن العربي من خلال دعم حركة التحرر القومية بوجه الغرب والاستعمار، وهكذا بدا أن الأمر معقد وبحاجة إلى استقراء دقيق لعناصر الموقف وتنفيذ سياسة مرنة.
وبالفعل فأننا نطالع سيلاً من التقارير والمذكرات والبرقيات المتبادلة بين العواصم الغربية وكلها تبحث في الموقف الامثل الذي يضمن مصالحها، كما يوقف التهور والتداعي في المنطقة، لكن دون دفع الأوضاع إلى حافة المواجهات الحادة. فقد كان لابد من تطمين حكام لبنان والأردن وليبيا وبذات الوقت توجيه رسالة إلى حركة التحرر العربية بأنهم سوف لن يسمحوا بالمزيد من الانهيارات. وما حدث في العراق يمكن أن يكون مقبولاً ومفهوماً في هذه الحدود، وما لم يتجاوز بعد الخطوط الحمر.
ولكن ما هي الخطوط الحمر في عرف الدبلوماسية البريطانية والغربية عموماً ؟.. أنها الأهداف الاقتصادية والسياسية، والاستراتيجية بدرجة رئيسية.(5)
*/ الأهداف الاقتصادية
أولى تلك المصابيح الحمراء هي مسألة النفط، وجود الشركات، ضمان الضخ، استقرار الأسعار(حسب القاموس الغربي = البيع الرخيص). ونلاحظ أن هذه الفقرة هي أول ما يحرص عليه المسؤولون البريطانيون في مباحثاتهم مع المسؤولين العراقيين وتستحوذ على الحيز الأكبر من الاهتمام في تقاريرهم.
*/الفعاليات الاقتصادية الأخرى:
ومن تلك مسألة العملة (ارتباط العراق بكتلة الإسترليني) والمدفوعات والمشتروات العراقية، قيام الشركات البريطانية أو الغربية بالمشاريع في العراق.
أن التطمين الذي تلقته الدبلوماسية البريطانية وإن كان بدرجة مقبولة، إذ أن التداخل الكثيف بين السياسة والاقتصاد في عالم اليوم، يجعل من المستحيل انتهاج خط سياسي معين، وسلوك منهج اقتصادي معاكس له. أو لنقل يتناقض معه !. وبالطبع أن البريطانيون يعرفون حق المعرفة أبعاد هذه القواعد، لذلك فأنهم قبلوا على مضض التطمينات العراقية ولكنهم كانوا مدركين أن العراق ماض إن عاجلاً أو آجلا إلى الخروج من حلف بغداد (رغم أنهم كانوا يشجعون الاستمرار فيه) كما أنه سينسحب من كتلة الإسترليني، كما على الأرجح فأنه سوف يتزود بأسلحة من الدول الاشتراكية لأن أعاده تسليح الجيش العراقي بأسلحة حديثة وقوية كانت من أهداف الثورة الرئيسية وذلك ما لم تكن بريطانيا لتفعله حتى مع الحكومة الملكية رغم الارتباط بعضوية حلف بغداد الذي كان مقره وأسمه في بغداد ... !
ومن نافلة الكلام القول أن البريطانيين لاتهمهم الأسماء كثيراً، فما يهمهم هي المصالح وسير العمل ولا شيء غير ذلك، أولم يسبب لهم الملك غازي مشكلات جمة بسبب طموحه الوطني والقومي، أولم تكن نغمة مزعجة لهم تلك التي كان يرددها عبد الإله( الأمير وولي العهد) في ضم سوريا وتوحيدها مع العراق، أولم يكن رجلهم المخلص نوري السعيد غير مقبول عندما طالب بالكويت العراقية..! وحتى صيغة الاتحاد الهاشمي لم يكن الإنكليز راضين عنها أو مبهورين بها ولم يعدونها صيغة مثلى كحلف بغداد للتعاون السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، سواء بين العرب أو بين غيرهم، فهم يفضلون صيغاً تضمن العمل كفريق تحت إشرافهم وإيعازاتهم ضمن حركه يكونون هم ضابطي الإيقاع فيها، يتحرك فيها كل واحد حسب دوره في الخطة. وصيغاً اقتصادية ككتلة الإسترليني، حيث تضمن لنفسها التفوق والهيمنة.
ولكنهم بلا شك كانوا يدركون أن الظروف في العالم قد تغيرت، وستهب الشعوب للدفاع عن مصالحها (وها هي قد هبت فعلاً في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية)، وان عليهم تعود التعامل مع حكام وطنيين وديكتاتوريات عسكرية بدرجات متفاوتة من الصدق في النوايا وفي التوجهات، ومع حكومات لما تتبلور فيها بعد أشكال دستورية تضمن الانتقال السلمي للسلطة، والمستقبل يعد دائماً بالمفاجئات وفي هذه البلدان لا يبقى أمر على حاله طويلاَ، و والتغيرات هي صفة الأحوال، فالصبر مطلوب أذن والتعامل بروية .
وباعتبار أن النفط هو الموضوع الأساسي في الشرق الأوسط ومنها البلاد العربية لذلك كان و ما يزال في مقدمة المصالح البريطانية والغربية في الوطن العربي، لذلك فأن أي موقف في المنطقة لابد أن يأخذ بنظر الاْعتبار إمداد النفط أولا، ثم الأسعار على ضوء المتغيرات السياسية التي جعلت منه سلعه أساسية إستراتيجيته (الأسعار، احتمالات النضوب، تزايد الاعتماد عليه كمصدر أساسي للطاقة). وكانت هذه موضع الاهتمام الرئيس في المحادثات والمشاورات بين بريطانيا والولايات المتحدة. ففي محادثات واشنطن: 17 ـ تموزـ 1958 بين وزيري خارجية أمريكا وبريطانيا توصلا إلى قرار: أن أي انقلاب أو تغير سياسي في المنطقة (في تلك الظروف، كان العراق هو المقصود وما يتأثر به الموقف في الكويت)، فأن على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة للتدخل حتى السعودية، فإذا سيطر ناصر (جمال عبد الناصر والحركة القومية)على السعودية وحقول النفط، فأن الموقف سيكون عسيراً وأنهم سيواجهون شروطاً قاسية لتجهيز النفط. لذلك كان مايكل رايت، السفير البريطاني في العراق يريد ما هو أكثر من التطمين على استمرار ضخ النفط، فقد كان يهتم بالمستقبل وبدرجة أساسية بعدم المساس أو تأميم الصناعات النفطية.(6)
والدبلوماسية البريطانية وإن تأكدت أن النظام الثوري الجديد لا يريد لاستبدال هيمنة بأخرى مؤكداً بذلك استقلالية القرار السياسي العراقي ولكنه بالمقابل، فأنه سوف يتجه حيث يجد له مصلحة في ذلك، دون أن يبالي أن كانت مصلحته شرقاً أو غرباً وتلك لم تكن من توجهات من النظام الملكي الذي كان ملتصقاَ بالغرب رغم كل شيء. كما أنهم (البريطانيون والغربيون) بدءوا يسمعون ما يدل على الحرص على الأموال العراقية من النفط وعن انحياز الغرب لإسرائيل وقمع فرنسا للجزائر.
وقبل أن يمضي شهر واحد على الثورة (كانت بريطانيا قد اعترفت بالنظام الجمهوري في 30 تموز، والولايات المتحدة في 2 آب)، حتى كانت الرؤية والمواقف قد أصبحت واقعية، بل وأخذت تبحث وتجد حتى الثغرات في النظام الملكي الزائل. (7)
وعلى الرغم أن قيادة الثورة والحكومة العراقية لم تصرح بشيء من خططها المستقبلية بصدد النفط، إلا أن تلميحات غير رسمية كانت كافية لتجعل الدبلوماسية البريطانية تتنبأ بحدوث مشكلات أو أزمات، أو ما أطلقت عليه في حينه (ترتيبات جديده) وفي هذا التقرير الشامل المطول الذي يحتوي على تسعة فقرات ويحمل توقيع السفير، أحتل النفط والموضوعات الاقتصادية على سبعة فقرات منه، في إشارة واضحة على أن النفط كان الموضوع الأهم في العلاقات البريطانية ـ العراقية، وسيكون الواجب الأهم للدبلوماسية البريطانية وفعالياتها في العراق.
وفي23 / تموز، كانت قد تبلورت في الدبلوماسية البريطانية العاملة إمكانية حضور العراق اجتماع حلف بغداد وما يلي نصاً: (لا تتضمن فكرتنا إغلاق الباب أمام العراقيين، وعلى العكس من ذلك، ينبغي جعل الباب مفتوحاً أمامهم للمستقبل، وحتى أننا لا نريد إلغاء الميثاق، وبوصفنا للاجتماع بكونه اجتماعا لرؤساء حكومات بعض أقطار ميثاق بغداد بالاشتراك مع وزارة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، ينبغي ترك مسألة العراق في المستقبل مفتوحة بدرجة واسعة).(8)
ومما يستحق الملاحظة، أننا نشاهد تصاعد وجهات النظر من واقعية وصواب، فهناك إشارات واضحة من أجهزة بريطانية حساسة مثل الاستخبارات العسكرية البريطانية (لاحظ وثيقة برقم 133068 /ص:55 الجزء الثاني) تشير إلى إخلاص الضباط العراقيين لوطنهم وشعبهم والى أخطاء بريطانية في الإجراءات، بل أن عميد الدبلوماسية البريطانية في العراق (السفير) يكتب تقريرا إلى رئيس الوزراء البريطاني (وكان هارولد ماكميلان) (وثيقة رقم /2371/في 18/آب/1958 ص:57 الجزء الثاني)عن فحوى مقابلته لوزير الخارجية العراقي الجديد (د.عبد الجبار الجومرد) وأنه قد بدا متأثراً من دعوة الجومرد للاستفادة من دروس التأريخ، عندما قال له الوزير العراقي: (أن الثقة هي حالة عقلية متبادلة، فإذا كانت نوايا بريطانيا ودية، فأن من الطبيعي أن يكون رد فعل العراق مماثلأ ). وسرعان ما عبر وزير الخارجية البريطاني (سلوين لويد) عن رغبته بسحب القوات البريطانية من الأردن بسرعة واستئناف العلاقات على أوسعها مختتماً تقريره بجملة معبرة أخيرة (وأنني أعتقد أن من الأحسن أن نذيب الجليد بيننا) وكل ذلك بعد شهر وأربعة أيام فقط على قيام ثورة الرابع عشر من تموز.
وبالفعل، فأن الدبلوماسية البريطانية ويشاركها الرأي الشركات النفط البريطانية، كانــت في
27-8-1958 على بينة من الموقف الحالي واحتمالات المستقبل. فقد كان هريج Herridg، رئيس شركة نفط العراق في زيارة إلى حقول النفط في الموصل والبصرة وكركوك، وكان قد قابل رئيس الوزراء (قاسم) ووزيري الاقتصاد والمالية (إبراهيم كبة ومحمد حديد) وأدلى بانطباعاته في تقرير شامل.(9)
وخلاصة هذا التقرير التفصيلي المهم، أن الموقف ما زال محتملاً وتحـت السـيطرة، إلا أن
العراقيين يثيرون تساؤلات مثيره، ويناقشون في الأرباح والعوائد بتفصيل أكثر، وطلباتهم قوية حول استثمارات وطنية في مجال النفط وليست خجولة ومترددة كما كانت في العهد الملكي ويريد العراقيون مساهمة أكبر للعناصر العراقية في فعاليات الشركة ويتنبأ هريج مبكراً (ويا للدهشة أن يفعل ذلك رجل أعمال وليس دبلوماسي ..!) إن العراق سيقوم ذات يوم بتأسيس شركة وطنية لاستخراج النفط أو بتأميم الصناعة النفطية.
وبعد يوم واحد من هذا التقرير المتشائم، تلقت شركة نفط العراق طلباً تحريرياً من الحكومة العراقية بالتنازل عن امتياز التنقيب في المياه الإقليمية العراقية، كما تلقوا مقترحات عراقية بتطوير إنتاجهم وتصديره عبر سوريا إلى البحر الأبيض المتوسط، وهكذا كانت ساعة النفط العراقي قد دقت مؤذنة بعودته إلى أهلة بعد أيام وجيزة من ثورة الرابع عشر من تموز، صراعاً ماراثونياً سوف يتكلل بالتأميم الكامل الشامل وبنصر كبير على الاحتكارات في حزيران /1972 .
على أننا نلاحظ في سياق التقارير السياسية والدبلوماسية، أن الهواجس الاقتصادية (عدا النفطية) حاضرة أيضاَ بنسبة كبيرة، سواء كانت متعلقة ببقاء العراق في كتلة الإسترليني، أو الأرصدة العراقية، أو المشاريع الاقتصادية (من المحتمل ترك منطقة الإسترليني، ما لم توافق الحكومة البريطانية على زيادة مطالب العراق من العملات الأجنبية). وكانت الساحة العراقية قد بدأت تشهد تنافساً من شركات الدول الاشتراكية وغيرها، فلم تعد بريطانيا (بصفة خاصة) تنال حصة الأسد من الاستثمارات العراقية.
* /الأهداف السياسية:
والغريب المثير في الأمر، هو حرص بريطانيا أو الغرب عامة على استغلال أي فرصة في العراق وفي البلاد العربية، سياسياً واقتصاديا وعسكرياً. ومع معرفتهم بالإمكانات التي تزخر بها البلاد العربية، فأنهم بالمقابل، كانوا (وما زالوا) لا يترددون لحظة في دعم أعداء العرب لا سيما الكيان الصهيوني، مع علمهم الأكيد أن هذه هي نقطة الضعف في السياسة الغربية وهي سبب تراجع مكانتهم في البلاد العربية، بل ويبدو حتى المطالبة بوقوفهم موقف الحياد بينهم وبين الكيان الصهيوني، يبدو بعيد المنال. فالانحياز كامل وهو موقف يستحق الدراسة والتمعن!…
وسرعان ما بدأت ثورة الرابع عشر من تموز تستقر وهي تفرز وتبلور مستجدات، وكان الإنكليز والأمريكان مستعدون للتعامل مع غموض عبد الكريم قاسم النسبي على قبول التحديات التي يطرحها التيار القومي: وحده عربية، تأميم للنفط واستثمارات، تثوير للطاقات العراقية والعربية، مساندة الثورات العربية المعادية للاستعمار……الخ.
وكان على الدبلوماسية البريطانية أن تتعامل مع هذا الواقع الموضوعي (الجديد)، بمعنى الجديد الذي لم تعتد عليه في العراق منذ احتلالها في الحرب العالمية الأولى وحتى ثورة الرابع عشر من تموز، ولا بد من الاعتراف أن الدبلوماسية البريطانية قد نجحت في التأقلم والتكيف مع الأجواء الجديدة في العاصمة العراقية، وبدأت تتعامل مع مفرداتها فهي تستخدم الدهاء حيناً والخبث وسياسة النفاق وإثارة التناقضات الثانوية حيناً آخر، تمهيداً لان تحتل لنفسها موقعاً في عقل وقلب القائد العسكري/السياسي عبد الكريم قاسم، وهي في ذلك تحاول أن ضمن سياستها أن تستبعد خياران أحلاهما مر:
الأول/ أن ينضم العراق إلى ج.ع.م ليساهم في رفد مسيرة الثورة العربية الوحدوية.
الثاني/ أن يحصل الشيوعيون على مكانة متقدمة في العراق وبالتالي سـيكون موقـعاً لنفوذ
الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي.
وبعد أن تأكدت الدبلوماسية البريطانية والأمريكية، بأن عبد الكريم قاسم (بعد أن نجح في أبعاد الخط القومي في ثورة تموز) سوف لن يتقارب مع ج.ع.م كما أنه سوف لن يقدم على تأميم النفط، باشروا بتأييده. وقد عبر مبعوث الأمريكي (أيزنهاور) روبرت مورفي عن ذلك في إحدى تقاريره مختصراً الموقف بقوله (أنني أستطيع أن أجد في عبد الكريم قاسم منافساً لناصر أكثر مما أرى فيه صديقاً له، وإن الوحدة بعيدة المنال والنفط بأمان وإن التعامل مع السوفيت ناجم عن الشعور بالعزلة).(10)
ومن المؤكد أن دور الدبلوماسية البريطانية لم يكن غائباً عن هوامش الأصطراع الداخلي، فقد كانت اتصالاتهم برجال الحكم وخلق العديد من التصورات والإيحاءات لديهم وأحداث الضغوط، فقد كان على سبيل المثال واضحاً إلى أقصى حد دفع الدبلوماسية البريطانية والأمريكية التناقض بين اتجاهات الثورة. وتجسيم مخاوف وأوهام، وتغليب الاتجاهات الجانبية والفرديه والتناقضات الثانوية على حساب التناقضات الجوهرية، وكل هذا يدور من أجل أيجاد موطئ قدم للتدخل في السياسة العراقية الداخلية وتصعيد للمشكلات الداخلية وإقحامها في الثورة مما لا يدع الفرصة والمجال للنظام السياسي وللحكومة الانصراف إلى المشكلات الأكبر، وإبقائها في حالة قلق مما يسهل التدخل في الشؤون الداخلية، وحرف مـسارات تطوير الاقتصاد الوطني والتخطيط من أجل إبقاء الاقتصاد العراقي في حالة التبعية لها. فقد كان واضحاً ولا سيما في الخمسينات والستينات، أن بلدان الكتلة الاشتراكية، رغم دخولها الميدان كشريك تجاري، إلا أنها لم تكن في وارد النهوض بكافة الاحتياجات العراقية أو العربية، فالحاجة إلى الغرب سواء كمجهز للسلع الجاهزة أو كاستيراد للتكنولوجيا سيبقى قائماَ، ويجب أن تتعمق وتتطور بتطور قدرة السيولة النقدية المتوفرة لدى العراق انطلاقاً من مصادر ثروته الطبيعية، وإن الإبقاء على التبعية الاقتصادية هي من أولى مستلزمات الإبقاء على التبعية السياسية.
هكذا صاغت الدبلوماسية البريطانية أولى حلقات أنشطتها في العراق على أساس أن ما حصل هو أمر واقع وعليهم التعامل مع هذا الأمر الواقع، بواقعية طبعاً، وليس بأحلام ما قبل صبيحة الرابع عشر من تموز.
أما على الصعيد السياسي، فقد استقرت الدبلوماسية لبريطانية على قاعدة عمل اعتبرتها (رصينة)، وهي إثارة تناحرات وتناقضات بين اتجاهات الثورة الوطنية، بل والسعي الحثيث لخلق المزيد منها، وأحياء ما قد اندثر منها. فقد بدا للدبلوماسية البريطانية بعد فترة قصيرة من الثورة، أن الاتجاهات القومية الوحدوية هي خطر بقدر الشيوعية، بل وأكثر من ذلك، وهذا ما يجسده تقرير عميد الدبلوماسية البريطانية في العراق (السفير) إلى مركز الوزارة بلندن: (إن سياسة الاحتفاظ بقاسم هي من مصلحة الغرب) و(أن مصلحتنا هي ضمان بقاء العراق مستقلاً عن ج.ع.م وعن الشيوعية وهو (قاسم) في الوقت الذي يستند فيه إلى الشيوعية، يتخذ إجراءات مضادة ل ج.ع.م، ويدعم عناصر معتدلة في الجيش، وإذا سقط عبد الكريم قاسم، فأن احتمالا كبيرا بأن يخلفه نظام متطرف).(11)
وقد لاحظنا إيحاءات وإيماءات من الدبلوماسية البريطانية لعبد الكريم قاسم بان أبعاده لعبد السلام عارف سوف يصب في مصلحته، وهو عمل سيلقى المساندة من الغرب وبريطانيا و أمريكا تحديداً، ثم إننا نلاحظ مرة أخرى أن السفير البريطاني يحرض عبد الكريم قاسم على إعدام الضباط القوميين(رغم أنها كانت غلطة دفع الزعيم قاسم ثمنها باهضاً)، ولكنه يطلب الرحمة لعناصر النظام الملكي.(12)
وباختصار كانت أهداف الدبلوماسية البريطانية في العراق قائمة على أساس المعطيات الجديدة ولا بد من الاعتراف بأنهم تمكنوا من إجراء تحويرات ناجحة في أساليبهم السياسية لتتلاءم مع الظروف والمعطيات الجديدة، ولكنها ظلت تحتفظ بذات الجوهر السياسي القديم في السعي نحو الهيمنة ونهب المزيد من الأرباح دون الاكتراث لأي هدف عدا مصالحهم التوسعية.
ومن الوسائل الخبيثة التي اتبعوها في العراق (كما في أماكن أخرى) العزف على الأوتار الطائفية، وتلك مفارقة لابد من رصدها بدقة. وفي الواقع لم نجد عبر دراساتنا السياسية / التاريخية، صديقاً أو محباً لبلادنا وشعبنا يحاول إثارة مثل هذه النعرات، بل على العكس، فالصديق يحاول تشجيع اتجاهات الوحدة الوطنية والتأكيد على همومنا ومعاركنا المشتركة، ومصالحنا وأهدافنا الواحدة. ولكن بالمقابل كان ولا يزال كل مستعمر أجنبي غير محب لبلادنا وشعبنا، لا مصلحة له في مواجهة العراق واحداً متوحداً، يحاول من جهة إثارة تناقضات ثانوية وسطحية وكذلك التأكيد على إثارة العنصريات، والى كل ما من شأنه تمزيق النسيج السياسي / الاجتماعي / الثقافي للشعب والبلاد، وهذا بالضبط ما نلاحظه بوضوح ظاهر في كافة الوثائق البريطانية على امتداد الأجزاء الثلاثة.(550 وثيقة-1117صفحة)
وإذا كانت أحلام الدبلوماسية البريطانية خاصة بأحياء فكرة الأحلاف قد اندثرت وتلاشت، بسبب شعورهم الأكيد بأن تكتيل هذه الدول باتجاه أهداف موهومة هو أمر لا يخدم مصالح ليس العراق والبلاد العربية فحسب، بل وحتى شعوب المنطقة بأسرها. فبعد انسحاب العراق الرسمي من حلف بغداد (مطلع1959 ) وتحول أسمه إلى حلف المعاهدة المركزية CENTO ومقترحات في أحياء فكرة ما يسمى بالنطاق الشمالي THE NOTHERN TIER ولكن كل ذلك لم يطل كثيراً فسرعان ما لفظ الحلف (السنتو) أنفاسه الأخيرة بعد أن فقد مغزاه الرئيسي من وجود العراق ضمن أعضاؤه. ولم يعد الحديث عن معاهدات عسكرية واردا، أو على الأقل بسحب الدول العربية إليه، بل كان قد غدا معلوماً أن انضمام أي دوله عربية إلى أي معاهده عسكرية أجنبية بقيادة الدول الاستعمارية مجازفة كبيرة لا تحمد عقباها. وعلى هذا الأساس أحجمت حتى حكومات دول صديقه لبريطانيا وأمريكا في المنطقة من دخول مغامرات كهذه، ولكن ..!
ومن المؤكد أن الدبلوماسية البريطانية والأمريكية سوف لن تكف عن محاولاتها للتوصل إلى أهدافها بوسائل شتى. والأهداف الواضحة المعلنة هي: مكافحة حركة التحرر العربية و محاصرة الاتحاد السوفيتي ومنعه من إقامة صلات سياسية / اقتصادية في الوطن العربي والشرق الأوسط عامه، حيال الأنظمة العميلة المتواطئة مع الاستعمار وضمان حماية أمن الكيان الصهيوني، وقد كانت هذه الأهداف قديماً وحديثاً هي عماد السياسة الاستعمارية في المنطقة، بل في العالم بأسره.
والدبلوماسية البريطانية تعلم علم اليقين أن سياستها هذه تناقض مصالح شعوب المنطقة: العراق، الدول العربية والدول الأخرى(إيران ـ باكستان وغيرهما) وبدقه أكبر، تعلم أن انحيازها ودعمها للكيان الصهيوني، إنما هي سياسة بغيضة عامة وغير مقبولة حتى لدى الحكام المتواطئين معها الذين يقبلونها على مضض، وتلك مسألة مؤشرة في كافة المراسلات الدبلوماسية بصدد الموضوع دون استثناء، وكانت المؤامرات وإثارة الدسائس بين الدول العربية وغيرها من دول المنطقة، وبين الدول العربية نفسها وداخل المجتمعات العربية هو الأمر الشاغل للجهاز الدبلوماسي اليومي. فنجد أسماء لشخصيات عراقية كثيرة جداً، بعضها يتردد عشرات أو مئات المرات. ودرجة قبولهم لهذه الشخصية أو تلك، هو بمقدار قبولها الخط
السياسي/ الدبلوماسي البريطاني، وعلى قدر التقاء المصالح، فقد بدت لهم بعض الشخصيات العراقية مقبولة لأنها لم تكن وحدوية الاتجاه بعمق، ودرجة قبولهم أو سخطهم هو بهذا المقياس، ولكننا لم نلمس ولا مره واحدة قبولهم لشخصيات بعثية أو شيوعية أو قومية، أو وطنية.
بل هم تستخدم الدبلوماسية البريطانية مصطلح (وطني متطرف). وعلى سبيل المثال، نجدهم على مدى صفحات ينشغلون بشخصية الوزير إبراهيم كبة، وقد عانى الدبلوماسي البريطاني المتابع لهذه الأخبار في السفارة البريطانية العذاب في معرفة ما إذا كان السيد كبة منظماً إلى الحزب الشيوعي أم لا، وكذلك شخصية عبد الكريم قاسم. كما تردد كثيراً أسم فؤاد الركابي(أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي)على أساس أنه بعثي وقومي متعصب، وكذلك شخصية الضابط القومي (الحر) اللواء الركن ناجي طالب (الوزير ورئيس الوزراء لاحقاً) بوصفهم قوميين لا يلتقون مع مصالح الغرب مطلقاً، وأسماء كثيرة أخرى لسياسيين وضباط من الجيش العراقي، وأنه لمما يسعد المرء ملاحظة إدراكهم التام وطنية الجيش العراقي وقادته، وإن معظم ضباطه مخلصون للعراق والأمة العربية.
ورغم أن الدبلوماسية البريطانية كانت تمارس وبسعي حثيث، محاولة ( احتواء ) العراق (منع اشتداد التوجه القومي أو الشيوعي ) ومعرفتهم أن الحكومة العراقية سوف تتجه إلى شراء الأسلحة من المعسكر الاشتراكي، لأن تسليح الجيش العراقي كان من أهداف الثورة المعلنة، وقد أبدى الغرب استعدادا لتسليح الجيش، ولكن ضمن هذا الهدف: أبعاده عن المعسكر الاشتراكي وبسلاح لا يكفي لمواجهة الكيان الصهيوني أو حتى التوازن معه. ومن المدهش القول أن هذه السياسة كانت متبعة حتى مع الحكومة العراقية الملكية !.
ويمتعض القادة والسياسيون في الغرب (بريطانيا وأمريكا خاصة) من طلبات التسلح العراقية والعربية. ونجد مثال على ذلك في مفاوضات وفد سياسي/عسكري عراقي يرأسه الملك فيصل الثاني، بحديث فظ خال من التهذيب لوزير الخارجية الأمريكية(جون فوستر دلاس) حيال طلب سلاح عراقي(13) مع أن العراق كان ضمن حلف بغداد، بوقاحة تشبه وقاحة الرئيس الأمريكي بيل كلنتون في خطابه إلى الرئيس حسني مبارك، رئيس جمهورية مصر العربية.(14)
ونلاحظ اهتماما محموماً مدهشا حيال تشكيل العراق للفرقة الخامسة من جيشه في مطلع عام1959، فنراهم يهتمون بتفاصيل عن تسليحه وقدراته وتعداده وعناصره، من الضباط خاصة، ثم عن قائد هذه الفرقة، معلومات عن شخصية هذا الضابط وتأريخه. ودبت الراحة في نفوسهم قليلاً عندما علموا أنه ليس من العنصر القومية الوحدوية، ثم أنه ليس بشيوعي، ولكنهم علموا أنه ضابط محترف كفء، فابتدأ القلق هذه المرة صوب الكيان الصهيوني الذي سيواجه فرقة عراقية جديدة..! وبقائد كفء.
ولكن إذا شئنا، في قراءة إجمالية وتحليل لمجموع الوثائق الدبلوماسية البريطانية، وهي تمتد لعام واحد فقط1958-1959 ، فهناك حقاً نتائج تستحق التأمل. ونعترف أننا قد ازددنا عمقا وثقافة بقراءة هذه الوثائق، وكم هو رائع الجهد المبذول فيها، وأدركنا عظم النتائج الكبيرة لنضال الحركة الثورية العربية التي انطلقت منذ الأربعينات، عارمة وحققت نتائج كبيرة ينبغي أن نقدرها حق قدرها، وقد علمنا ما أحدثت من قلق وذعر ويأس في صفوف من تزعجه التقدم والتطور العربي، وفي الوقت نفسه ندرك معنى هذه الفعاليات المعادية للامه العربية، والى ما تهدف والضربات التي توجه إلى نقاط معينه، والى بؤر الثورة والتقدم في جـسد الأمة العربية. نقدرها دون استصغار، بأنها يائسة، وأنها استخدام فظ وهمجي للقوة ليس إلا. فبعدما كان الهدف وضع الأقطار العربية كحلقات في استراتيجية استعمارية: أصبح الآن محاولات يائسة محكوم عليها بالفشل في التصدي لمشروع الآمة في النهوض وتكوين قوة سياسية / اقتصادية عالمية، وتخطي مشكلات التنمية وإزالة عقبات التقدم من أمامها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: